خاص - النقار مجتمع
إن كنت في صنعاء، لعلَّك شاهدت وعرفت كيف تطفح الحياة العامة بشعارات ومظاهر جماعة أنصار الله مكتوبةً ومسموعةً في كل مكان تذهب إليه. تلك الشعارات التي لم يوازن أصحابها بين الجماعة المسلحة القادمة من جبال "صعدة" شمالي اليمن، وبين الجماعة التي أصبحت سلطة منذ استيلائها على العاصمة في 2014، إذ هيمنت بمكيال "من ليس معنا فهو ضدنا"، وبالنتيجة لم تظهر بمظهر الدولة ولم تتعاطَ مع المواطنين كسلطات معنية بهم، مما أنتج -لصالح الجماعة- الفوارقَ التي بلورتها الحرب على المستويات كلها، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وحتى التربوية.
بهذا الشكل من التراجيديا السلطوية، بات للواقع في اليمن صورتان سوداوان رئيستان: الأولى أن السطوة السياسية والمسلحة للجماعة الدينية لم ترتقِ إلى عقلية الدولة في أنظار السواد الأعظم من اليمنيين حتى لدى المواطنين البسطاء الباحثين عن "الحياة الكريمة" لا عن الدولة الفاضلة، والثانية أن أنصار الله لم تهتم بما يعتقده السواد الأعظم من اليمنيين من الأساس، إذ يكفي أن تكون على رأس السلطة وذات حاضنة محددة، وليكن المواطنون الآخرون مجرد مرتزقة وطوابير خامسة وغير مؤمنين.
أزمات اجتماعية عاصفة لم تهدأ أنتجتها الجماعة، فحيث لا تكتفي بتقديم نفسها كـ"دولة" تدير شؤون الحرب والسياسة والاقتصاد والثروات السيادية، تقدم أيضًا "مسيرتها القرآنية" بوصفها طوق النجاة الأوحد للمجتمع، بما لا يدع مجالًا للخلاف أو النقاش في كون أنصار الله هم هُداة العصر في اليمن والعالم الإسلامي.
إذ تعتقد الجماعة أن المجتمع اليمني واقع في الفساد والضلال بطبيعة الحال، بناءً على رؤية مؤسس الجماعة، حسين بدر الدين الحوثي، الواردة في فكره المسجَّل والموزَّع تحت مسمى "ملازم". ردَّد المؤسس قبل نحو عشرين عامًا، أن الناس في "وضعية فساد تفسد دينهم ونفوسهم ليتحولوا إلى أعداء لله وأعداء لأولياء الله، وربما أولياء لليهود والنصارى من حيث لا يشعرون"، حد تعبيره، ورأى أن الفساد ليس "الفساد المالي" بل ذلك المتمثل في التربية والثقافة ووسائل الإعلام من تلفزيون وصحف وإذاعة وكُتَّاب.
وبعد أن اكتشف اليمنيون أنهم ناقصو دين وأخلاق، بات عليهم توخّي الإيمان عبر المنظومة الأخلاقية ذات الحق الإلهي المسماة بأنصار الله، وأصبح من المشروع "صَعدَنة صنعاء" وسائر الجغرافيا التي تحت أيديهم، وصعدنة سكانها وفق ثقافة الملازم المُلزِمة وتأهيل الأفراد على الطريقة الإيمانية الحوثية.
ويعبّر المفهوم الذي نطرحه "صَعدَنة صنعاء" عن امتداد لـ"حوثنة صعدة" بعد أن استولت عليها أنصار الله خارج إطار القانون منذ خوض الحروب الست التي بدأت في العام 2004 ضد نظام صالح السابق، إلى نجاحها في استغلال مظاهرات 2011 من أجل التوسع على أرض الواقع، وحتى خوضها معارك في صعدة انتهت بسيطرتها على المحافظة وتهجير اليمنيين السلفيين من منطقة دماج وتوسُّعها بقوة السلاح في عدة محافظات انتهاءً بسقوط العاصمة صنعاء في سبتمبر 2014.
