لم يعد الأمر محصورا في البحث عن الأسباب التي دفعت سلطة صنعاء لإصدار عملة معدنية ولا الأسباب التي دفعت سلطة عدن لإدانة الخطوة وإصدار قرار ينذر البنوك بنقل مقراتها الرئيسية إلى عدن. بل تعدى ذلك إلى أن توقيت الخطوتين أصبح هو السؤال المركزي. بمعنى لماذا في هذا الوقت بالذات وبعد سنوات من تلف العملة الورقية من فئة مئة ريال تقدم صنعاء على طباعة عملة معدنية؟! ألم تكن هذه الخطوة منطقية قبل سنوات أكثر من منطقيتها الآن؟ فما الذي كان يمنع سلطة صنعاء منها؟ وفي المقابل لماذا انتطرت سلطة عدن تلك الخطوة من قبل سلطة صنعاء لتقوم هي بإصدار ذلك القرار الخاص الذي يلزم البنوك بنقل مراكزها الرئيسية إلى عدن؟! ألم يكن ذلك في السنوات التي تلت نقل البنك المركزي أكثر منطقية منه الآن؟
بحسب مختصين، ثمة إشكالية حقيقية أصبح يعاني منها بنك صنعاء على الأقل في الآونة الأخيرة، فأزمة السيولة ومحاولة الاحتفاظ بأكبر قدر من رصيد العملة الصعبة وعدم المجازفة بتبديده، جعل سياسة البنك مضطربة حيث لا تستطيع التوفيق بين الأمرين. فإلزام بنوك وشركات الصرافة بعدم الصرف بالعملة الصعبة لكل الحوالات الواردة وتبديلها قسرا بالريال خلق أزمة سيولة للعملة المحلية أخذت تتفاقم شيئا فشيئا، حتى وجد البنك نفسه عاجزا عن تقديم أية حلول.
ولعل في التصريح الأخير لمحافظ بنك صنعاء هاشم إسماعيل، عقب يومين من الإعلان عن إصدار العملة المعدنية، ما يوحي بأن ثمة طعما أعطي لسلطة صنعاء بأن تقدم على تلك الخطوة مقابل التزامات ما من قبل طرف المفاوضات الآخر (الرياض). فإسماعيل طالب السعودية بالالتزام بتعهداتها التي لم يفصح عن ماهيتها بالضبط، مهددا بأنه إذا لم تلتزم هناك خطوات أخرى ستقدم عليها سلطة صنعاء بعد عيد الفطر ومنها طباعة عملة ورقية. بطبيعة الحال، ليس لأحد أن يعتبر ذلك تهديدا قد يترتب على إثره إضرار يمس الرياض. لكن قد يفصح بعض الشيء عن توافقات خفية بين الطرفين تخشى صنعاء عدم الالتزام بها من قبل الطرف الآخر، فآثرت إصدار ذلك التصريح على لسان محافظ بنكها.
وبصرف النظر عن تحميل الكثيرين لهاشم إسماعيل مسؤولية الفشل الذي وصل إليه بنكه، حيث عمره وخبرته لا يسعفانه أبدا للقفز إلى كرسي محافظ البنك المركزي فيصبح الشخص المسنود إليه رسم السياسة النقدية وترؤس اللجنة الاقتصادية العليا حسب رأيهم، بعد أن كان مجرد موظف في شركة سويد للصرافة، فإن الأمر لا يتعلق بشخص بعينه بقدر ما يتعلق بعدم وجود رؤية واضحة لدى منظومة سلطة صنعاء برمتها.
وباستثناء تغريدة القيادي في جماعة أنصار الله حسين العزي نائب وزير خارجية صنغاء بخصوص الخطوة التصعيدية التي أقدم عليها بنك عدن، فإن موقفا رسميا من تلك الخطوة لم يصدر عن سلطة صنعاء حتى الآن.
