• الساعة الآن 06:18 PM
  • 20℃ صنعاء, اليمن
  • -18℃ صنعاء, اليمن

"صعدنة صنعاء".. الصراع بين اليمنيين و"المؤمنين" (2)

news-details

خاص - النقار مجتمع

 

وأنت تجول بناظريك على الواقع المر، قد يخطر لك أن هذا الواقع بات يجسد صراعًا على البقاء، فهؤلاء الذين يمارسون حياتهم الطبيعية على نحو غير طبيعي، يجابهون باسم حقهم في البقاء سلطةً متشددة تقول للناس إنها خُلقت لتبقى. هكذا لم يعد بإمكانك رؤية ما يحدث كصراع سياسي بين سلطة ومعارضة مثل السابق، أو صراع قوى كما يحلو للتحليلات السياسية، بل هو صراع بقاء بين شعب وسلطة تقبض على هذا الشعب بالقوة، وعلى من يجد نفسه غريبًا عن زمن أنصار الله أن يبحث له عن حياة أخرى في زمن حديث آخر.

هنا ستسأل نفسك: ما الذي سيجعل سائق الباص الصغير "مرتزقًا" إذا قال رأيًا مخالفًا وانتقد أسعار المشتقات النفطية المرتفعة والسلطة الحاكمة التي صعدت باسم "إسقاط الجرعة" في العام 2014 ثم أحدثت جرعات تفوقها بكثير؟ ولصالح أي دولة أجنبية سيكون سائق سيارة الأجرة "عميلًا" إذا اشتكى من سوء الأوضاع فيتطاول عليه حوثيون لدرجة نشر رقم سيارته في الإنترنت للتشهير به كعميل؟ وأي مناصب في الدولة تنتظر عمال البناء والسباكة الجالسين بجوار الجولة إذا انصاعوا للواقع وتوقفوا عن التذمر والانتقاد اليومي؟

لم يجرؤ ياسر، سائق باص صغير "سبعة ركاب"، على التذمر بوضوح عندما فتح معه محرر "النقار" بعفوية موضوعًا عن سعر الوقود و"هل هناك خَراج في العمل أم لا؟". يبدأ ياسر حديثه مكظومًا بـ"الحمد لله عايشين"، ثم لا يقاوم صمته فيرمي بكلمات متقطعة: "عايشين بالبركة.. كل شي غالي من أين عيجي السلا؟". بعد قليل ينفجر فجأة بحديث هو "تريند" سكان صنعاء دائمًا، ويقول: "ليش عنكذب على أنفسنا؟ مابش خراج في شي، لا دخل سابر ولا قادرين نتزوج ولا نعيش مثل الناس، وناس بيطلّعوا عماير وماعاد احّد غيرهم قادر يطلّع عماير".

يُطلق ياسر على المستفيدين في سلطة صنعاء لقب "أصحاب الألوف"، ويسخر: "احنا يا صاحبنا أصحاب المئات المقطّعة (التالفة)، الزلط (النقود) عند أصحاب الألوف والدولارات وسيارات الحبة والشاص والأراضي". يسكت بين الجملة والأخرى كمن يفكّر في أمر ما، ثم يضيف: "أعرف ناس خُبرة تحوّثوا وفتح الله عليهم والآن هنجمة وبنادق وساع الصدق، مابش واحد رفع لمسؤول يصلّحوا طريق الحارة".

ويواصل وجهة نظره: "شوف أنا احترمت أنصار الله في قرار قلب الكراسي حق الباصات الصغيرة، لأنه قرار لصالح الركاب والعوائل بسبب مضايقات أو أي شي، لكن يشتي لنا قرارات تخدم الناس صح، صلّح الطرق، اعمل حل للمتهبّشين اللي بندفع لهم زلط ولا هي ضرايب ولا هي شي، هكذا تهبّاش بس، أو حتى يسألوا أنفسهم ليش الباصات هذه كلها داخل صنعاء، قدهي لقمة العيش برضاك أو غصب عنك".

وعلى وقعِ نغم أغانٍ صنعانية على العود ترددت من حي الحصبة إلى ميدان التحرير، كان استفسارنا عن رأيه في ظاهرة الحرب على الأغنية، وأجاب: "اللي يشتي يغني يغني، وأي راكب يطلب اوطّي الصوت اوطّيه، لكن لو قال لي أغلق الأغنية أقول له ليش؟ أنت حر وأنا حر، الناس كلهم بيغنّوا ما كفرناش، الإذاعات قدهي الا زوامل، الناس شابعين زوامل".

