صنعاء/ خاص - النقار اقتصاد
اقتصاد الحرب أهمُّ عناوين الواقع اليمني غموضًا ووضوحًا في ذات الوقت، فهو الفرصة الأنسب للانتهازية وللسطو على ما يمكن، ولإحداث مزيد من الانهيار الاقتصادي والمالي والنقدي بمبرر ظروف الحرب، ولفرض الإتاوات للتكسب والإثراء من جيوب المواطنين أفرادًا كانوا أو تجارًا وأصحاب أعمال، مقابل زيادة معدلات الفقر والجوع والبطالة والأزمات الإنسانية.
مصطلح "اقتصاد الحرب" يشير إلى لجوء الدولة لاتخاذ إجراءات طارئة أثناء الحرب من أجل تعبئة مواردها واقتصادها المضطرب ماليًا وإنتاجيًا، ومن خلال تعبئة الإنتاج الاقتصادي على هذا النحو يتم شرعنة تخصيص الموارد لدعم المجهود الحربي، ولا مناص من اتخاذ تدابير تفرض الضرائب بشكل أكبر، وتستحدث الإتاوات بعدة مسميات: مجهود حربي، تعبئة عسكرية، غرامات، رسوم، حق عام، وغيرها.
في اليمن حدث ذلك، وعلى نحو لا يمكن مقارنته ببلد خاض صراعات مطوّلة، وفي هذا التقرير نتطرق إلى جوانب معدودة من اقتصاد الحرب في اليمن والذي يكاد -بجوانبه وأوجهه الكثيرة- يمثل حالة فريدة في المنطقة، منذ أن مهَّدت لخلقه الهُوَّة السياسية التي يقترب عمرها من 12 عامًا، واتضحت ملامحه بشكل صارخ بعد سقوط العاصمة بأيدي أنصار الله واستيلائهم على السلطة في سبتمبر 2014، ثم بعد شن التحالف بقيادة السعودية الحرب على اليمن في مارس 2015.
تمهيد عام للدوامة الاقتصادية
قرابة تسع سنوات من الحرب كانت كافية لإغراق اليمن في مستنقع حرب اقتصادية يتحمل تبعاتها المواطن اليمني، فإلى جانب انهيار القطاعات الاقتصادية منذ العام 2014، أصيبت الأسر اليمنية بصدمات الحرب وطوارئها الغذائية والمالية المتواصلة إلى هذه اللحظة، وأصبح قطاع كبير من اليمنيين بالملايين على شفا المجاعة، وبات عليهم التكيف مع انهيار العملة المحلية وما يرافقها من أزمات حادة.
في البداية فاقمت الحرب الضغوط المالية مع انهيار إنتاج النفط وصادراته في العام 2015، وبالتالي فقدان عائدات النقد الأجنبي (كان النفط يغطي أكثر من 70% من إجمالي إيرادات الموازنة العامة للدولة ويشكل أكثر من 85% من قيمة الصادرات)، ولجأت الحكومة في عدن المعترف بها دوليًا إلى تمويل عجز المالية العامة بزيادة المعروض من النقود، وذلك ما أفضى إلى استنزاف الاحتياطيات من النقد الأجنبي، ليتخلى البنك المركزي اليمني عن الدولار كعملة مرجعية بحكم الواقع، وأدَّى ذلك إلى تدهور أوضاع الاقتصاد الكلي مع الارتفاعٍ السريع للتضخم (أي هبوط القوة الشرائية للأفراد) والتهاوي المستمر في قيمة العملة.
ويبرز تباين السياسات النقدية كأكبر تحد اقتصادي في اليمن، إذ تسبب نقل عمليات البنك المركزي اليمني في العام 2016 من صنعاء إلى عدن، في انقسام مالي ونقدي أثر على السيولة والنقد الأجنبي وكيفية التعامل مع الأدوات النقدية، وما تلاه من تجميد أموال اليمن في بنوك الخارج، وانقطاع مرتبات موظفي الخدمة العامة، وظهور وتفشّي سوق سوداء لبيع وشراء الدولار بأسعار أعلى من الأسعار الرسمية، وتزايد الضغط على الاحتياطي الأجنبي، وهجرة رؤوس الأموال اليمنية إلى الخارج. وحتى الآن، تسيطر أنصار الله على القاعدة المصرفية والتجارية المتواجدة بشكل رئيسي بالعاصمة صنعاء، واستفادت من زيادة تدفُّق تحويلات المغتربين والمعونات الخارجية التي تُنفَّذ من خلال الجهاز المصرفي الرسمي، وهو ما شكل عقبات قاتلة للحكومة في عدن، ما دفعها لفتح باب إنشاء البنوك التجارية لمن يرغب، وهو ما حدث.
