أحمد سيف حاشد
أنا كافر في وجه الجوع الذي يريد إذلالانا.. كافر في وجه استلاب الوعي وتدجين البشر.. صرخة في وجه قدري اطلقها كالقذيفة: لا وألف لا.
ألف لا..
أحمد سيف حاشد
الإهداء: إلى المعتقل الحر أبو زيد الكميم
والمخفية قسرا إيمان البشري.
بعد ما قاله لي صديقي حسين، وما كشفه لي رفيقي عبدالوهاب قطران عن معنى انتمائي وأمثالي في الثقافة والمخيال الشعبي، لدى بعض قبائل ومناطق اليمن، أو بعض المجتمعات المحلية فيها، وما يلحق صاحبها من الانتقاص والنظرة الدّونيّة، لم أخجلْ ولم أتخف ولم أحاول جبر ما بدا مكسوراً، أو ستر ما انكشف، بل على العكس، دافعت عمّا أعتقد باعتزاز يليق، ولم أخشَ من معايرة، ولم أتحرّجْ من عمل والدي، أو من المهن التي ارتادها خلال تاريخ حياته، بل اعتززت بنفسي كثيراً، وبأبي الذي حفر في الصخر من أجلنا لنعيش بكرامة، واعتززتُ بانتمائي الذي استطاع أن يحجز له مكاناً في الصخر الصّلد، وبتحدٍ مضاعف، ليكون وأكون كما يجب.
غيرَ أنَّ الأهم أنَّني لم أنجرْ إلى البحث عن عصبيةٍ صغيرةٍ مقابلة، تقتل أو تشوّه الإنسانَ الكبيرَ الَّذي أدّعي أنه يملؤني، ويسكن وعيي ووجداني، ويدأب إلى تحصيني من أي هشاشة تعتريني، ولم أتنازلْ عن الضابط الاخلاقي المنسجم مع هذا الإنسان الذي يسكنني، أو الإنسان الذي أبحث عنه خارج وجودي.
لا يعني هذا أنَّني لا أقاوم، ولا أهاجم الاستصغار الذي يحيط بي، أو يحاول أن ينال من شرائح وفئات مجتمعية من حقها أن تحظى بحقوقها كاملة، وأولها حق المواطنة.. ولم أبحث - يوماً - عن انتماء آخر لا يليق بي كإنسان أولاً.. ولكن أيضاً لزم أن نثور في وجه الفراغ والفرعنة.
*
أنا لا أفتري ولا أدّعي محض باطل.. لستُ سليل النبي، ولا المهدي المنتظر، ولا أدعي أني الإله أو ابنه، أو جئت من ماء السَّماء.. أنا الوجع المصابر في مغاور جرحي المكابر.. قوة الحق اذا الباطل طغى، والأمان إذا فخخ الظالمون دروب الباحثين عن وطن.
أنا الجُرح العنيد، والعناد الأشد في وجه فرعون الإله.. أنا "اللآت" كلها، والرفض المستميت في وجه الفرعنة.. أقتات جرحي دون ذلة أو سؤال.. اتفيأ الشمس المطلة من شماريخ الجبال.. إذا دهري تآكل، وأحزاني بلغت مداها، فما زال شبابي يضج بعنفوانه، ويقدح ناراً ونوراً في وجه الدجى وأشباح الظلام.
ربما يبكيني جائع ويذلنّي محتاج عزيز، ولكنّي أرفض الكون إذا زيفه يريد إخضاعنا، أو إرغامنا على أن نعبد تيجانه.. أرفض الفيزياء التي تكفّر من يخوض في علمها، أو تستبدل الحقيقة بنت عمها.. أنا كافر في وجه الجوع الذي يريد إذلالانا.. كافر في وجه استلاب الوعي وتدجين البشر.. صرخة في وجه قدري اطلقها كالقذيفة: لا وألف لا.
*
أنا ابن الدبَّاغ الّذي يثور على واقعه كلّ يوم دون أن يكلَّ أو يملّ أو يستسلم لغلبة.. ابن الدبَّاغ الذي لا يستسلم لأقداره، ولا يُناخ، وإن كانت البلايا بثقل الجبال الثقال.. ابن الدباغ المجالد الذي يعترك مع ما يبتليه، ويقاوم حتى النَّزعِ الأخير.
ابن الفلاح الَّذي يتمرّد على مجتمعٍ لازال يقدَّس مستبديه.. ويقاوم سلطة لا تستحي عندما تدّعي.. سلطة تدعي العدل، وطغيانها أكبر من محيط... تتعالى بمنخريها على وطني الكبير.. سلطة تخصخص المواطنة، وتوزع صكوك الغفران كما تريد، وتغيّب المساواة، وتنشر الفقر كالظلام الكثيف، وتحبس الحرية في كاتم من حديد.
أنا أُجرّم القتل ولا استسهله، ولا أشرب الدم ولا أسفِكه، ولكنّي متَّهم بشرب الكحول.. أنا ابن لأبٍ لا يبيع الموت ولا يهديه، ولا يجعله مقاساً للرجولة أو معبراً للبطولة.
أبي صانع الحلوى وبائعها، يأكل من كدِّه ومن عرق الجبين.. ينشر الفرح والطعم اللذيذ، ويرفض الحرب والدمار ونشر الخرائب.
أنا ابن أبي، لم أبنِ مجداً على أكوام الجماجم، ولم أحتفِ يوما أو أفاخر باتساع المقابر، أو بطوابير النعوش الطويلة، ولم أطرب لركام الضحايا، ولم أضُخْ الكراهيَّة، وغلائلَ الحقدِ الدّفين.
*
أنا ابن أبي المُثقل بأحمال ثقال.. نكدُّ حد العي، ونشقى من غبش إلى عشيّة.. لم نُقِم الحزنَ يوماً في مبيتٍ، أو نبيع وهماً للضحية.. زيفوا الوعي بآلاف الخطب.. وأثقلوه بألف دس وفُرية.
روجّوا للدجل من أعلى المآذن.. أشعلوا النار ألف ونيف.. وأثقلوا الأرض بأحزان المياتم.. أطمعوهم بحور العين وأنهاراً من عسل وخمر.. وخبأوا المكر تحت المعاطف واللحى.. وخبؤوا تحت العمائم ألف جلاد وليل.. نحن إن شربنا الكيف خلسة.. تسفح العين لألي، وإلى الله نسافر.
أنا لا أفاخر بهندِ، ولا بمن تأكل الأكباد.. ولا أفاخر بنسبٍ أو قبيلة أو بقاتل.. لا أتسول التاريخ زادي، ولا أدّعي سلطاناً وميراثاً.. ولا أدعي حقاً من قبل آدم وحواء، أو ما قبل الثريا.
أنا لست من ماءِ السَّماء، ولا أفاخر أني سليل لعلي أو فاطمة.. أنا أبي الدباغ والفلاح، وبائع الحلوى أنشر البهجة والفرح.. أبي كابد الدهر وعانى، واقتات من عرق الجبين.
أنا لستُ الأنا المثقلةَ بذاتها وذواتها.. أنا أقذف الأنا في وجهِ المستبد، غيرُ نادم، وأناضل لإزاحة الظُّلمِ الّذي أثقل كلًّ كاهل.. أنا الأنا الّتي تعتز وتفاخر، إنّها ليست من ماء السماء، وتقاوم من يراها إنها جاءت من روث الحمير.
أنا الحالمُ ابن الأحبة.. أنتمي للحُلم الكبيرِ كبَر المجرَّة، بل كبَر هذا الكونِ الفسيح، الّذي يكسر المحابس ويسافر للبعيد، دون حدود أو منتهى.