تترجم المساعي الحوثية الحثيثة أزمة مشهودة عنوانها محو طابع صنعاء المدني من خلال نفث المفردات والشعارات والصور المعبرة عن ثقافة الجماعة واعتقال مخالفيها، وقبضتها على الشعائر والمنابر والمناسبات وكافة العناصر الاجتماعية والثقافية للبلاد، أو ما يصفه الباحث الأنثروبولوجي الفرنسي فرانك مرمييه بأنه إعادة إحياء للجانب الراديكالي من المذهب الزيدي الذي من المفترض أن يكون وسطيًا على المستوى الفكري والتطبيقي.
مطاردة المجتمع "من الشارع إلى الجنة"
للاقتراب من فهم أعمق لما تريده سلطة أنصار الله، ينبغي التطرق بالإشارة إلى مشاهد وممارسات عديدة ترتكبها "دولة" الجماعة على مدى السنوات الماضية، ويُنظر إليها على المستوى الشعبي كـ"حماقات" اضطرت الجماعة كثيرًا لتبريرها بأنها مجرد "تصرفات فردية" لا تُحسب على الإطار الرسمي للدولة، على الرغم من أن معظمها ينفذ بتعميمات وحملات نزول رسمية.
ولا تخفى مثل هذه المشاهد على أحد، بدءًا بملاحقة عبايات الفتيات ومحاولة وضع "ديزاين" ولمسة "إيمانية" لهذه العبايات ومنع تلك الزركشات والألوان والأربطة التي عليها، مرورًا بمداهمة متاجر الملابس وتجهيزات الأعراس في صنعاء وإزالة لوحاتها الدعائية التجارية التي تُظهر وجوه "نساء" ورشّ هذه الوجوه بالبخاخات تنفيذًا لحكم إعدام صادر بحق "موديل صمَّاء"، ومنع استخدام ماليكانات عرض الأزياء، ومطاردة الحملات الرسمية لأغلفة الملابس الداخلية للنساء وما تحويه من صور قادمة من الصين، وليس انتهاءً باستهداف إقامة حفلات التخرج، وإغلاق المحلات العامة والملتقيات منعًا لما يسمى "الاختلاط"، وحظر توظيف النساء في عدد من المطاعم وإرغامهن على ترك وظائفهن.
واعتبرت الجماعة أن مثل هذه المظاهر "تؤخر النصر" في حربها ضد التحالف "السعودي الأمريكي"، وتنمي لدى المجتمع ما تصفه بـ"الثقافة المغلوطة" و"قلة الوعي"، وكلها تندرج ضمن مصطلح "الحرب الناعمة".
وتعجيلًا لتحقق النصر، ذهبت الجماعة لاستهداف وسائل منع الحمل كالحبوب وغيرها إلا بموافقة الزوج أو بإرفاق البطاقة العائلية أو عقد الزواج، بموجب تعميم من وزارة الصحة التي لم تسلم منذ أكثر من عامين من السخرية لتركها مخاطر الأوبئة والأمراض المنتشرة واستهداف جهاز اللولب الرحمي الخاص بتنظيم النسل.
كما عمدت أنصار الله إلى الفصل بين الجنسين في الجامعات ومعاهد اللغة، وآخر هذه القرارات بتَّ في يوليو 2023 بالفصل بين طلاب وطالبات كلية الإعلام بجامعة صنعاء (الخاضعة للسلطة الأخلاقية لملتقى الطالب الجامعي)، والذي نصَّ -أي القرار- على تحديد أيام السبت والأحد والاثنين للطلاب مقابل الثلاثاء والأربعاء والخميس للطالبات، وذلك بعد سلسلة قرارات سابقة للفصل بين الجنسين في إعداد التكاليف ومشاريع التخرج، وهو ما علقت عليه الأستاذة بكلية الإعلام رئيسة قسم الصحافة، الدكتورة سامية الأغبري، بأنه لا يستند إلى أي مبرر علمي أو قانوني أو أخلاقي ولم يتم مناقشته مع الأساتذة وشكَّل صدمة للطلاب والطالبات الذين نادرًا ما يصدر عنهم تصرف غير لائق، وفقًا للأغبري التي أكدت التعامل الجاد في حال حدوث تصرف كهذا.