مع تواصل الحرب تحوَّل اقتصاد اليمن إلى اقتصاد مزدوج بحكم الواقع، إذ انقسم بالفعل بين المناطق الواقعة تحت سيطرة أنصار الله، وتلك الواقعة تحت سيطرة الحكومة في عدن كعاصمة مؤقتة، وعبَّرت عن هذا التباين الفروق في أسعار الصرف بين الجانبين، بل وامتد التأثير حتى على مستوى تكاليف المواد الغذائية الأساسية التي تزداد بصورة كبيرة ومتباينة في كل مديرية يمنية منذ العام 2015.
منافذ متعددة للتمويل والكسب
هناك صور مختلفة للتمويل لجأت إليها جماعة أنصار الله، وتكاد لا تُحصى. فمنذ استحواذها على السلطة قامت بالاستحواذ على المقدرات المالية والعسكرية، واستنزاف الاحتياطي النقدي، وتم إيقاف صرف المرتبات لصالح رفد الجبهات القتالية وغيرها من أولويات الجماعة، وفرضت جبايات مالية تحت مسميات المجهود الحربي، واستحدثت نقاط تفتيش على طول المناطق المسيطرة عليها، وفرضت جرعات سعرية، ورفعت الضرائب على السلع الأساسية -من غذاء ووقود- وعلى القات، كما فرضت ضغوطًا على التجار ورجال المال والأعمال للانخراط في سياسات الجماعة وخططها حصرًا، وذلك كله دون الإشارة إلى التقارير المحلية والدولية التي تقول إن أنصار الله يتلقون تمويلات مستمرة عبر شبكات مالية من طهران.
مثل هذه الإجراءات كانت ترمي لإيجاد اقتصاد حرب يواجه نقص الموارد ويُزود المقاتلين ويرفد جبهات الحرب، وذلك لكون الاقتصاد اليمني يُعد ريعيًا معتمدًا على الموارد الخارجية، من عائدات نفطية ومساعدات دولية وتحويلات خارجية من المغتربين وغيرها. وفي الوقت الراهن يُنظر إلى أنصار الله كجماعة استغلت ضعف الدولة سابقًا لتتمكن من بناء نفسها وجني أرباح معينة لزيادة قوتها.
ويُتَّهم أنصار الله باستنزاف الاحتياطي النقدي الأجنبي لليمن والذي كان حجمه قبل سبتمبر 2014 نحو 5.1 مليارات دولار، وكذا استنزاف الخزينة العامة والمال العام وحدوث فساد في الموازنة. جرى ذلك خلال ما عُرف بـ"الهدنة الاقتصادية" التي استمرت حتى أواخر الربع الثالث من 2016، وفي هذه الهدنة تم صرف المرتبات بشكل طبيعي ومضى أنصار الله في تحصيل الجبايات تحت مسمى المجهود الحربي.
استمر ذلك إلى أن صدر قرار نقل عمليات البنك المركزي إلى عدن بدعوى الحفاظ على استقلالية البنك، ما يعني ذهاب صلاحيات التحكم في الأصول النقدية واتخاذ الإجراءات الاقتصادية -مثل إصدار النقد الجديد وضبط سعر الصرف- إلى سلطات عدن، والتي فشلت هي الأخرى في إدارة الاقتصاد وعمدت إلى طباعة النقد المحلي الجديد دون غطاء أجنبي ما أحدث موجة تضخم اجتاحت البلاد منذ العام 2018. لكن ورغم نقل البنك من صنعاء وانقطاع المرتبات (التي لم تصرفها سلطات عدن رغم تعهدها بذلك)، واصلت أنصار الله تمويل أنشطتها وفقًا للإتاوات، ومن ذلك استغلال عدد من المنافذ المالية، مثل إيرادات السلطات المحلية.
