خاص - النقار
في أحدث بياناتها قالت وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات بصنعاء إنها تعمل برؤية وطنية واستراتيجية وستستمر في بناء شراكات إقليمية ودولية، لتفتح باب النقاش حول هذه "الرؤية" في البلاد التي لم تصلها حتى رسالة بريد واحدة منذ العام 2016.
لتسليط الضوء على طبيعة هذه "الرؤية الوطنية والاستراتيجية"، يبدأ الحديث -على عجالة- بالإشارة إلى أن سلطة أنصار الله أحكمت قبضتها على قطاع الاتصالات المتمركز بصنعاء وهو ثاني أكبر مصدر للإيرادات المالية والعملات الأجنبية في البلاد، بعد قطاع النفط والغاز، وذلك أتاح لسلطة الجماعة الهيمنة على معظم إيرادات الإتصالات، واستغلال القطاع استخباراتيًا.
أثناء الحرب عملت أنصار الله على توسعة الاتصالات في مناطقها لتلبية الطلب المتزايد على خدمات الهاتف المحمول والإنترنت، وبالتالي مضاعفة الإيرادات الضريبية المترتبة من القطاع، واستفادت أيضًا من عجز حكومة عدن عن تلبية الطلب في السوق بمناطقها والتي لم تشهد خروجًا عن سيطرة "صنعاء" إلا عبر بوابة وحيدة وحُكم عليها بالفشل هي "عدن نت".
مع استثمار الجماعة مركز التحكم في الاتصالات من صنعاء، فشلت حكومة عدن في استعادة القطاع ومؤسساته وشركاته الرئيسية، بل وتورّطت "الشرعية" في إتاحة المجال لهيمنة أنصار الله على الكابل البحري الدولي (AAE-1) مما تسبب في خسائر قدرها 58 مليون دولار على أقل تقدير؛ فبعد إنجاز هذا الكابل عام 2017 وربطه إلى عدن، قامت وزارة الاتصالات بحكومة معين عبدالملك باستقدام مهندسين من صنعاء لتشغيل الكابل، وحال عودتهم إلى صنعاء قاموا بتشفير الكابل وتعطيله لتؤول السيطرة عليه إلى الجماعة منذ ذلك الوقت.
وحول عوائد قطاع الاتصالات، تشير بيانات متاحة إلى أكثر من 150 مليون دولار سنويًا. وبحسب مؤسسة الاتصالات فقد زادت قيمة إيرادات الاتصالات لعام 2022 عن 165 مليار ريال. رغم ذلك لا يزال القطاع الإيرادي متردي الخدمات بشهادة وشكاوى المستخدمين، سواء خدمات الإنترنت، أو خدمات الهاتف المحمول.
الإنترنت، مثلًا، يضع اليمن في صدارة قائمة أكثر دول العالم سوءًا من حيث جودة الإنترنت، نظرًا للسرعة المنخفضة بشدة وانخفاض سعة النطاق الترددي المتاحة للمستخدمين، مع ذلك تظل الأسعار مرتفعة بما لا يناسب الخدمة المقدمة.
وفي 2019 تصدرت اليمن ثاني أغلى دولة عربية في أسعار الإنترنت، وأبطأ دولة في العالم من حيث السرعة التي كانت ولا تزال محل سخرية المستخدمين اليمنيين منذ نشأة علاقتهم بعالم الإنترنت. وفي 2020 صنَّف موقع "كابل" لقياس سرعات الإنترنت، اليمن في ذيل قائمة دول العالم من حيث سرعة الإنترنت بسرعة 4.39 ميغابت، في ظل ارتفاع أسعار الباقات وانتهاء الرصيد خلال وقت وجيز مع تردي السرعة طوال الاستخدام.
وعلى الرغم من إطلاق خدمات الجيل الرابع من الهاتف الجوال (4G) في اليمن في العام الماضي، إلا أنها لا تزال محل انتقاد العديد من المستخدمين كونها لم تساهم في تحسين خدمة الإنترنت بالشكل المطلوب، فضلًا عن تكاليفها المرتفعة، كما تدهورت خدمة الإنترنت الأرضي منذ إطلاق الجيل الرابع وظهور "مودم الفورجي" النقال.
عمليات التجسس.. الاتصالات جزء من المعركة
لأغراض عسكرية استخدمت سلطة أنصار الله أجهزة الاتصالات، مستغلةً وصولها إلى قيادات عسكرية ومدنية يمنية لتصفيتها، وكذا التجسس على مكالمات ومراسلات المواطنين.