وبتعميمات من المجلس المحلي، أجبرت الجماعة عددًا من مالكي المحلات العامة، الكافيهات، في صنعاء، على تعليق لوحات في محلاتهم تضمنت منع دخول الشباب والسماح فقط بدخول النساء والعائلات، رغم كونها أماكن مفتوحة.
يتحدث الكاتب والباحث الدكتور صادق القاضي معلقًا على هذه الأزمة بالقول: "الحوثيون، كأي جماعة كهنوتية، ليس لديهم أي اهتمام بحاجات الناس الضرورية، ولا أي تصور لحل المشكلات والأزمات الاقتصادية، وبالتالي من الطبيعي أن يتعاموا عن بطون الناس، ويحدقوا في أعضائهم التناسلية، بقيامهم -بحجة منع الاختلاط- بإغلاق الكافيهات والمنتديات العامة، وفرض أنظمة رقابية وتنظيمية تعسفية متخلفة على الجامعات، وتقييد حركة الناس في الشوارع والأماكن العامة".
وفي حديثه لـ"النقار" يختلف القاضي مع مصطلح "صَعدَنة" كون صعدة لها -ككل المناطق اليمنية الأخرى- ثقافة اجتماعية ودينية طبيعية وأصيلة، أو هكذا كانت قبل سيطرة الجماعة الحوثية. ويضيف: "الحاصل أن هذه الجماعة تمارس تجريفًا واسعًا وعميقًا لهذه الثقافة الأصيلة في كل مناطق سيطرتها، بما يتلاءم مع أيديولوجيتها وثقافتها الكهنوتية الشمولية الوافدة من وراء البحار، أو من كهوف التاريخ البائدة".
هذه الظاهرة، بحسب القاضي، معروفة ومصاحبة عادةً لكل جماعات الإسلام السياسي المسلحة. ويرى أن "الغرض منها دائمًا هو ضمان استمرار وتأبيد سيطرتها على مناطقها، إذ لا يمكن للسلاح وحده ضمان استمرار هذه السيطرة من دون الاستحواذ على العقول والعواطف العامة للمجتمع".
ومن وجهة نظره فإن "هذا الأمر يقتضي على هذه الجماعة مواجهة الثقافة الأصيلة من جهة، ومظاهر التمدن والتحضر الحديثة من جهة أخرى، بما يؤدي إلى تشويه الأولى، وتكفير الثانية، وتنصيب أنفسهم وصاةً على الأخلاق وحراسًا للدين والفضيلة، ومن ثم الشروع في فرض الرقابة والقمع على المجتمع، ومصادرة الحريات العامة والخاصة، وبالذات ما يتعلق منها بالمرأة والسياسة".
"مخابرات نسوية" و"إبراز العقد عند الدخول"
في أحدث المعارك ضد الخطايا، أكدت مصادر لـ"النقار" طلب إبراز عقد الزواج للدخول في عدد من الكافيهات بصنعاء، بحجة التأكد من الارتباط الرسمي بين الشاب والشابة.
"شهاب. م" (34 عامًا) قصد أحد الكافيهات المتاحة في حي حدة مع زوجته، وطُلب منه إما إشهار عقد الزواج فورًا أو أن يكون برفقتهما أولادهما للسماح لهم بالدخول إلى المطعم، وهو ما قابله بالاستنكار ورفض الأسلوب.
ويقول شهاب لـ"النقار": "لم نكن نعلم أن الدخول إلى كافيه عام برفقة الزوجة يحتاج إلى إثبات عقد الزواج وكأنه فندق الهيلتون وليس محلًا مفتوحًا للجميع".