فالإيرادات المحلية مورد هام للجماعة في مناطقها. تتهم سلطات عدن أنصار الله بتحصيل ما لا يقل عن 1.7 مليار دولار سنويًا كإيرادات للمحافظات وسلطاتها المحلية، وتسخير هذه الأموال لصالح الجبهات والعمليات العسكرية بدلًا من صرف المرتبات.
أما المجهود الحربي فتم فرضه على كافة الأفراد والمؤسسات الحكومية والخاصة ورجال الأعمال، واعتُبر واجبًا عليهم لمواجهة العدوان السعودي، إضافةً إلى الجبايات خلال المناسبات والاحتفالات الدينية والسياسية، والدعوات المتواصلة للتبرعات والإنفاق، رغم الموارد المالية الضخمة التي تستحوذ عليها الجماعة.
لقد حوَّلت أنصار الله ما لا يقل عن 1.8 مليار دولار في 2019 لتمويل عملياتهم العسكرية ضمن المجهود الحربي، وكانت مخصصة في الأصل لخزائن سلطات عدن ودفع الرواتب وتقديم خدمات أساسية للمواطنين، وفقًا لتقريرٍ صدر في يناير 2021 عن فريق الخبراء الأممي المعني بمراقبة العقوبات الدولية المفروضة على اليمن، والذي اتَّهم سلطات عدن أيضًا بممارسة غسل أموال واستغلال 423 مليون دولار من الأموال العامة (ضمن الوديعة السعودية) بشكل غير قانوني وتحويلها إلى تجار.
رأى فريق الخبراء أنَّ عدم وجود استراتيجية متماسكة بين القوات المناهضة لأنصار الله، واقتتالها الداخلي والخلافات بين داعميها الإقليميين، أدى إلى تقوية أنصار الله أكثر، ومكَّنها من جمع ضرائب وإيرادات عامة واستخدام جزء كبير منها لتمويل المجهود الحربي.
منفذ مالي آخر: ساهمت أنصار الله في فتح باب السوق السوداء للمشتقات النفطية، عبر قرار أصدرته في العام 2015 بشأن تعويم أسعار المشتقات، وبحسب القرار أُتيح رفع الدعم عن المشتقات النفطية وبيعها في السوق المحلية بسعر البورصة العالمية ووفقًا لمتوسط سعر الشراء خلال الشهر السابق، وسمح هذا القرار -الذي صدر حينها عن اللجنة الثورية- باستيراد المشتقات النفطية عبر القطاع الخاص، بعد أن كان استيرادها وتوفيرها من اختصاص شركة النفط اليمنية الحكومية قانونًا، وفي المجمل مكَّن القرار شركات القطاع الخاص -بما فيها الناشئة من قبل الجماعة- من استيراد المشتقات وبيعها لشركة النفط الحكومية وتوزيعها للسوق، ما يعني تكسُّب أرباح لصالح الجماعة واقتصادها الحربي.
إلى جانب ذلك، استحوذت أنصار الله على كثير من المنشآت والأراضي والممتلكات العامة وحولتها إلى ممتلكات شخصية لجهات وأفراد يتبعونها أو تربطهم علاقات بالجماعة، تحت حجج متعلقة بالاستثمار، مثل قطاعات ومنشآت تابعة لوزارة الدفاع متمثلة في المؤسسة الاقتصادية اليمنية التي تعرضت للسطو والتعطيل وتم الإضرار بكافة قطاعاتها.
شبكة تمويل إيرانية معقدة
تعتمد أنصار الله المهيمنة على البنوك والمصارف، شبكات تمويل داخلية وخارجية لا تزال تعمل بطاقتِها المطلوبة رغم فرض عقوبات أمريكية سابقة عليها. وبدايةً، ومع تحوُّل (هجرة) الأموال من الاقتصاد الرسمي اليمني إلى الاقتصاد غير الرسمي والأسواق السوداء، توجَّهت الأنظار محليًا ودوليًا إلى شركات صرافة بعينها على رأسها شركة سويد وأولاده للصرافة.
