عبدالوهاب قطران
في الخامس عشر من فبراير 2024، كنتُ غائبًا في عتمة الزنزانة الانفرادية، محاصرًا بخوفٍ كثيف يهبط على الروح مثل حجر لا يُزاح. وفي ذلك الغياب القاسي، كان صوت ماجد يشقّ الظلام ويوقظ الذاكرة: صوت ماجد زايد، صديقي الذي لم يخذلني يومًا، ولا توانى لحظة عن قول الحقيقة حين كان العالم كله يُرغم أفواه الصحفيين على الصمت.
كتب ماجد يومها نصًا يهزّ القلب، نصًا يتدفّق بالوفاء والوجع والوطن المصلوب. كتب عني، لكنّه في الحقيقة كتب عن اليمن المُنهك، عن جيلٍ يتآكله الخوف، وعن حياة صارت تُشبه جدارًا مغطّى بالهزيمة.
وما يؤلمني اليوم أنّ ماجد نفسه غائب منذ سبعين يومًا في سجون استخبارات الشرطة، وأنني—حين كان خارج السجن—جرحته بكلمة ما كان يجب أن تُقال. غضبت يوم ضاع أرشيف صفحتي، فاتهمته ظلمًا، وهو الذي لم يُغلق بابه في وجهي يومًا، ولم يردَّ لي طلبًا مهما كان الوقت والمكان والظرف.
ماجد… لم يكن مجرد كاتب أو صديق عابر.
كان أخًا في الروح.
كان يحبني بصدق، ويجلّني بصفاء، ويقف إلى جانبي كما لو أن الظلم عدونا المشترك.
كلما قلتُ له: “يا ماجد… فلان مظلوم”، كان يكتب في الحال، دون تردد، دون حسابات، رغم التهديدات المتكررة من المخابرات، ورغم الضغط الموجّه إليه عبر أقاربه، ورغم الخوف الذي صار جزءًا من الهواء الذي يتنفسه الصحفيون في هذا البلد.
لم يكن يكتب ليُقال عنه شجاع.
كان يكتب لأن قلبه انساني النزعة، منحازٌ للفقراء، مثقفٌ لا يخون عقله، وقلمٌ يعرف طريقه إلى الحقيقة مهما اشتدّ العصف.
كان يكتب لأنه يرى نفسه واحدًا من الغلابى… لا من طبقات المستغلين التى تصنع الألم.
ولأنّ الحياة لا تعرف معنى العدالة في بلاد ممزقة بالخوف—خُطف ماجد.
شابٌ في عزّ عمره.
كلماته جميلة، روحه نظيفة، وقلبه معلّق بطفلتة الصغيرة التى لم تتجاوز ثلاث سنوات تنتظر بابًا يُفتح ويدًا تعود.
يا ماجد…
قلبي يوجعني عليك كما لو أنك جزء من دمي.
أعاتب نفسي كل يوم: كيف أخطأتُ في حق رجلٍ كان وفيًا لي أكثر مما كنت وفيًا لنفسي؟
كيف سمحتُ لجرح عابر أن يجرحك، وأنت الذي كنت تفتح لي صدرك حين كان العالم كله يضيق؟
سامحني يا صديقي… فقد كنتَ أكبر من الظن، وأوسع من الشك، وأنقى من أن يطالك لغو الغضب.
الحرية لك يا ماجد.
الحرية لقلمك الذي لم ينقصه يومًا لا الشجاعة ولا الكرامة.
الحرية لأبٍ ينتظره قلب طفلته.
الحرية لصحفي لا يعرف سوى الحقيقة طريقًا.
ماجد زايد ليس فقط معتقلاً.
إنه شاهدٌ على زمنٍ مريض، ورمزٌ لضميرٍ يُعتقل كل يوم، ووجهٌ جميل لليمن الذي نحبّه رغم كل شيء.