يضيف: "أكد لنا العاملون في الكافيه أن هذا الإجراء صادر عن المجلس المحلي، وما كان منا إلا مغادرة المكان والذهاب إلى أقرب مطعم"، ويتساءل: "هل سيُفرض علينا في المستقبل أن نحمل عقد الزواج للدخول إلى المطاعم العامة أيضًا؟ ما يحدث ليس رقابة قانونية بقدر ما هو قيود مفتعلة باسم الأخلاق في بلد ومجتمع محافظَين أصلًا".
وفي سياق مطاردة المرأة، ثمة شكل آخر من الاستهداف الممنهج تتحدث عنه خديجة. ف، العاملة كمدرّسة في إحدى المدارس الأهلية.
تقول خديجة لـ"النقار": "يعتقد الحوثيون أن صنعاء المدينة يجب أن تكون نموذجًا يوازي صعدة انغلاقًا، وذلك واضح في استهداف المرأة بالتحديد في المدينة واستهداف حركتها ووظائفها وما عملت وما لبست"، مضيفة: "نلبس عبايات ساترة بشكل تام فما الذي نلبسه بعد؟ هل هذا منطق دولة؟ تلك التي تلبس العباية بطريقة غير لائقة تمثل نفسها، لكن الحوثيين يريدون تعميم مثل هذا السلوك على نساء المجتمع، يدَّعون معالجة أمر غير لائق بشكل غير لائق أكثر".
وتتابع: "ويوظفون نساء في منطقة معينة مثل المخابرات للتركيز على نساء من نفس المنطقة وفرز اللاتي لا يحضرن إلى المناسبات في البيوت عقب دعوتهن، مثل حضور الدرس والمحاضرة، أو حضور مولد في بيت، أو حضور مناسبة معينة، وهو نفس كلام كل مناسبة، جعلوا بيننا حواجز وعداوات في المنطقة وبين الجيران بل وفي نفس البيت، وحتى في المجالس تعمل نساؤهم على مراقبة الأخريات وأحاديثهن وردع أي امرأة يمكن أن تنتقدهم بكلمة ويصل ذلك إلى التخوين، وإلى حد التبليغ على فلانة وتهديدها بالحبس".
تضيف خديجة: "يمارسون تمييزًا كريهًا ويعتبرون المرأة التي منهم وفي صفهم شريفة عفيفة، وغيرهن مشكوك في أمرهن"، وتكمل حديثها متسائلة: "من أعطاهم الحق في التعامل مع النساء والشابات كما يحلو لهم؟ هم يعبرون عن تربيتهم وثقافتهم، بالله هل هؤلاء دولة؟".
التعبئة الثقافية: يُمنع الخروج عن النص
لعل ما سبق من ممارسات -بالنسبة للمجتمع تبدو معبرة عن سطحية الجماعة- تشير إلى إيصال الجماعة رسائل تعبر عن أولوية الجماعة في فرض الهيمنة بالقوة، لكنّ أشكالًا أخرى للهيمنة يتم النظر إلى أنها أكثر خطورة واستفزازًا بوصفها تمس مختلف شرائح وفئات المجتمع برمته.
بالطبع لا نتحدث عن أن من انضموا إلى جماعة أنصار الله من مختلف المحافظات أصبحوا يتخاطبون ويخاطبون الغير بتكلُّف بلهجة أبناء محافظة صعدة، أو أصبحوا أصحاب كُنى أبوية "أبو فلان، وأبو الفلان"، فذلك، وإن أوحى برسائل معينة، يبقى أمرًا ثانويًا تم اعتماده عن طريق الجماعة المسيطرة.
لكننا نشير إلى أشكال الهيمنة تلك المتعلقة بالعقل والفكر والتعبئة العامة، ففي حين يرفض المجتمع تطبيع الحياة العامة بالطابع الأيديولوجي للجماعة، تعمل أنصار الله على تكريس ثقافتها العنصرية والطائفية عبر المناهج الدراسية التعليمية، وعبر منابر المساجد المسيطَر عليها بصورة تامة من قبل الجماعة، وكذلك إقامة الدورات الثقافية بثقافة الجماعة والمضافة إلى الدورات العسكرية التأهيلية.
