خاص
على الرغم مما خلفته حادثة التدافع بتاريخ ١٩ نيسان/أبريل في العاصمة اليمنية صنعاء من ضحايا بالمئات، واعتبارها واحدة من أكبر حوادث التدافع في العالم خلال العقد الأخير، إلا أن الدلالة التي مثلتها الحادثة كانت أكثر إيلاما ووجعا، على الأقل بالنسبة لليمنيين. فهي لم تكن حادثة تدافع في ملعب كرة قدم مثلا، أو في موسم الحج، وإنما كان الجوع هو عنوانها الأبرز والوحيد. الجوع الذي أنتجته الحرب كواحدة من نتائجها الرهيبة والكارثية على اليمنيين، شملت مختلف جوانب حياتهم.
آلاف الأشخاص يتجمعون داخل مبنى مدرسي بتزاحم عبرت عنه أحذية هي كل ما تبقى في المكان، بعد أن تركها أصحابها هناك وقد غادر ما يقرب من تسعين شخصا الحياة، فيما المئات كانوا على مشارف مغادرتها لولا أن تم إسعافهم وازدحمت بهم المستشفيات.
هؤلاء الأشخاص تجمعوا كي يحصل كل واحد منهم على مبلغ زهيد لا يتجاوز الخمسة آلاف ريال (ما يقارب عشرة دولارات) من قبل فاعل خير (تاجر). أما المكان فمدرسة معين في مدينة صنعاء القديمة، تم فتحها يومها كمركز توزيع مساعدات (زكاة رمضان). نساء ورجال، بينهم شباب وشيوخ، خرجوا آملين بالحصول على فتات لا يكفي حتى كمصروف يوم واحد، لكنه الجوع الذي لا يرحم.
لم يتم النظر من قبل المعنيين إلا في الأسباب التي أدت إلى ذلك التدافع، هل كانت نتيجة إطلاق نار مفاجئ أم ماس كهربائي في مدينة لا وجود للكهرباء أصلا في أغلب مرافقها الخدمية، فضلا عن التعليمية.
سلطة الأمر الواقع حملت المسؤولية أولا وأخيرا ذلك التاجر الذي بحسب متحدث وزارة الداخلية في حكومة الحوثيين، عبدالخالق العجري، هو المسؤول عن عملية التوزيع العشوائي لمبالغ مالية، دون التنسيق مع وزارة الداخلية وبدون تنظيم.
وبطبيعة الحال سرعان ما وجه طرف الشرعية الاتهام إلى سلطة صنعاء محملا إياها المسؤولية، فيما حاولت الأخيرة التنصل واعدة بالتحقيق في الحادثة وإعلان نتائج التحقيق في القريب العاجل، مع ما أعلنته عن مبلغ مليون ريال لكل متوف كمحاولة لتلافي تأزيم الموقف.
وأيا كانت حسابات كل طرف من أطراف الصراع للحادثة، فإن الشارع اليمني ربما يبقى وحده هو المعني بها، خصوصا وأن الدلالة التي حملتها الحادثة كانت وستظل أكثر إيلاما بالنسبة له، وهو يرى الوضع المأساوي الذي أوصلته إليه حرب الثمان سنوات، وما رافق ذلك من تجويع وافتعال أزمات في كل مناحي حياته، فضلا عن انقطاع للمرتبات وانعدام لفرص العمل وتفاقم لشبح الجوع الذي أصبح غولا واقعيا يطارد كل يمني.
فبعد أكثر من ثمان سنوات، أدت الحرب التي طال أمدها في اليمن إلى إحدى أكبر الأزمات الإنسانية في العالم، حيث يحتاج أكثر من 20 مليون يمني إلى المساعدة ويعانون من نقص الغذاء والرعاية الصحية والبنية التحتية. وفقا لمنظمة هيومن رايتس ووتش ، هجّر القتال أكثر من 4 ملايين شخص من منازلهم.
وبحسب منظمة الصحة العالمية، أصبح نحو أربعة عشر مليون شخص يواجهون خطر المجاعة.
في ديسمبر 2022، أصدرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسف" إحصائية لها عن ضحايا حرب اليمن من الأطفال كاشفة عن بيانات صادمة في هذا الصدد.
في أغسطس 2022، قالت وزارة الصحة في حكومة الحوثيين غير المعترف بها إن 15483 مدنيا لقوا حتفهم وإصابة 31598 آخرين منذ بداية الحرب في اليمن، مشيرة إلى أن من بين هؤلاء الضحايا 25 بالمائة من الأطفال والنساء.
في مارس 2023، أعلن البنك الدولي، في تقرير له، أن نحو 18 مليون يمني يعانون من نقص إمدادات مياه الشرب المأمونة وخدمات الصرف الصحي، ويحتاج 16.2 مليون شخص إلى مساعدات طارئة عاجلة بسبب انعدام الأمن الغذائي وحتى سوء التغذية.
ووفقاً لتقديرات الأمم المتحدة، كان هناك 24.1 مليون شخص في عام 2023 "معرضين لخطر" المجاعة والمرض، وزهاء 14 مليون شخص منهم بحاجة ملحة إلى المساعدات.
ووفق تقديرات رسمية يمنية، فإن نسبة الفقر وصلت إلى حوالي 80% ، مقارنة بنحو 49% كانت عليها في العام الذي سبق الحرب التي اندلعت عام 2015.
أما توقف الرواتب منذ ما يقرب من ثمان سنوات، فقد دفع بنحو 1.2 مليون موظف حكومي كانوا يعتمدون منذ عقود على ما يتقاضونه من الوظيفة الحكومية نحو هاوية الفقر والجوع، يقابله انهيار اقتصادي متلاحق سواء في مناطق سيطرة هذا الطرف أو ذاك، ترجمه انهيار العملة الوطنية أمام العملات الأجنبية.
تبقى حالة التدافع المؤلمة، التي راح ضحيتها مئات الأشخاص بين قتيل ومصاب خرجوا للبحث عن فتات مساعدات نقدية، هي التعبير الأمثل للحال والمآل اللذين وصل إليهما اليمن إثر الحرب القاتلة والمنهكة التي تعصف به منذ سنوات، ولا حل يبدو في الأفق سوى مراهنات يائسة من قبل الأطراف الداخلية والخارجية على بقاء الوضع على ما هو عليه.