وصول أنصار الله إلى صناعة الاتصالات مكّن الجماعة من قطع الإنترنت ومراقبة الاتصالات والرسائل الصوتية والنصية، وهو ما شكل ورقة رابحة ضد خصوم الجماعة من الأطراف الأخرى خلال الحرب، وضد الناشطين والصحافيين وغيرهم من مناهضي سلطة الجماعة وسياساتها، وتتم عمليات التجسس والمراقبة دون إذن قضائي أو اعتبار للقوانين النافذة في البلاد.
كما تتصنَّت الجماعة على أفراد تابعين لها، بمن فيهم القيادات والأفراد الناشطين في الجماعة، عبر ما يُسمونه "الأمن الوقائي" المشكل من دمج جهازي الأمن القومي والسياسي، وهو أشبه بالتجربة الأمنية الإيرانية المتمثلة في جهاز "فافاك" الاستخباراتي.
ووفق تقرير صادر للجنة الخبراء التابعة للأمم المتحدة في العام 2021، فقد استخدمت أنصار الله الاتصالات للتجسس ولأغراض عسكرية قتالية، وبهذا الخصوص سجَّلت منظمة ريكوردد فيوتشر (Recorded Future) المعنية برصد الاستخدام الأخلاقي للاتصالات، أكثر من 937 ثغرة رقمية في قطاع الاتصالات عمومًا.
وفي السياق عملت أنصار الله على خصخصة قطاع الاتصالات بما يسهل عملياتها المالية والاستخباراتية، وسبق واتُّهمت سلطة صنعاء من قبل سلطة عدن بخصخصة إيرادات حكومية خلال العامين 2022 و2023 قدرها أربعة تريليونات و620 مليار ريال، في قطاعات أبرزها الاتصالات.
الخصخصة طالت حتى أكبر معهد اتصالات حكومي في صنعاء، هو معهد الاتصالات العام الكائن بشارع التلفزيون بمديرية الثورة، حتى قامت الجماعة بإلغاء التسمية الرسمية له وإطلاق اسم "مدينة الصماد الرقمية" على المقر الذي لا يتعدى مبنى المعهد والحوش المحيط به، إضافة إلى مساعي خصخصة المؤسسة العامة للاتصالات.
فساد بالمليارات ولامبالاة بالقانون
ميدان الاتصالات أكثر الميادين الاقتصادية ربحية وجنيًا للأموال واستغلالًا عبر عمليات الإثراء لقيادات السلطة الحالية، وتُعد شركة الاتصالات "يمن موبايل" أقرب الأمثلة بالتزامن مع تردّي خدماتها التي يكرر المستخدمون استياءهم منها، والسيطرة على معظم مفاصلها لصالح متنفذي جماعة أنصار الله، حيث تشكل حصة الحكومة في الشركة 50%، إلى جانب 15% حصة صناديق التقاعد الحكومية، وهي حصص تستحوذ عليها الجماعة.
الأمر لا يتعلق فقط بـ"سوء التغطية" أو ارتفاع أسعار خدمات هذه الشركة، بل يتعدى مليارات الريالات من عائدات الشركة المستولى عليها من طرف الجماعة، واستبعاد موظفين ومتخصصين من وظائفهم بالشركة وأقسامها وإبدالهم بأشخاص تابعين للجماعة، وهو ما أتاح لهم التغلغل في الشركة وابتزاز مساهميها والاستحواذ على الملايين يوميًا وكذلك أرباح المساهمين، تحت مسميات مختلفة مثل المجهود الحربي الذي يستمر حتى اليوم، و"حق سبيل الله"، والإسهام في جمعيات وجهات مُدارة من قبل قيادات حوثية "أبرزهم وزير داخلية صنعاء عبدالكريم الحوثي ومدير مكتب الرئاسة أحمد حامد"، وفي مشاريع مختلفة تابعة لهم أقرب إلى أن تكون وهمية.
وتجني "يمن موبايل" دخلًا يوميًا لا يقل عن 2 مليون دولار، لتكون بذلك من أكبر الشركات دخلًا في اليمن، ويتجاوز مشتركوها عدد 12 مليون مشترك، ويديرها في الوقت الراهن القيادي في الجماعة رئيس مجلس الإدارة "عصام الحملي" الممثل عن المؤسسة العامة للاتصالات والحاصل حديثًا على ماجستير في الإدارة في 2021، ونائبه المهندس "أمين الحرثي".
ولتمرير مصالح الجماعة وإرساء المناقصات على الشركات التابعة لها، قامت الجماعة بتجديد إدارة "الحملي" في 2022 لفترة جديدة بالمخالفة للائحة الداخلية لشركة يمن موبايل والتي راجعتها "النقار" وتنص على عدم جواز التجديد للعضو في مجلس الإدارة إلا لفترة واحدة فقط. وكان الحملي مدير عام فرع مؤسسة الاتصالات بمحافظة "صعدة" منذ العام 2012 حتى 2018.