قُدس الأقداس.. السيد!

"السيّد" مفردة أصبحت متداولة ضمن قاموس كثير من اليمنيين، وإما أن تأتي جادة وحادة على ألسنة أفراد جماعة أنصار الله، أو أن تخرج من لسان مواطن آخر تهكمًا: "قد قال لهم السيّد"، "السيّد حقهم"، وغيرها من الإشارات الساخرة من أخطر تداعيات الصعدنة الحاصلة.

صور للحوثي في صعدة.jpeg
صور للحوثي في صعدة.jpeg

عبر سنواتٍ تسع عملت جماعة أنصار الله على تقديس زعيمها، وشحن المجتمع بثقافة القطيع وتعظيم الرجل كقائد لا يفوقه أحد علمًا ومكانة، على غرار المشروع السياسي الخميني لجمهورية إيران الإسلامية، التي تتخذ من علي الخامنئي مرشدًا أعلى ومرجعًا مقدسًا. هنا "السيّد سِيْدك وعينك" وغيرها من الكليشيهات الحوثية المتداولة، ستجدها قد تخلَّلت حوارًا ساخنًا على متن وسيلة نقل عامة، أو في مجلس مقيل قات، وتعبّر بالضرورة عن تهديد مباشر للآخر ليلزم حدوده في حال انتقد "فتى الشاشة الأول" الذي يعرفه اليمنيون فقط عبر الخطب المتلفزة، القائد المصطفى عن الناس خلفًا لأخيه المؤسس حسين، السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي، الذي تُفرض خطاباته ومحاضراته المسجلة والمباشرة على منتمي الجماعة وموظفي الدولة. وعلمت "النقار" أن هذه المحاضرات المفروضة، والتي تكون إما علنية أو سرية، يُجازى المتغيب عن سماعها بخصم مالي من مستحقات الفرد المنتمي للجماعة.

شعبيًا، تحول القائد المقدس إلى رمز مناسباتي وصاحب خطابات عن كونه صاحب كلمة نافذة، وهو ما أكده أحد إعلاميي الجماعة، عابد المهذري، مدير قناة اللحظة المدعوم من السلطة والمعروف بتعرضه للانتقادات بسبب سوء إدارته للقناة.

يقول المهذري إن قيادات أنصار الله في الدولة تتمرد على زعيم الجماعة عبدالملك الحوثي ولا تنفذ توجيهاته، ومن ذلك عدم قيامهم بتشكيل حكومة جديدة ضمن خطة التغييرات الجذرية التي وعد بها الحوثي قُبيل إقالة حكومة عبدالعزيز بن حبتور. ويحدث ذلك فيما تتصاعد الصراعات بين أجنحة الجماعة في أروقة المؤسسات والوزارات على السلطة والنفوذ.

زياد قاسم، كاتب، يقول إن أنصار الله امتداد لـ"أبشع حكم ثيوقراطي تاريخي عرفه العرب، وهو دولة الإمامة الزيدية في اليمن على مدى ألف سنة". 

ولا يرى قاسم أن جماعة أنصار الله يمكن مقارنتها بجماعات دينية أخرى. يوضح لـ"النقار": "يجب تقييم الحوثيين خارج الأطر الجامدة التي يتعامل بها الغرب: جماعة دينية، جماعة مسلحة...الخ، وينبغي النظر إلى الحوثيين على أنهم "إمامة" ومنظومة كاملة وشاملة للحكم واستعباد الناس لم تنقطع منذ ألف سنة، وبالتالي فإن تصورات الحوثيين تجاه المجتمع هي نفسها التصورات التاريخية السابقة في تلك العصور".

من جهته يعتقد أستاذ علم اجتماع في كلية الآداب بجامعة صنعاء، طلب عدم الإفصاح عن اسمه، أن "الحوثيين وإن مالوا ظاهريًا إلى فكرة الدولة، فإنهم لم ولن يحققوا ذلك على أرض الواقع، كونهم أصحاب خلفية إمامية معروفة ويُسلط عليها الضوء طوال آخر عشرين سنة، وتحديدًا منذ خوض حروب صعدة من العام 2004".

