خاص – النقار
قبل أن يذهب الطفل محمد محفوظ إلى مدرسته الابتدائية، تضطر أم محمد (40 عاماً) لأخذ طفلها وشقيقته الصغرى منذ الصباح الباكر يومياً إلى أمام خزان مياه الحي لتعبئة جالونات المياه والتزود بكميات كافية لباقي اليوم، في مشهد يتكرر صباح كل يوم في العاصمة صنعاء.
"كل يوم ونحن على هذه الحال"، تقول أم الطفل لـ"النقار" من أمام أحد خزانات المياه وسط العاصمة، بإحدى حارات منطقة العرضي بباب اليمن التابعة لمديرية صنعاء القديمة، موضحة: "لا يصلنا مشروع المياه الحكومي، وليس لدينا القدرة على دفع قيمة وايت ماء أو نصف وايت، لذلك نأتي إلى هنا لأخذ المياه لاستخدامه للشرب وللغسل".
وفي مشهد مأساوي يعبر عن فداحة الأوضاع المعيشية التي وصل إليها المواطنون في صنعاء، تؤكد أم محمد أنه "في بعض الأحيان عندما يشتري أحد أبناء الحارة وايت ماء، فإن العديد من أولاد الحارة ومنهم ابني، يأخذون السطول لتعبئتها بالماء الذي ينهمر من مؤخرة الوايت والماء الفائض الخارج من لَي (أنبوب) الوايت".
وبجوارها عشرات النساء اللاتي ينتظرن دورهن لتعبئة المياه من الخزان، تحمّل "أم محمد" السلطة مسؤولية إيصال الناس إلى هذه الحال، قائلة إنها تجلب الماء بهذه الوسيلة منذ خمس سنوات، وتضيف: "لست الوحيدة التي تعاني من مشكلة "مسايبة الماء"، وهؤلاء كلهن نساء الحارة، وهناك نساء يأتين من حارات أخرى لتعبئة الماء".
وتطغى هذه المشكلة على السكان وتتزايد حاجة المواطنين إلى خزانات المياه (السبيل) التي عادةً ما يتبناها مواطنون مقتدرون من مختلف الأحياء، أو تكون تابعة للمساجد والباحات، إلا أن هذه الخزانات آخذة في التناقص، ويقل دعمها من قبل المقتدرين والجمعيات الخيرية نتيجة لطول الأزمة السياسية والاقتصادية، مما يهدد الأسر الفقيرة التي لم يعد لها منفذ آخر للشرب سوى هذه الخزانات.
هذه الرحلة الشاقة تأتي مرافقة لأزمة شرب حادة يعاني منها السكان، في الوقت الذي تزداد فيه مصادر تلوث المياه الجوفية مثل مياه الصرف الصحي ومكبات القمامة الحاوية على ملوثات خطرة تسقط عليها مياه الأمطار وتنقلها إلى المياه الجوفية بحسب منظمة الأغذية والزراعة "الفاو".
واليمن بين أكثر الدول العربية فقراً في مخزون المياه، لأسباب مختلفة منها تلوث الأحواض الجوفية، والحفر العشوائي للآبار الارتوازية، واستنزاف المياه بصورة حادة في ري محاصيل القات التي تحتل المساحة الأكبر زراعياً وتزداد زراعتها بما يتراوح بين 10% و15% سنوياً وفق تقارير دولية تحذر من تعمق انعدام الأمن الغذائي في اليمن.
وهناك أكثر من 18 مليون يمني يعانون من عدم القدرة على الحصول على مياه شرب صالحة ومأمونة وفقاً للبنك الدولي الذي يصف توفير مياه الشرب بأكبر المشاكل التي تواجه اليمن خلال السنوات المقبلة.
ويرى خبراء مياه أن العاصمة صنعاء سوف تعاني من نفاد المياه بحلول عام 2025، لتكون أول عاصمة في العالم تتعرض لذلك، بحسب اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
دفعت الأوضاع التي فاقمها الفساد المالي والإداري لسلطة سلطة صنعاء إلى جعل الحصول على المياه الصالحة للشرب عملاً روتينياً يومياً للنساء والأطفال على الأغلب، مع استمرار انقطاع المياه من المؤسسة العامة للمياه لفترات طويلة، وارتفاع أسعار وايتات الماء (الصهاريج).
ومنذ سيطرة الجماعة على السلطة في سبتمبر 2014، زادت شدة التأثيرات الكارثية على البنية التحتية للمياه، فإلى جانب نوبات الجفاف المتفاوتة وتغير المناخ، لم تعمل سلطة الجماعة على حل أزمة إمدادات المياه في المدن والأرياف، بالأخص في قرى ريفية لا حصر لها تعاني من قلة الخدمات الأساسية بما فيها المياه، كما لم تعمل الجماعة على تحديث فعلي لشبكات المياه المتهالكة بحسب ما أكده سكان محليون لـ"النقار".
وتلقي الجماعة باللوم في مشكلات المياه على التحالف الذي قادته السعودية، وما خلفته الحرب اللاحقة لسيطرتهم على السلطة. ومع تفاقم المشكلات المتصلة، دعت وزارة المياه -الواقعة تحت سيطرة الجماعة- المنظمات الدولية في ديسمبر الماضي إلى تنفيذ مشاريع الطاقة البديلة وتركيب منظومة طاقة شمسية للإسهام في "خدمة المجتمع وتخفيف معاناته".
واكتفت الوزارة بقول إنها ستعمل على تسهيل وتذليل الصعوبات التي تواجه المنظمات بما يسهم في تنفيذ مشاريع المياه والصرف الصحي التي تصب في خدمة التنمية، معتبرة أن انخفاض التمويلات من قبل المنظمات ساهم في تراجع مستوى تقديم خدمات المياه.
ورغم إقرار وزارة المياه بأن المنظمات خلال فترة الحرب بذلت جهوداً في خدمات المياه وتقديم الدعم للوزارة، إلا أنها لم توضح "الصعوبات التي تواجه المنظمات"، والتي دفعت بعضاً منها إلى تعليق جزء من أنشطتها أو الإيقاف الكلي للأنشطة.
وكانت منظمة "اليونيسف" أوقفت في العام 2021 دعمها مؤسسة المياه بصنعاء وسائر مناطق سيطرة الجماعة نتيجة لعمليات الفساد وتدخلات نافذي الجماعة في شؤون المؤسسة والخلافات داخل وزارة المياه على الأموال المقدمة من المانحين، والتي على إثرها عُزل وزير المياه السابق نبيل الوزير وأحالته مع عدد من مسؤولي الوزارة للتحقيق، وتم تعيين أحد المتورطين بالفساد وزيراً للمياه هو عبدالرقيب الشرماني.
وعقب وقف دعم "اليونيسف" أوقفت المؤسسة ضخ المياه في كثير من المناطق بدعوى عدم توافر وقود الديزل، مما دفع الجماعة إلى اتهام المنظمة بأنها ستساهم في الإضرار بالمواطنين.
وبعد أكثر من عامين من المناشدات الحكومية بقطاع المياه بصنعاء، عادت "اليونيسف" في العام الماضي لتوقيع اتفاقية مع صنعاء بقيمة 88 مليون دولار لدعم المياه والصرف الصحي في مناطق الجماعة خلال عامي 2023 و2024.
مصدر في مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية "أوتشا" أكد لـ"النقار" أن المنظمات لا تزال تتعرض لابتزاز من جانب سلطة صنعاء التي تعرقل الأعمال الإنسانية وتفرض على المنظمات دفع مبالغ مالية مقابل تسهيل الأنشطة الخاصة بها.
وقال المصدر الأممي إن المنظمات الأممية تنصاع لشروط جماعة سلطة صنعاءوتدفع الجبايات لمسؤولي الجماعة، وتضطر لتقاسم الحصص الإغاثية مع نافذي السلطة بنسب مرتفعة معينة تصل في بعض الحالات إلى 50% من إجمالي المساعدات.
