فتنة؟ انتفاضة؟ ثورة؟ أم كل ما سبق؟ ليس مهما، فالمهم هو أنها كانت مشهدًا يستعرض بوضوحٍ أهداف جماعة أنصار الله الحاكمة في صنعاء.
تأتي ذكرى الـ2 من ديسمبر ليلتفت إليك المقاتل الأنصاري وقد امتلأت شفتاه الجافّتان بفُتات متناثر من قات "التخزينة" الثمين، ليصب جام غضبه دون أن يَنسى الذكرى ويقول: "فتنة عفاش"، ثم يتابع بقلب عامر بالإيمان: "أنهيناها بفضل الله"، ليبدو كمن يعبّر عن لحظات صعبة عاشها الأنصار.
في قاموسهم في المؤسسات والمجالس العامة والخاصة، يتعامل الأنصار مع ما يسمونها "فتنة عفاش" بوصفها محطة ثورية أنصارية كشفت حقيقة "عفاش" التي لم يكشفها أحد في المنطقة والعالم.
وهناك يقف المواطن اليمني المغلوب الذي لا يعنيه الأنصار ولا المؤتمر ولا غيرهما من تيارات السياسة اللاعبة، ليسأل نفسه ممثلًا بالضرورة لشعبٍ بأكمله: هل كانت تلك الحقيقة؟ أم أن الحقيقة هي أن الأنصار لم يقوموا في وقت من الأوقات بثورة ولا هم يحزنون، وإنما استغلوا حالة فراغ كبرى واستولوا على مقاليد الحكم فسموا ذلك "ثورة".
ولأننا لسنا بصدد البحث في أبعاد ذلك التحالف السياسي المؤقت والذي استغلت من خلاله أنصارُ الله النفوذ الاجتماعي والسياسي للرئيس اليمني الأسبق علي عبدالله صالح وشبكة علاقاته القبلية وانتهى بسلسلة استفزازات أنصارية وعمليات استهداف للحليف وأذرعه النافذة ثم تصفيته عقب انتفاضته ضدهم ووصفه بـ"رأس الخيانة"، فإننا هنا نضيء على ما بعد تلك المرحلة.
ورغم أن اغتيال اللاعب السياسي الأبرز في اليمن "صالح" يُنظر إليه بأنه حطم آمالًا شعبية ودولية ذهبت أحيانًا إلى التعويل على الرئيس الأسبق في تهدئة الحرب والدخول في حوار مع الطرف الآخر، السعودية، لإنهاء الويلات على اليمنيين، إلا أنه من جهة أخرى كان بداية لتخليد حضور صالح تاريخيًا في وجدان الكثير من اليمنيين على مر السنوات اللاحقة، اتفقوا معه أم اختلفوا. إذ زاده الرحيل -الصادم في ذلك الوقت- خلودًا في الذاكرة اليمنية، وهي الذاكرة نفسها التي علقت فيها مشاهد السطوة الحوثية على الرقاب والدولة بناءً على دعم جمهورية إيران الإسلامية.
ومع صرف النظر عما إذا كان صالح قد أراد تحقيق أهداف خاصة أو عامة من دعوته اليمنيين إلى الانتفاضة ضد أنصار الله، فإن من حقق أهدافه في النهاية كان أنصار الله الذين يجرون حاليًا مباحثات سلام مع الجانب السعودي كان قد دعا إليها صالح نفسه في خطابه قبل الأخير وخَصّ وقف القصف وإنهاء الحصار وفتح المطارات والموانئ ووعد بالتعامل على أساس حسن الجوار، ليتم بعدها تصنيفه "خائنًا" من قبل الجماعة وزعيمها.
أمّا بعد.. مخطط الاستهداف
باغتيال صالح، اعتبرت أنصار الله أنها "شفت غليلها" وأحقادها على العدو القديم، على خلفية الحرب التي شنتها الدولة في 2004 ضد الجماعة الناشئة في محافظة صعدة، والتي أفضت إلى قضاء الدولة على رأس الجماعة الأول، حسين بدر الدين الحوثي. وبعد أخذ الثأر بمنطق الجماعة واحتفالها على جثة الرجل، بات عليها أن تستولي كليًا على كافة مفاصل السلطة، وألا تدع أحدًا يتنفس باسم صالح.