هذه الشركة بات يُنظر إليها في اليمن كإمبراطورية مالية أسست لنفسها خطًا دوليًا واسعًا، وفتحت أبواب شبكاتها للمؤسسات والشركات التجارية والمالية من جهة، ولأنصار الله من جهة أخرى. وهي إلى جانب إنشائها خدمات مالية إلكترونية وتحويلية مثل خدمة "فلوسك" و"مال"، أصبحت وكيلًا لكبرى الشركات الدولية لتحويل الأموال مثل "موني جرام" و"شيفت موني" و"إكسبرس موني".
خلال العامين الماضيين فُرضت عقوبات من جانب وزارة الخزانة الأمريكية على شركة سويد، ومُنعت الشركة من وصولها الرسمي إلى الشبكات المالية العالمية، لكنها رغم ذلك حافظت على انتشارها الواسع دوليًا من خلال شبكات الحوالة واستخدام خدمات الوكلاء، إضافة لانتشار شبكاتها وخدماتها المالية في الداخل اليمني كله.
في يونيو 2021، فرضت الخزانة الأمريكية عقوبات على شبكة تهريب يديرها "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري الإيراني، وتجمع ملايين الدولارات لصالح أنصار الله من عائدات بيع سلع مثل "النفط الإيراني"، إذ يتم توجيه كمية كبيرة من الأموال عبر شبكات معقدة من الوسطاء ومراكز الصرافة في بلدان متعددة لصالح الجماعة في اليمن.
وتلك الشبكة المعقدة يرأسها رجل أعمال يمني مقيم في إيران يدعى سعيد أحمد الجمل، تم اتهامه بالإشراف على تهريب الوقود وغيره من السلع الإيرانية إلى زبائن في الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا. وقد شملت العقوبات شركة سويد وأولاده للصرافة لتسهيلها معاملات مالية بملايين الدولارات لهذه الشبكة، وهو ما نفته سويد ، كما عوقبت شركات "أدون" للتجارة العامة (ثلاث شركات مقرها الإمارات وتركيا)، وكذلك عدد من الأشخاص منهم سبعة رجال أعمال وخبراء في مجال النقل البحري.
من الواضح أنَّ العقوبات الأمريكية أثَّرت تأثيرًا محدودًا على شبكة التمويل هذه، وعلى الرغم من أن العقوبات تسببت في سحب المودعين أرصدتهم من شركة سويد وإدخال الشركة في أزمة سيولة كونها أصبحت ضمن قائمة الإرهاب ومجمَّدة الأرصدة ومحدودة النفوذ، إلا أنها واصلت أنشطتها، وتم دعمها من قبل جمعية الصرافين اليمنيين التي دعت إلى عدم تسييس الأنشطة المالية.
ولعلَّ تلك العقوبات لم تُثمر بنتائجها المطلوبة، حيث واصلت الشبكة المعقدة تحويل عشرات الملايين من الدولارات إلى أنصار الله، لتعود الخزانة الأمريكية إلى فرض عقوباتها من جديد في فبراير 2022 على الشبكة الدولية التي يديرها فيلق القدس لتمويل أنصار الله، وهذه المرة ظهرت عدة أسماء لتجار دوليين متعاونين، مثل "محمود عبدالله دايل - مقيم في الإمارات والسويد"، و"كونستانتينوس ستافريديس - رجل أعمال يوناني المقيم في الإمارات"، و"محمد قاطرجي - رجل أعمال سوري".
رغم أن العقوبات على الشبكة لم تتكرر منذ ذلك الوقت، فإنه لا وجود لأي معلومات تشير إلى أن أنشطة الشبكة توقفت جزئيًا أو كليًا، كما أن الدعوات الأخيرة من جانب نواب جمهوريين في الكونغرس الأمريكي لإعادة تصنيف أنصار الله كجماعة إرهابية أجنبية، تفسّر بأن أنشطتها المالية مع طهران لا تزال قائمة خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، والتي أصبح أنصار الله طرفًا صاروخيًا فيها بالتنسيق مع مكونات محور المقاومة في المنطقة المدعوم من إيران.
المعونات والأموال الأممية
صورة أخرى لفساد ساسة اقتصاد الحرب تكاد تكون معروفة للكثيرين: استغلال أعمال وكالات الأمم المتحدة من مقراتها في صنعاء، والانتفاع بمكاسب على مستوى الأموال والمعونات وحتى الوظائف الأممية التي تذهب لمقربين من أنصار الله.