كما أشار المصدر إلى أن الجماعة عرقلت عدداً من مشاريع المياه، واستلمت حصصاً مالية طائلة من مشاريع هيكلة شبكات مياه متهالكة، مضيفاً أن الجماعة ركزت خلال الآونة الأخيرة على إنشاء مشاريع مياه بمحافظة صعدة أكثر من غيرها من المحافظات.
ارتفاع أسعار "الوايتات"
مع بداية العام الماضي أعلنت وزارة الصناعة والتجارة بصنعاء عن تحديد أسعار بيع مياه الآبار والوايتات بقيمة 7800 ريال للوايت حجم 6 مترات مكعبة من الآبار العاملة بالمولدات (الديزل)، وبقيمة 6000 ريال للوايت حجم 6 مترات مكعبة من الآبار العاملة بالطاقة الشمسية.
لكن السكان لم يشهدوا إلا مزيداً من الارتفاع في سعر وايت الماء طوال العام 2023، حيث تراوح سعره بين 12 ألفاً و15 ألف ريال، مقارنةً بسعره البالغ ثلاثة آلاف ريال في خلال الأيام الأولى للحرب.
المواطن عبدالله الظفيري، مالك خزان وايت، قال لـ"النقار" إن أسعار الوايتات في الوقت الحالي تختلف من شخص إلى آخر، حتى لو كانوا جميعاً يجلبون المياه من بئر واحدة.
وأوضح: "هناك من يأخذ قيمة الضخة الكاملة 8 آلاف ريال، وهناك من يأخذ 9 آلاف ريال، وذلك إذا كان خزان المنزل أرضياً أو متوفراً في الشارع بجانب المنزل، لكننا نرفع السعر إلى حدود 12 ألفاً و13 ألف ريال عندما يكون خزان المنزل في أعلى السطح".
وبرر الظفيري ذلك بارتفاع سعر وقود الديزل (البالغ حالياً 9500 ريال) ورفع أسعار شراء المياه من مضخات الآبار التي يستقون منها المياه، والتي بدورها تبيع بأسعار متفاوتة هي الأخرى تفوق خمسة آلاف ريال، مضيفاً: "لم تعد أعمال الوايتات تجني أرباحاً كبيرة كما كانت في السابق، ولا يمكن تحقيق الربح إلا برفع القيمة، والدولة لم توفر الديزل بسعر معقول لكي نقوم نحن بخفض قيمة الوايت".
الحفر العشوائي لآبار المياه
في سابقة شهدها المواطنون في عهد جماعة أنصار الله، نشطت الجماعة في حفر العديد من الآبار عشوائياً في عدد من ساحات المؤسسات الحكومية وأراضي الأوقاف والمساجد، وإنشاء مضخات مياه فيها بغرض بيع المياه للسكان بأسعار مرتفعة، بالمخالفة لقانون المياه.
بذلك أوجدت الجماعة منفذاً مالياً جديداً لها للتربح والإثراء، في الوقت الذي تعاني فيه الأسر من شحة حادة في مياه الشرب.
وتشير المعلومات المنشورة إلى أن الجماعة أنشأت آباراً ومضخات في ساحات المعهد البيطري الزراعي، والمعهد التقني الصناعي، وآباراً أخرى في معسكر الفرقة الأولى مدرع سابقاً، والأمن المركزي، ومعسكر الحفا، ومعسكر ضبوة، تحت إشراف القيادي خالد المداني.
آبار أخرى استحدثتها الجماعة في وقت سابق في منزل الرئيس المعترف به دولياً السابق عبدربه منصور هادي بشارع الستين، ومنزل الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح بمنطقة الثنية، ومنزل نجله أحمد علي بفج عطان وغيرهم من المحسوبين على النظام السابق.
هذا ويستمر الحفر العشوائي لآبار جديدة في مناطق حوض صنعاء المائي، مما يعرض الحوض والمياه الجوفية لأشد عمليات الاستنزاف مع زيادة النمو السكاني بالمنطقة والتوسع في زراعة القات التي تستهلك أكثر من ثلثي الاحتياجات الكلية من المياه.