خاص-شبكة النقار
يقولون في الأمثال أو في التجارب لا تعط المهرج منصبا قياديا، حيث لن يكون بوسعه التخلي عن دوره في المسرح أو السيرك.
كثيرون قد يرون في الرئيس الأوكراني زيلينسكي مثالا حيا، وآخرون يفضلون الانتظار أكثر، فربما قد يأتي الزمن بمن ينطبق عليه المثل حرفيا أكثر من زيلينسكي.
أما في اليمن فليس الأمر بحاجة إلى الانتظار، فها هو القيادي في أنصار الله ومدير مكتب رئيس المجلس السياسي الأعلى، أحمد حامد، ماثل للعيان، وما على اليمنيين سوى أن يسمعوه وهو يسرد تفاصيل حياته النضالية، عفوا الجهادية، ودوره الرئيسي في إصعاد عبد الملك الحوثي إلى زعامة الجماعة في لحظة حرجة كان الأعداء يتربصونها للفتك بـ"القائد" وبالحركة برمتها.
في بدروم يتسع لأكثر من مائتي شخص، وبطقوس أشبه ما تكون بالسرية، يسرد أحمد حامد حياته الجهادية أمام آذان ألقت السمع فشهدت، بدءا من صعوده إلى أعلى جرف سلمان بأمر من حسين الحوثي لإطلاق ستين طلقة رصاص في الهواء والحصار على أشده، غير معلل السبب بطبيعة الحال ولا متذكرا من المشهد سوى أن السيد القائد قتل بعد ذلك بساعات. ينتقل المشهد إلى ظلام دامس وهاوية سحيقة تحت قدميه اضطر معهما أن يلزم مكانه حتى الصباح غير قادر حتى على مد قدميه أو التحرك قيد أنملة خوف السقوط في الهاوية.
يأتي الصباح فتبدأ رحلة التيه في جبال ووديان لم تطأها قدما إنسان من قبل، وكسرة بسكويت صغيرة نسيت في جيب كوته منذ أمد كانت هي الزاد الذي أوصله بعد كل تلك الليالي إلى نشور، حيث مازال وقع كارثة مقتل القائد مخيمة على كل شيء.
ونشور هذه معقل عبد الله عيضة الرزامي، صاحب الجولات والصولات وأحد أبرز الزعامات القبلية على مستوى صعدة فضلا عن كونه أحد القيادات العسكرية الأهم لأنصار الله.
يصل بدر الدين الحوثي ومعه ولده عبد الملك إلى نشور هما أيضا. يعزيهما أحمد حامد بالمصاب الجلل، ملتفتا إلى عبد الملك بألا يقلق، فيبادله الآخر نظرات ملؤها الامتنان.
كان السؤال المطروح، بحسب حامد، هو من سيخلف القائد. وبحسبه أيضا كان هناك إجماع ممن يعرفهم ويثق بهم على شخصية عبد الملك، لكن مع توجسات كبيرة استطاع هو حسمها بكل اقتدار. لتأتي المعضلة الكبرى: الرزامي.
تستمر رواية حامد بأن السلطة بعد مقتل حسين الحوثي تواصلت مع الرزامي بأن يكون هو القائد الجديد وأن الرجل استجاب ضمنيا إلى الأمر باعتبار أن "السيد القائد" لم يقتل وإنما ذهب إلى ربه ليعود ثانية، وبالتالي حتى عودة "الإمام الغائب" لا بد من راية يحملها "اليماني" وأنا ذلك اليماني.
يقول حامد بأن وجهة النظر تلك كانت من القوة بحيث اجتذبت عقول ومواقف سواد كبير من أبناء الحركة، فكانت الخشية كل الخشية من ذهاب ريح الحركة وتبدد أمرها. فما العمل يا أبا محفوظ؟ هكذا يقول بأنه تم التوجه إليه بذلك السؤال المصيري لدرء الفتنة.
بعد تفكير طويل، أمر أبو محفوظ (الكنية الحركية لأحمد حامد) بالتوجه إلى مقيل الرزامي ومعه عبد الملك وأبوه وجمع لفيف من شخصيات وقيادات الحركة. لم يسألوه ماذا يدور في رأسه، فهم يثقون برجاحة ذلك الرأس أكثر من أي شيء آخر.
أخذوا أماكنهم في المقيل يسمعون ذلك اليماني الذي يريد منهم مبايعته. كاد يحظى بها لولا أن حامد رفع يده في اللحظة المناسبة قائلا: "أنت يماني وأنا حليب بالموز" (في إشارة إلى ما يحمله لفظ "يماني" من معنى لماركة عصائر محلية، مقابل ماركة عصائر أخرى اسمها "حليب بالموز")، وإذا بالحشد الضخم من كل تلك الوجوه القبلية والزعامات الاجتماعية تنفجر بالضحك ويتحول موقف الرزامي إلى موقف بائس يثير الشفقة والسخرية.
بعدها لا شيء سوى أن هتف الجميع بالبيعة لعبد الملك وخرج حامد منتصرا في موقف سيخلده التاريخ وسيجعل عبد الملك وأباه وكل أنصار الله ممتنين له إلى الأبد.
لا ينسى حامد بعد سرد روايته أن يطلب من مستمعيه، وقد بهرهم وامتلأت عيون أكثرهم بالدمع، أن يحتفظوا بهذه القصة وألا يتداولوها إلا في الأوساط الضيقة بحيث لا تصل إلى الرزامي فيستاء منها بعد أن سلّم وبايع وأصبح جنديا من جنود "المسيرة القرآنية" العظمى.