في صنعاء والمحافظات القريبة، يُتهم أنصار الله من جهة بالانتفاع من وجود الأمم المتحدة التي تغطي جزءًا من احتياجات العملة الصعبة، وتوظيف جزء من المعونات والمساعدات الأممية لصالح الجماعة من جهة أخرى، مع وجود تقارير أممية تفيد بممارسة ضغوط من قبل أنصار الله وتسخير المساعدات الإنسانية لصالحهم واقتصادهم الحربي.
وسبق وتحدثت منظمة الهجرة الدولية بهذا الأمر، وقالت إن معونات الأمم المتحدة -شاملةً المواد الغذائية الأساسية- يتم الاستيلاء عليها من قبل قادة تابعين لأنصار الله، وعدة محسوبين على المؤتمر الشعبي العام، وذلك من خلال بيع المساعدات لتجار، أو بيعها على مقربين لهم، ما يحرم مستحقيها من هذه المساعدات.
برنامج الأغذية العالمي -الذي قلَّص مساعداته مؤخرًا بسبب نقص التمويل- أكد مرارًا هو الآخر أن أنصار الله منعوا من إيصال المساعدات الغذائية إلى الأشخاص الأشد جوعًا في اليمن، وأنه يتم التلاعب بالمساعدات الغذائية في مناطقهم على حساب الأطفال والنساء الذين هم في أمس الحاجة إليها.
المطالبة بالمرتبات.. ممنوع!
رغم ضخامة الموارد المالية التي يملكها أنصار الله، إلا أن لا حقَّ للمواطنين بممارسة أي شكل من أشكال التعبير عن حاجتهم إلى مرتباتهم المنقطعة منذ سبع سنوات، حتى أصبحت المطالبة بالمرتبات نوعًا من التهمة التي تدين صاحبها بالعمالة والارتزاق، رغم تأكيد الجماعة على أنها تعي حجم سوء الأوضاع، وتكتفي بإدانة الحكومة المدعومة من السعودية منذ نقل عمليات البنك المركزي إلى عدن.
المعلمون من جملة الذين يطالبون بمرتباتهم، في إطار نادٍ مستحدث سُمي "نادي المعلمين اليمنيين"، لكن هذه المطالبات أدت إلى اعتقال رئيس النادي بصنعاء، وكذلك رؤساء فروع النادي بمحافظتي ريمة والمحويت، إلا أن اعتقالهم لم يُثن المعلمين عن مواصلة مطالباتهم بالمرتبات. أكد المعلمون عبر ناديهم أنهم لن يسكتوا عن حقوقهم لأن المرتبات "ليست صدقة أو فضلًا من الدولة عليهم، إنما هو واجب حتمي على وزارة التربية والتعليم ووزارة الخدمة المدنية ووزارة المالية وفقًا للعقد المبرم بين المعلم والدولة، والذي يقضي بحق المعلمين في التوقف عن العمل إلى حين تسليم المرتبات".
ويتحدث العامة من المواطنين مؤخرًا عن قدرة أنصار الله على دفع المرتبات ورفضهم ذلك بدعوى أن المرتبات يجب أن تأتي من السعودية التي شنت الحرب وتسببت في تعطيل المرتبات. وتُتداول في الفترة الأخيرة معلومات عن أن عائدات أنصار الله من تجارة المشتقات النفطية تتجاوز 30 مليار ريال شهريًا، مع وصول عائد اللتر الواحد إلى نحو 100 ريال تتوزع ما بين تعرفة جمركية وضريبة مبيعات ومجهود حربي ودعم كهرباء وعمولة لشركة النفط وغير ذلك.
وازداد الضغط الشعبي على أنصار الله -فيما يتعلق بفساد سلطتهم وانفرادهم بالأموال العامة دون صرف المرتبات- مع هدوء الأوضاع والعمليات العسكرية نسبيًا منذ عام ونصف خلال الهدنة، وهو ما جعل ذريعة "ظروف الحرب" تتبخر، وللحظة من اللحظات تحولت المطالبة بصرف المرتبات إلى صرف المرتبات وإعلان الموازنة العامة وتسليمها للبرلمان في صنعاء.