يؤكد مصدر على اطلاع بعملية إقامة الدورات لـ"النقار" أن الدورات تستهدف الأطفال والشباب على حد سواء وأخذ وتسجيل بياناتهم ومعلومات عن أقربائهم، فالأطفال يتم "تأهيلهم ثقافيًا" عبر المراكز الصيفية بدورات مفتوحة ومغلقة. المفتوحة تُعقد صباحًا للأطفال في أماكن معينة كالمدارس ومن ثم يعودون إلى بيوتهم بعدها، أما المغلقة فتُنظم في أماكن إقامة سرية مهيأة لعقد الدورة، وتستهدف مختلف الأعمار من الأطفال واليافعين والشباب والكبار، وتستمر لأيام أو أسابيع أو أشهر دون مغادرة أو اتصال بأحد بسبب مصادرة الهواتف، وتصل كلفة تنظيمها إلى عشرات الملايين.
ويقول المصدر إن الدورات المغلقة يمكن تسميتها بـ"دورات البدروم" نسبة إلى الأماكن تحت الأرضية التي تقام فيها على مستوى عال من السرية، مشمولةً بتوفير الغذاء والقات وتطبيق برامج زمنية محددة، وعبر من يسمون "الثقافيين" يتم تعبئة وتلقين المستهدفين بما تسميه الجماعة "الثقافة القرآنية" ممثلة في دروس ومحاضرات المؤسس حسين الحوثي وشقيقه زعيم أنصار الله عبدالملك الحوثي.
كذلك تجبر الجماعة الموظفين المدنيين في المؤسسات الحكومية بإلحاقهم بالدورات الثقافية، وبالنسبة لهم لا تعقد الدورات بشكل منتظم أو في أوقات محددة، بل عند طلبهم بالإلزام، وتستمر دورات الموظفين لأيام معدودة، ولأن الالتحاق بها إلزامي فإن المتخلفين عنها إما أن يتعرضوا لمضايقات في عملهم أو أن يفقدوا وظائفهم الحكومية.
ويبدو أن الدورات سلاح ذو عدة حدود، فأفراد أنصار الله المتقاعسون عن تأدية ما عليهم من أوامر، أو الذين يعبرون عن آراء مختلفة نقدًا أو نصحًا، يتم معاملتهم على أنهم بحاجة إلى "إعادة تأهيل" وفرض إلحاقهم بدورات ثقافية أو عسكرية جديدة ومطولة كنوع من العقاب وتجديد الإيمان، أو بغرض التخلص منهم، ويمكن النظر إليهم يشكلون خدمة للعدو ليتم تبرير الدورات بتحصين الجماعة من الاختراق.
ذلك تطرَّق إليه أحد أنصار الله، عبدالرحمن الخزان الذي يعرّف نفسه بـ"ناشط حقوقي وسياسي". اتهم الخزان أنصار الله بممارسة "البَرَمات الإيمانية" لبعض مشرفي الجماعة في حال أرادوا التخلص "من أي مجاهد" من خلال إدخاله "دورة كذا مدتها أربعة أشهر"، وعندما يجيب المجاهد بأنه قد التحق بالدورة من قبل، يكون رد المشرف بأنه "لم يتم اعتماد الدورة التي أخذتها".
وفق منشور الخزان على منصة (X) "نستنتج نوع الفساد كالتالي: كذب وزور يمارسه البعض بهدف النيل من المجاهدين وكأنهم يشتغلون في دكاكين مشرفيهم، وإذا كان صحيحًا لم يتم اعتماد دورة كلفت المجاهد وقتًا من عمره في شعاب ووديان لمدة أربعة أشهر من العسكرة، وخسارة الدولة في هذه الدورة أكثر من 120 مليون ريال فهو فساد".
منشور الخزان منذ قرابة الأسبوع صدم منتمين لأنصار الله وشنوا عليه هجومًا وتطاولًا على شخصه، خاصة بعد أن هدد بأنه سيكشف عن فساد لقيادات في أنصار الله خلال الأيام القادمة. تراوحت التعليقات الهجومية بين مطالبات بحذف المنشور وعدم استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للتحدث عن مثل هذه الأمور لأنها "سريّات"، وبين اتهامات بالتنصل عن الدورات.