وفي قطاع الاتصالات يُطرح اسم قيادي حوثي ليس موظفًا في الشركة هو "محمد الشهاري"، المتنفذ الذي يقوم بعمليات شراء مباشرة تفوق قيمتها مليوني دولار سنويًا دون تمريرها على إدارة المشتريات، ويُذكر أنه صهر رئيس الشركة عصام الحملي الذي يقوم بدوره بتسهيلات لكبار القيادات للهيمنة على الإيرادات وتوجيه مخصصات "المشاريع الخيرية" إلى صعدة.
أما المساهمون في الشركة فمغلوب على أمرهم كما تؤكد مصادر "النقار"، إذ ليس بمقدورهم مساءلة قيادات أنصار الله أو إيقاف هيمنتهم على الإيرادات.
وتقول المصادر إن البعض من المساهمين قبل سنوات قليلة حاولوا الاعتراض في مجلس الإدارة على الوضع المالي العام في الشركة، لكن عندما تم إخضاعهم للأمر الواقع اضطر عدد قليل منهم الانسحاب من الشركة، فيما أُجبر البعض الآخر على تمرير حساب الشركة الختامي سنويًا والتوقيع عليه لكبح كل أشكال المساءلة.
يُشار أيضًا إلى أن كفاءات من المهندسين تم تسريحهم من الشركة على يد الحملي ومتنفذين آخرين، فضلًا عن كون مرتبات الموظفين متدنية بالمقارنة مع الأوضاع المعيشية الصعبة وارتفاع الأسعار، ولا تقارن مع مرتبات موظفي شركات الاتصالات الخاصة الأخرى.
ومن سخرية الأقدار أن ملفات الفساد التي تشوب قطاع الاتصالات لم تُثن وزارة الاتصالات عن الحديث حول "رؤية وطنية" فقط، بل إنها دشنت مع هيئة مكافحة الفساد في يوليو الماضي برنامجًا وُصف بأنه برنامج توعوي وتثقيفي شامل لـ"ترسيخ النزاهة ومكافحة الفساد والوقاية منه"، وتم عبر هذا البرنامج خلال أربعة أيام تدريب 200 شخص من قيادات وموظفي وزارة الاتصالات والجهات التابعة لها.
إلى جانب ذلك لا تأبه الوزارة بجعل الأحياء السكنية المزدحمة مرتعًا لأبراج الإنترنت أو ما تسمى الأنتينات المقوية لشبكة الاتصال والإنترنت.
في حديث لـ"النقار" يقول الخبير في تقنية المعلومات، المهندس عبدالرحمن الغيثي، إن وزارة الاتصالات بصنعاء توعز بإقامة أبراج أنتينات لتقوية كفاءة خدمة إنترنت الجيل الرابع (4G) دون تقديم ضمانات صحية للسكان في الأحياء التي يتم فيها إنشاء هذه الأبراج.
وأكد الغيثي أن الوزارة تتجاهل شكاوى السكان المحليين من أن هذه الأبراج المحيطة بالمنازل وسط الأحياء السكنية تشكل خطرًا جسيمًا على صحة السكان والأطفال بالإصابة بأمراض السرطان، رغم علم الوزارة بهذه النتائج المستقبلية الكارثية.
وأشار إلى أن هناك تقنيات حديثة في دول الخارج تُستخدم لكبح الأضرار الناجمة عن هذه الأبراج، لكن من الواضح أنه لا يتم العمل بها من قبل السلطات المعنية في صنعاء، على حد قوله.
واختتم الغيثي حديثه بأن "الوزير مسفر النمير يقول إن قطاع الاتصالات كان سابقًا يعتمد بشكل شبه كلي على مهندسين يأتون من شركات أجنبية لأعمال التركيب والتحديث وإحلال السنترالات والتجهيزات، وأن الكوادر الآن يمنية كليًا، لكن نتمنى أن يجعل هذه الكوادر اليمنية تقوم بعمل التقارير بخصوص أضرار أبراج تقوية الفورجي ودون اللجوء إلى ابتزاز السكان وإجبارهم على دفع أموال بعشرات الآلاف مقابل أن يتنازل المختصون لكتابة هذه التقارير ورفعها إلى الوزارة".
هذا وبعد انقسام شبكة الاتصالات والإضرار ببوابة اليمن الدولية للإنترنت وبنية الاتصالات التحتية الهشة بالأساس منذ ما قبل الحرب، وتكبيد القطاع خسائر تبلغ في شركة "تيليمن" وحدها (المزود الرئيسي للاتصالات والإنترنت) ما يتجاوز المليار و680 مليون دولار، يفضي بنا البحث العاجل في ملفات وزارة الاتصالات إلى التأكيد أخيرًا: لقد اتضحت "الرؤية الوطنية الاستراتيجية".