مات صالح، وليس أمريكا وإسرائيل كما يقول شعار أنصار الله. أصبحت السلطة بما رحبت في قبضتهم، وحان الاحتفال بزامل النصر: الاستيلاء على كافة المقدرات البشرية والسياسية والاقتصادية في العاصمة، والالتفاف بوضوح على الدستور والقانون تحت ذريعة "مواجهة العدوان"، وتحقيق إنجاز تاريخي بتغيير اسم مسجد الصالح بمسجد الشعب (والذي لا يزال الشعب يسمّونه باسم مسجد الصالح)، كما حان تهميش الفعل السياسي لمختلف التيارات بما فيها حزب المؤتمر حتى مع بقائه وبعض قياداته "العفافيش" في صنعاء.
فعندما لم يشفع لهذا الحزب ولأعضائه موقف البقاء في صنعاء وممارسة النشاط الحزبي منها ومن المحافظات تحت سيطرة الجماعة، كان لابد أن يظلوا في نظر الأنصار "عفاشيين" أو "عفافيش" وإن كانوا بالاسم جزءًا من سلطة "المجلس السياسي الأعلى" و"حكومة الإنقاذ" المُقالة، كما ظلوا تحت التهميش والإقصاء من خلال عزل كوادرهم من مناصبهم الإدارية، وكذا الترهيب بحق القيادات والأعضاء لدرجة التهديد بقتل رئيس الحزب "صادق أمين أبو راس"، وهي ممارسات كانت ولا تزال بالنسبة للمؤتمر غير مبررة ومخالفة للقانون.
مضت حملة التهميش إلى أن بلغت هذا العام حد الحرب الكلامية بين قيادات الحزب ممثلًا بصادق أمين أبو راس، وأنصار الله، بعد أن طالب المؤتمر بصرف مرتبات الموظفين وتسليم الموازنة الحكومية واتهم الحوثيين بالفساد، وبدا أن أنصار الله كانوا بانتظار مثل هذا الانفجار، إذ رد "المشاط" بأن هذه التصريحات "طعنة في الظهر" وصادرة عن "حمقى"، في إشارة منه إلى حصول الجماعة على مبرر لاتخاذ أي إجراءات لازمة ضد مؤتمر "الطابور الخامس".
مع ذلك، خرج بعدها "أبو راس" الذي كان مصنفًا من بين "الحمقى" قبل قليل، ليعلن تفويضه لزعيم الجماعة عبدالملك الحوثي، وتأييده خطة "التغيير الجذري" التي أعلنها الحوثي وتستهدف إصلاح خلل المؤسسات التي تقلص النفوذ المؤتمري فيها، وهو ما يمكن اعتباره إما محاولة لاستعادة الحزب المُقصى لوجوده الطبيعي في المؤسسات، أو تفويضًا ناجمًا عن إجبار الحزب بالقوة على تأييد أية تحركات وقرارات حوثية.
وفي سياق استهداف أنصار الله للوجود "العفاشي" علمت "النقار" أن قيادات رفيعة في المؤتمر بصنعاء باتت تخشى جديًا من استهدافها إما بالإخفاء أو التصفية، وسط رقابة مكثفة على الحزب وقياداته من قبل جهاز الأمن والمخابرات التابع لأنصار الله.
وقال مصدر في الحزب إن "أزمة مطالبة المؤتمر بصرف المرتبات أدت إلى إثارة مخاوف كبيرة في أوساط الحزب من الاستهداف، وأدت أيضًا إلى تركيز أنصار الله على أصول الحزب وممتلكاته وأمواله"، وتابع بأن خلافات تتصاعد بين قيادات بارزة في المؤتمر نتيجة لوجود عدد منهم يدينون بالولاء الكامل للحوثيين، وينادون بتخصيص جزء من أصول وأموال الحزب لصالح مرتبات موظفي الدولة الحكوميين، وهو ما تراه قيادة الحزب اختراقًا للمؤتمر وخرقًا للوائحه التنظيمية وكيانه ككل، وفق ما ذكره المصدر.
وأضاف بأن من جملة الأسباب التي أدت لامتعاض المؤتمر، عدم إشراك ممثليه بشكل حقيقي في مباحثات السلام الجارية مع السعودية وانفراد أنصار الله بها كونهم سلطة الأمر الواقع، حيث يتم حصر المؤتمر في وجود نائب رئيس الوفد المفاوض، جلال الرويشان، وهو محسوب على أنصار الله أولًا عن آخر، بحسب قوله.
بعد ست سنوات
يبذل ناشطو أنصار الله جهدًا في التصدي لذكر صالح، قبل حلول الثاني من ديسمبر بأيام، لكنهم بانتشار مقاطع الفيديو لخطابات صالح خلال أيامه الأخيرة يجدون أنفسهم في مواجهة نارٍ في الهشيم، لتكون الجماعة الأولى من نوعها في التاريخ التي تخوض حربًا ضد رجل ميت.