ودون الدورات، فتحت أنصار الله باب التعبئة على مصراعيه عندما قررت حشو المناهج الدراسية التعليمية بمفاهيمها ومعتقداتها الخاصة في عمق المدرسة، مستهدفة الأطفال والنشء عبر المقررات الدينية والأدبية والتاريخية بما يمكنها من توسعة حاضنتها المجتمعية ودمغ أدمغة الجيل الجديد بهذه الثقافة، وهو ما يثير مخاوف متزايدة لدى أولياء الأمور والمعلمين على حد سواء.
تُعقب المدرّسة خديجة على هذا: "أحيانًا عندما نواجه أفكارًا مستحدثة في المنهج أثناء الدرس ولم يأتِ بها من قبل إلا أنصار الله، نطلب من الطلاب والطالبات أن يتجاوزوا هذه الأفكار، وقد تعرضت إحدى الزميلات لمساءلة وإنذار بسبب هذا التصرف، لكننا نراه التصرف الأنسب حفاظًا على رؤوس الطلاب".
بذلك شقت الحرب طريقها لصراع الهويات منذ العام 2015، وبتولّي شقيق زعيم الجماعة، يحيى الحوثي، منصب وزير التربية والتعليم، قامت أنصار بإضفاء لمساتها الطائفية وإجراء أكثر من 400 تعديل على المناهج الدراسية الخاصة بالمراحل الأساسية والإعدادية حذفًا وإضافة وتأويلًا وتغييرًا، وتكريس المبادئ الخاصة بالجماعة بل وصور قياداتها.
وفي العام الماضي دعا عضو السياسي الأعلى، محمد علي الحوثي، إلى إلغاء المناهج الدراسية للصفوف من الأول وحتى الرابع الابتدائي، وإصدار قرار لقراءة القرآن الكريم فقط بمعدل خمس آيات يومياً خلال السنوات الدراسية الأربع.
خاتمة.. وليس أخيرًا
تترجم المساعي الحوثية الحثيثة أزمة مشهودة عنوانها محو طابع صنعاء المدني من خلال نفث المفردات والشعارات والصور المعبرة عن ثقافة الجماعة واعتقال مخالفيها، وقبضتها على الشعائر والمنابر والمناسبات وكافة العناصر الاجتماعية والثقافية للبلاد، أو ما يصفه الباحث الأنثروبولوجي الفرنسي فرانك مرمييه بأنه إعادة إحياء للجانب الراديكالي من المذهب الزيدي الذي من المفترض أن يكون وسطيًا على المستوى الفكري والتطبيقي.
ويمثل أنصار الله، كما يعتقد مرمييه، تيارًا راديكاليًا يهدف لتحويل المذهب الزيدي إلى شعائر وطقوس مستمدة من التيار الشيعي الإمامي الاثناعشري في نسخته الإيرانية الخمينية، وهو ما أفضى إلى الكبت الاجتماعي الخانق بالتوازي مع الأزمة المعيشة واستهداف الموظفين في المؤسسات العامة والخاصة واستبدالهم بآخرين موالين للجماعة، وكذا محاربة الموسيقى والاحتفالات التقليدية، بل وتغيير الطابع العمراني لأسواق صنعاء الداخلية التراثية، ومصادرة بعض الأملاك لإنشاء ملتقيات ذات طابع شيعي.
ومع اجتياح مدنيّة صنعاء بهذه الثقافة والسياسات، حوَّلت أنصار الله "التحوُّث" إلى "موضة رائجة" باستقطاب من يريد أن يكون مواطنًا صالحًا وغير مشتبه به، وأن يعمل بمستحقات منتظمة لقاء خدماته الحوثية الجليلة من على المكاتب أو الشاصات، ولا عزاء لشعب ينتظر الإفراج عن مرتباته المعتقلة وإخماد أزماته المعيشية المستعرة... وللحديث بقية.