يؤكد الأكاديمي لـ"النقار" أن أنصار الله خلقت خلافات وصراعات شارخة في الوسط الجامعي نفسه، تبلورت أكثر منذ تعيين الجماعة "عبدالملك عيسى" عميدًا لكلية الآداب وسط شكوك في حقيقة حصوله على درجة الدكتوراه، وكذلك خلافات على مستوى قسم علم الاجتماع. يقول: "لقد نشبت الخلافات بيننا نحن أساتذة الاجتماع فكيف بأفراد المجتمع البسطاء، لدينا فصيل يتبعون الجماعة ويعملون كجواسيس لها ويقدّسون السيد وهم دكاترة جامعيون، وفصيل مضاد ينتمي أفراده المعارضون إلى تيارات مختلفة، وفصيل ثالث لا مع هذا ولا مع ذاك فضّل النأي عن الصراعات والتركيز على التدريس".

ويضيف: "هل هذا صرح تعليمي جامعي بإمكانه أن يخرّج طلابًا نموذجيين؟ عندما يدخل دكتور حوثي المحاضرة يقول للطلاب كلامًا يحض على تأليه الحوثي، وعندما يدخل دكتور آخر يقول لنفس الطلاب كلامًا مختلفًا تمامًا، والحمد لله أن الطلاب يتخرجون بعقولهم رغم هذا الفصام".

خطاب التحريض الإيماني!

الكراهية، تشجيع العنف، ترهيب النساء، تجنيد الأطفال، وغيرها من العناوين تستحوذ على اهتمامات المجتمع الدولي وتثير قلقه، لكن مهما بلغت درجة هذا القلق الدولي فلن يكون ملامسًا لواقع اليمن كما يعيشه اليمنيون.

والواقع أن أنصار الله لم تكتفِ بفرض جباياتها غير القانونية وزيادة الأعباء المعيشية على المواطنين الذين يعانون من سابقة تاريخية هي قطع المرتبات لسبع سنوات، لكن الجماعة أيضًا بثّت خطابًا طائفيًا وعنصريًا مشحونًا بالتحريض والكراهية ضد كل من يخالفها الرأي، ويصل ذلك إلى حد اعتقال المخالفين والحط من كرامتهم في السجون، وهو ما يُعتبر بمفرده دافعًا خطيرًا لتزايد القلق في أوساط المجتمع وخلق مزيد من الشروخ على أسس فئوية تهدد سلامة النسيج الاجتماعي.

ولبَثّ مثل هذا الخطاب الدخيل اجتماعيًا وثقافيًا وفكريًا، استخدمت الجماعة عدة وسائل غير التعبئة الطائفية في المدارس والمراكز التعليمية والدورات الثقافية والمجالس المغلقة.

احد مساجد صنعاء.jpeg
احد مساجد صنعاء.jpeg

المساجد مثلًا كانت أبرز هذه الوسائل، فهي إضافةً للسيطرة عليها بشكل شبه كلي وترديد "شعار الصرخة" بداخلها إثر كل صلاة وخطبة، فإنها -أي المساجد- أنسب الأماكن من وجهة نظر الجماعة لبث الأفكار و"الثقافة القرآنية" إلى اليمنيين المسلمين وتعزيز سطوة الجماعة الدينية، فأولئك الذين يأتون إلى المسجد، وتحديدًا الجمعة، لابد أن يستقبلوا كمًا كبيرًا من الإنشاء البلاغي والخطابة التحريضية ضد أولئك "المرتزقة" المناوئين للجماعة أينما كانوا، سواء المنتمين للتيارات السياسية المختلفة، أو المستقلين من الحقوقيين والصحافيين والناشطين المعتقل كثير منهم في سجون أنصار الله.

وتنتشر أحاديث هازئة بأن البعض يفضلون ترك المساجد المسيطر عليها كليًا والذهاب إلى مساجد بعيدة نسبيًا عن مناطقهم، بحثًا عن خطيب جمعة أقل تشددًا وصراخًا.

وكانت آخر نفحات الكراهية تلك التي أطلقها مفتي أنصار الله شمس الدين شرف الدين، منتصف العام الجاري، خلال خطبة جمعة استهدف فيها الطائفة البهائية، وقال إن الطائفة تتلقى دعمًا سخيًا من اليهود وأمريكا وبريطانيا، وشدد على خطورة البهائيين وتضليلهم الناس سرًا وإفساد الشباب والشابات، وهو ما عدَّه المجتمع البهائي الدولي مقلقًا ومؤشرًا على إمكانية هدر  الدماء بسبب الكراهية.