ويرى ناشطون موالون لصالح، بعد مضي ست سنوات على اغتياله، أن 2 ديسمبر يمثل ثورة ضد "الميليشيات" تستحق الاحتفاء والتذكير بها كانتفاضة قلبت كيان الجماعة مؤكدين على ما يسمونه "استعادة الدولة والجمهورية"، فيما يقول الناشطون الموالون لأنصار الله إنهم تمكنوا من "وأد فتنة". وخلال ذلك تتعالى أيضًا أصوات مغايرة جنوبًا لتقول إن صالح أصبح "رمزًا قوميًا" لدى تيارات مختلفة مثل "الحراك الجنوبي" في عدن على غرار ما قاله "عبدالعليم بن جلال".
حول ذلك يعتقد المواطن محمد العدلة في تصريح مقتضب لـ"النقار" أنه "يحق للمؤتمريين وغيرهم من اليمنيين اعتبار 2 ديسمبر عيدًا وطنيًا حتى، فالحوثيون لديهم عشرون مناسبة في السنة، لديهم 21 سبتمبر وعيد صمود ومولد نبوي وعيد غدير وعزاء كربلاء وغيرها من المناسبات، وكلها ينفقون عليها مئات الملايين، ولا ذكر لاحتفال بالأعياد الجمهورية الوطنية".
أما "مازن. م"، ناشط على السوشيال ميديا، فيؤكد من صنعاء أن أنصار الله هم أكثر الناس الذين عملوا على تخليد ذكرى صالح عند اليمنيين، بسبب ما وصفه "كهنوتهم وقتلهم له".
وفي حديثه لـ"النقار" يستغرب مازن: "الآن في هذه الأيام إذا فكرنا في بعض جوانب المشروع الحوثي، هم يقدمون أنفسهم كمناصرين لقضية فلسطين التي هي قضيتنا جميعًا، وأنا من هنا أسأل: منذ متى كانت اليمن أو حكومات اليمن السابقة مع إسرائيل؟ ألم يكن موقف حكومة علي عبدالله صالح واضحًا؟ ألم يكن مدافعًا عن المقاومة وداعيًا لدعمها؟ اليمن لها موقفها من زمان، وليس الحوثي من صَنع هذا الموقف، لذا لا داعي للمزايدة داخليًا وخارجيًا وزيادة شرعنة المشروع الحوثي".
ويضيف: "نقول إن صالح في حياته كان لصًا هو والمسؤولين من حوله، لكن إذا كان كذلك فأين ذهبت أمواله وثرواته وممتلكاته؟ هل ذهبت لجمعيات خيرية أم أخذها الحوثيون لصالحهم وليس لصالح الشعب الذي يقولون إن "عفاش" نهبه ونهب البلاد؟ الحوثيون أكبر لصوص عرفناهم ويتجاوزون أسطورة عفاش بكثير، اسأل اليوم أي شخص في الشارع عن زمن عفاش سيقول لك بالبلدي (كان يأكل ويأكِّل) و"سلام الله على عفاش".
ويتابع بقوله: "انكشفوا من قبل قتل صالح ومن بعده، وقتلوه لأنه عندهم خائن، المفاوضات الآن أليست خيانة بحسب نظرتهم السابقة؟ لا ليست خيانة، هي سياسة، سياسة إيرانية قذرة بسببها قتلوا الرجل" كما يقول.
وهذا ما يجعل أنصار الله جماعة دينية عنصرية لم ولن تتغير منذ دخولها صنعاء عام 2014، وفقًا للكاتب حارث الثور، إذ يؤكد في رأيٍ لـ"النقار" أن "الحوثيين الآن هم أولئك الأشخاص الذين دخلوا منذ تسع سنوات، وهم الآن كما هم وسيظلون بهذه العقلية والسلطوية بدون هدف ولا مشروع مدني ديمقراطي جمهوري".
وبحسب الثور، فإن اليمن بوجود أنصار الله ستنزلق أكثر نحو الأسوأ، مشيرًا إلى عدم استعداد الحوثي للتنازل لمصلحة اليمنيين على كافة المستويات، سواء في الخدمات العامة أو السلطة والنظام السياسي.
وبعد أن بات محرمًا في صنعاء تعليق صورة صغيرة لـ"صالح" على ظهر سيارة أو على حائط محل صغير، أصبح صالح ذلك الغائب الحاضر الذي أحدث "فوبيا حوثية" منه ومن تاريخ "2 ديسمبر" لم تكتشف لها جماعةُ "تصنيع الصواريخ والمسيّرات" علاجًا حتى الآن.