العزي اعتبر أن "تصعيد المرتزقة غير المبرر تجاه تبديل الـ100 التالفة وإصرارهم على هدم ما بنيناه مع الجوار يأتي بدفع أمريكي انتقاما من موقف اليمن المناصر لغزة"، في إشارة إلى تفاهمات كان قد تم التوصل إليها مع ذلك "الجوار" وثمة خشية لدى صنعاء من عدم الالتزام بها، خصوصا إذا ما كان هناك تدخل من قبل الأمريكي.
العزي استعمل دبلوماسية مصطلحات جديدة من خلال تحويله مصطلح تحالف العدوان إلى "تحالف مارس" قائلا: "الملفت أن أمريكا تأكل الثوم بفم المملكة، فالمرتزقة مازالوا مرتبطين بها كقيادة أولى لتحالف مارس"، مختتما بالقول: "وعملا بحسن النوايا نتوقع من الرياض وضع حد لهذا العبث".
يتبين من تغريدة العزي أن سلطة صنعاء ترى في التصعيد من قبل سلطة عدن خطوة لم يكن لها أن تحدث دون مباركة أو ضوء أخضر من الرياض، وبالتالي لا بأس من إرسال رسالة للسعودية مفادها أن نقل مقرات البنوك إلى عدن أمر لا يمكن السكوت عنه.
فالخطوة بحسب اختصاصيين ستعرض البنوك تلك لتهديد حقيقي، حيث لن يعود بمستطاع أي بنك منها عدم الامتثال لسياسة بنك المعبقي في عدن، وذلك لسبب بسيط هو أن رسالة واحدة قد يصدرها بنك المعبقي ضده في الواتس، باعتباره البنك المعترف به دوليا، تضعه في قائمة العقوبات، وبالتالي يكون البنك قد تحول بفعل تلك الرسالة من المعبقي إلى محل صرافة في أحسن أحواله. فالقرار يهدد بأن أي بنك لن يستجيب بنقل مركزه الرئيس إلى عدن، سيتم معاقبته وتطبيق قوانين غسيل الأموال وتمويل الإرهاب وهذا أمر كارثي جدا جدا.
حاول بعض ناشطي سلطة صنعاء الحديث عن عدم قانونية القرار، كون بنك عدن حتى لو تم التسليم بكونه البنك المركزي ليس من حقه ولا من مهامه تحديد مكان المقر الرئيسي للبنوك والشركات كون ذلك يعود للبنوك والشركات نفسها، وبالتالي إجبار نقل مراكز للبنوك من صنعاء إلى عدن سوف يضر تلك البنوك بشكل كبير، حسب الاختصاصيين، نظرا لأن أكثر من 70٪ من عملائها موجودون في صنعاء.
بطبيعة الحال شكل القرار ضربة قوية ومربكة بالنسبة لسلطة صنعاء، ما يجعل من اختيار هذا التوقيت بالذات عملا يتجاوز سلطة عدن وبنكها. إذ لو كان القرار قرارها فعلا لكانت قد اهتدت إليه منذ سنوات وفور سحب البنك ونقله إلى عدن.
ويبدو أن سلطة صنعاء، وهي ترى أن البساط يسحب من تحتها، لا تجد متسعا من الوقت لانتظار ما ستقوله الرياض بخصوص قرار نقل البنوك إلى عدن.
ولعل ما حدث نهار الأربعاء من مواجهات ضارية في منطقة كرش شمال محافظة لحج بين قوات صنعاء وقوات المجلس الانتقالي وسقوط 29 عنصرا بين قتيل وجريح من الطرفين، هو الرسالة التي آثرت سلطة صنعاء إرسالها على نحو عاجل كخطوة تصعيدية عسكرية مقابل خطوة تصعيدية اقتصادية. وكلتا الخطوتين لها تداعياتها الكارثية على مسار السلام الذي ينشده اليمنيون باعتبارهم المتضررين الوحيدين مما يحدث.