وفي تعليق لها تقول الإعلامية والناشطة السياسية أمة الرحمن العفوري لـ"النقار" إن "الحوثيين لن ينجحوا في ترسيخ فكرهم الحوثي الطائفي السلالي، فالعاصمة صنعاء تحوي كافة أبناء اليمن من جميع المحافظات، وفيها نخب ومواطنون واعون ويدركون ماذا يعني التسليم لهذا الفكر".

وترى العفوري أن محاولات أنصار الله لتغيير هوية صنعاء محكوم عليها بالفشل، نظرًا للتباين الواضح بين ثقافة كلا المجتمعين في صنعاء وصعدة، وكذلك لأن "صنعاء تُعد مركزًا للتيارات السياسية المناهضة للحوثي، لكنها لا تزال "نارًا تحت الرماد" ولابد أن تنهض يومًا ما ضد الحوثيين" حد قولها.

وتشير العفوري إلى أن الرفض الشعبي لجماعة أنصار الله من كافة المكونات الاجتماعية اليمنية ينبع من كون "الجماعة إرهابية متطرفة اغتصبت السلطة بقوة السلاح، تؤمن بالولاية والإقصاء وترفض مبدأ الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة".

 

بين "صعدنة صنعاء" و"صنعنة صعدة"

عند تناول ملف اجتياح أنصار الله لمدنية صنعاء ومحاولة تغيير طابعها وثقافة سكانها حدّ التشويه، قد يكون مناسبًا القيام بمقاربة عابرة بين محافظتي صنعاء وصعدة في الوقت الحالي ومدى تأثير كل منهما على الأخرى.

ستجد أن صنعاء العاصمة التي تلقّفت الثقافة التحوُّثية على كافة المستويات، نجحت فقط في رفع شهية الجماعة لـ"العمارة" بداخل صعدة على نحو ما. فبينما استفاد مسؤولو ومشرفو الجماعة من خيرات البلاد والإثراء من الأموال العامة والخاصة، وأقاموا لهم موطئ قدم بصنعاء من خلال التملك أو الاستحواذ على الأراضي والمنازل والوحدات السكنية والفيلات الفخمة وبناء البنايات، ذهب أبناء صعدة في الوقت نفسه لنقل التجربة الصنعانية إلى محافظتهم وتشييد أكبر قدر من المباني الفاخرة.

وخلال السنوات القليلة الماضية أصبحت محافظة صعدة من أكثر المحافظات طلبًا لمواد البناء، بسبب توسع العمران وتشييد المباني والعمارات والفيلات والفنادق وكذا المشروعات العسكرية، كما سعت الجماعة إلى تملك الأصول وتحويل السيولة المالية إلى أصول ثابتة، عبر شراء الأراضي والعمارات في صنعاء وبناء العقارات في صعدة.

وتسود الشارع اليمني بصنعاء فكرة عدم قدرة غالبية المواطنين على البناء، مقابل حصر هذه القدرة على المسؤولين والمشرفين التابعين لأنصار الله، وبات يُنظر إلى أي عمارة تم تشييدها حديثًا على أنها تابعة لأحد الحوثيين، أو أنها لتاجر كبير أو لشخص وارث على أقل تقدير، وفق ما هو متداول.

هذا الإثراء يترافق مع تحذيرات أممية من ارتفاع مستويات الفقر وانعدام الأمن الغذائي في المحافظات اليمنية بما فيها صنعاء، وحاجة نحو 21.6 مليون شخص في اليمن (75% من إجمالي السكان) إلى المساعدة الإنسانية أو الحماية.

وحتى إشعار آخر، يعيش اليمنيون كابوسهم الأطول، وتزداد ضبابية المستقبل السياسي والاقتصادي ناهيك عن الاجتماعي، ويُتاح المجال دائمًا للترهيب واللصوصية وإفقار المواطن أكثر وتوثيق أسوأ لحظاته وسنواته داخل سجن مفتوح اسمه اليمن، وضمن حكاية عبثية يضيق بها التاريخ اسمها "أنصار الله".

شارك الخبر: