حسن فحص
الهدف هو التخلص من الإرث الثقيل الذي وصل إلى حكومة رئيسي من نظيرة سلفه روحاني الذي لم يحقق لطهران أية مكاسب
باقري بعد لقائه مع مورا لمح إلى أن المباحثات لم تقتصر على الجانب النووي بل شملت القضايا والملفات الإقليمية ذات الاهتمام المشترك (رويترز)
في انتخابات رئاسة الجمهورية في إيران التي جرت عام 1997، والتي انتهت بإعلان فوز الرئيس محمد خاتمي ممثلاً الطيف الإصلاحي من القوى السياسية على الساحة الإيرانية، في هذه الانتخابات سادت مقولة شهيرة بين الأحزاب والجمهور الإيراني تقول "أكتب خاتمي وسيقرؤونها نوري" في إشارة إلى المنافس الرئيس لخاتمي في تلك الانتخابات علي أكبر ناطق نوري، الذي كان يرأس حينها السلطة التشريعية ويمثل القوى والتيار المحافظ في السباق الرئاسي.
والخلفية التي دفعت الشارع الإيراني إلى اعتماد هذه المقولة أن الاعتقاد السائد حينها أن النظام لن يسمح لمرشحه بالخسارة، وأن أجهزته المعنية بنتائج الانتخابات ستعمد إلى هندسة النتائج وإعلان نوري الفائز في الرئاسة، وقد كانت هذه المقولة السبب في اندفاع الجمهور للمشاركة والذهاب إلى مراكز الاقتراع والتصويت لخاتمي كتعبير عن حالة الاعتراض، ولم يكن هذا الجمهور يتوقع نتيجة المشاركة الواسعة والكبيرة أن يكون النظام مجبراً على إعلان خاتمي فائزاً وخسارة مرشحه نوري.
هذا الاستحضار لمقولة "أكتب شيئاً... وستقرأ شيئاً آخر"، هو لمناسبة اللقاءات المتسارعة والنشاط الدبلوماسي المتزايد الذي تقوم به الدبلوماسية الإيرانية باتجاه دول المنطقة العربية المعنية بالوساطة في الأزمة النووية، أي دولة قطر وسلطنة عمان والعراق والإمارات، واللقاءات التي تشهدها هذه العواصم بين مسؤولين إيرانيين ومسؤولين أوروبيين وأميركيين والمباحثات التي تجري تحت سقف مساعي إعادة إطلاق وتفعيل مسار التفاوض حول البرنامج النووي الإيراني.
فعلى رغم أن جميع هذه المفاوضات والمباحثات واللقاءات التي يجريها المسؤولون الإيرانيون مع نظرائهم وقيادات هذه الدول هدفها التوصل إلى صيغة وسطية ترضي جميع الأطراف المعنية بأزمة الملف النووي وأنشطة تخصيب اليورانيوم، فإنهم يتمسكون بمقولة إن هذه المفاوضات تجرى تحت سقف "إلغاء العقوبات"، أي يحاولون اللجوء إلى التخفي وراء الشعار الذي رفعته حكومة إبراهيم رئيسي بعد انتخابها بالعمل على كسر العقوبات من دون تقديم أي تنازلات في الملف النووي، على اعتبار أن الهدف هو التخلص من الإرث الثقيل الذي وصل إليها من حكومة سلفه حسن روحاني الذي لم يحقق لإيران أية مكاسب.
ولعل العودة إلى مقولة أو شعار "إلغاء العقوبات" جاءت بعد الإشارة التي صدرت عن المرشد الأعلى للنظام في لقائه الأخير مع مسؤولي الملف النووي والعاملين فيه، والمتعلقة بالقانون الذي أقره البرلمان الإيراني أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2021 بعنوان "قانون استراتيجية إلغاء العقوبات وتطوير البرنامج النووي"، وتجنبه الإشارة إلى اتفاق عام 2015 في تعليقه على المفاوضات التي تجرى في هذه المرحلة حول الموضوع النووي.
الاختباء الذي تمارسه مؤسسة السلطة في إيران وراء هذا الشعار، هي مجرد محاولة لإعطاء هذه المفاوضات صفة مختلفة عما جرى في السابق، والقول إنها لم تذهب إلى أية إعادة لإحياء الاتفاق القديم أو اتفاق جديد بمختلف تسمياته الموقت أو المرحلي أو غير المكتوب أو التفاهم، إلا أن ما يلوح في الأفق من نتائج لا تسقط كل هذه الذرائع والمسوغات لأن المحصلة النهائية ترتبط مباشرة بالأنشطة النووية ومستقبلها، بخاصة أن المرشد في كلامه حول ضرورة الحذر من الوقوع في فخ تعطيل وتفكيك المنشآت كما حصل في الاتفاق السابق، يؤكد أن الضوء الأخضر الذي صدر عنه للمفاوض الإيراني لاستكمال المفاوضات القائمة لا يرتبط فقط بإلغاء العقوبات، بل يشمل كل تفاصيل الأزمة، سواء النشاطات التي تقوم بها إيران، أو المطالب التي يسعى الجانب الإيراني إلى الحصول عليها من العواصم المعنية.