طالب نواب برلمانيون بتقديم الموازنة وإيضاح الأمور المالية كحق للمواطنين، نتيجة تفشي عمليات الفساد والإثراء غير المشروع، لكن رئيس المجلس السياسي الأعلى مهدي المشاط قال -في أغسطس 2023- إن الحكومة لا تقدم الموازنة أمام النواب بسبب تسريب موازنة عام 2019 إلى لجنة العقوبات في مجلس الأمن الدولي خلال أسبوع من تسليمها لبرلمان صنعاء.
لم يكن المبرر كافيًا حتى لإقناع تيارات سياسية مشاركة لأنصار الله في الحكومة، فقد كان ذلك أحد أسباب الجدل بين الجماعة وحزب المؤتمر الشعبي العام، والذي طالب على لسان رئيسه بصنعاء صادق أمين أبو راس بتسليم الموازنة واتَّهم أنصار الله بالفساد، وقال: "من حق المواطنين أن يتكلموا عن مرتباتهم لأنها حق، ويجب أن نفكر بأن نضع للموظف شيكًا في يده بقيمة مرتباته خلال السنوات الماضية، ومتى ما توفرت الموارد يستلمها".
أزعجت هذه التصريحات أنصار الله وشنَّ المشاط هجومًا على المؤتمر ووصف المطالبين بالمرتبات بـ"الحمقى"، وهو ما قابله ناشطون يمنيون في وسائل التواصل الاجتماعي بحملة هجومية على أنصار الله، واعتبر البعض أن تصريحات المؤتمر يمكن أن تكون لدوافع سياسية خاصة بالحزب، ولا تعني المواطنين الذين يطالبون بمرتباتهم كحاجة أساسية ومعيشية وحق إنساني، خاصة أن ذريعة "العدوان" أصبحت شيئًا من الماضي.
مع زيادة الضغط الشعبي، قرر أنصار الله الإعلان عما سُمي بالتغيير الجذري لنظام الدولة، وإقالة حكومة الإنقاذ في سبتمبر الماضي وتكليفها بتصريف الشؤون العامة العادية حتى تشكيل حكومة جديدة، على خلفية الاتهامات بالفساد دون إنجاز تغييرات ملموسة، إلا أنَّ هذه ليست المرة الأولى التي تضطر فيها الجماعة للإعلان عن إجراءات تهدف لاحتواء الضغط الشعبي وموجات الانتقاد المتزايدة.
فإلى جانب وضع ما سميت "الرؤية الوطنية لبناء الدولة" حتى عام 2030 استنزافًا للمال العام دون تحقيق نتائج ملموسة منذ وضعها في العام 2019، تم -على سبيل المثال- استحداث "المنظومة العدلية" برئاسة عضو السياسي الأعلى "محمد علي الحوثي" للسيطرة على المحاكم والقضاة، تحت عنوان الحد من تراكمات القضايا لدى الأجهزة الأمنية والقضائية، إلا أنها كانت مدخلًا لأزمات في نطاق القضاء وأعمال العقارات والتجارة وغيرها، كما مثَّلت استهدافًا لقضاة لم يؤيدوا سياسات أنصار الله، بمن فيهم القاضي محمد حمران عضو المحكمة العليا، الذي تمت تصفيته في العام 2022 عقب اختطافه من أمام منزله على أيدي مسلحين محسوبين على الجماعة.
حتى الآن لم يُعلن عن تشكيل حكومة جديدة، لكن تفاقم الفساد الإداري دفع أنصار الله إلى التخطيط لتشكيل حكومة مصغّرة وتقليص التضخم الإداري الحاصل من خلال دمج بعض الوزارات بحسب معلومات مؤكدة حصل عليها "النقَّار"، ومن شأن ذلك أن يحقق ترشيدًا للإنفاق وفي نفس الوقت زيادة في العوائد المالية.
ومع تداول أنباء مؤخرًا حول إمكانية التوصل إلى "اتفاق قريب وكبير" بين أنصار الله والسعودية لإعلان إنهاء الحرب وإحلال سلام في اليمن، لا يزال المواطن اليمني يحمل همَّه الاقتصادي والمعيشي ويترقَّب كيف سيكون شكل اليمن القادم تحت سلطة ونفوذ أنصار الله، بعد أن تسببت هذه السلطة في انهيار اقتصادي مدفوع باستغلال الحرب وكوارثها التي قصمت ظهر المواطن وحده.