مروحة اللقاءات التي تستضيفها العواصم الخليجية بين الإيرانيين والأميركيين والأوروبيين تحمل على الاعتقاد أن طهران أو النظام يعتمد استراتيجية تفكيك المفاوضات أو التفاوض مع كل طرف على حدة، مما يعني أن المواضيع أو المشكلات أو المطالب التي تطرح على طاولة التفاوض مع كل واحد من هذه الأطراف تختلف عن المطالب مع الطرف الآخر في طبيعتها وأهدافها، لكنها تلتقي في نقطة واحدة، يمكن اعتبارها مسار اختبار نوايا وبناء ثقة تعزز المسار المتعلق والمرتبط بالبرنامج النووي، وقد تتوسع باتجاه مسائل أخرى على علاقة بالدور والتأثير الإيراني في أزمات الشرق الأوسط وآليات التفاهم حول آليات التعاون والتعامل بما يساعد على ترتيب حلول لها.
فما بين لقاءات نيويورك بين مندوب إيران الدائم في الأمم المتحدة أمير سعيد إيرواني مع مسؤول الملف الإيراني في البيت الأبيض روبرت مالي المباشر، ولقاءات الأخير مع علي باقري كني غير المباشرة في مسقط، ثم لقاء الأخير مع نظرائه من الترويكا الأوروبية في أبوظبي، وما بينها من اتصال هاتفي بين الرئيسين الفرنسي إيمانويل ماكرون والإيراني إبراهيم رئيسي استمر نحو 90 دقيقة، والجولة التي يقوم بها وزير الخارجية حسين أمير عبداللهيان على أربع عواصم خليجية هي الدوحة ومسقط والكويت وأبوظبي، جاءت تزامناً مع الكشف عن لقاء بين باقري كني ومسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي إنريكي مورا في مسقط.
وإذا ما كان الفرنسيون قد حققوا مكسباً من إيران بعد مرحلة من التصعيد تمثل بإطلاق سراح جزء من المعتقلين في السجون الإيرانية، فإن باريس لم تتأخر هي والاتحاد الأوروبي في الرد الإيجابي من خلال اللجوء إلى محاصرة أنشطة جماعة "مجاهدي خلق" السنوية التي كانت ترعاها السلطات الفرنسية في السابق بذريعة المخاوف من تعرضها لعمل أمني أو اعتداء، وهذا الموقف الفرنسي قد يكون متأثراً بإعادة تقويم بعض الدول الإقليمية العلاقات السابقة التي نسجتها مع هذه الجماعة وموقف بعض الدول الإقليمية التي نسجت علاقات مع هذه الجماعة، وتوسعت الإيجابية بالإجراء الذي قامت به الشرطة الألبانية بالتصادم مع عناصر هذه الجماعة في معسكر "أشرف 3" مما أدى إلى سقوط قتيل منهم وجرح عديد آخرين، وما يعزز وجود صفقة في هذا الإطار ما جاء في تغريدة لمسؤول العمليات في قوات حرس الثورة الجنرال عباس نيلفروشان الذي لمح إلى التزام إيران: "تفي بكل وعد تقطعه بكل إخلاص، وهذه بداية القصة".
وعلى خط المساعي التي تبذلها واشنطن تحت عنوان "إنساني" يهدف إلى التوصل إلى اتفاق مع طهران لإطلاق سراح المعتقلين، فإن التطورات على هذا المسار تكشف عن أن الملف النووي في صلب هذه المفاوضات وعلى رأس أولوياتها، لجهة أن الصفقة "الإنسانية" ستشمل الإفراج عن الأرصدة الإيرانية المجمدة في الخارج، إضافة إلى الاعتراف بما حققته إيران من تقدم في البرنامج النووي مقابل وقف أنشطة التخصيب عند مستوى 60 في المئة.
في المقابل فإن باقري بعد لقائه مع مورا لمح إلى أن المباحثات لم تقتصر على الجانب النووي، بل شملت القضايا والملفات الإقليمية ذات الاهتمام المشترك، مما قد يعني أن هناك خطوات إيرانية مقبلة ترتبط بالملفات الإقليمية قد تكون على جدول أعمال إيران في علاقاتها مع دول المنطقة وأزماتها. فهل هذا يعني أن طهران ذهبت إلى استراتيجية تجزئة الاتفاق إلى اتفاقيات موزعة على كل طرف ومقابل مطالب محددة، على أن تتعاون مع هذا الطرف في القضايا التي في دائرة اهتمامها بما فيها الإطار العام المرتبط بالملف النووي؟!