• الساعة الآن 01:54 PM
  • 21℃ صنعاء, اليمن
  • -18℃ صنعاء, اليمن

تدمير القطاع المصرفي.. كيف حوَّل أنصار الله اليمن إلى "شركات صرافة"؟

news-details

لا يبالغ الاقتصاديون إذا أكدوا أن سلطة أنصار الله سحقت القطاع المصرفي في اليمن بسياسات وخيمة أبرزها إتاحة المجال المفتوح لإنشاء منشآت وشركات صرافة تتكاثر كخلايا سرطانية في أضلاع الاقتصاد.

الجماعة بذلك حولت العاصمة صنعاء والمحافظات الأخرى إلى ما يشبه "شركة صرافة كبرى" خاصة بها، بعد أن كان الاستثمار في "الصرافة" قبل حكم الجماعة مجرد استثمار غير رابح بما فيه الكفاية، نظرًا لمحدودية الحركة المصرفية وضيقها آنذاك، ووجود رقابة فاعلة للبنك المركزي اليمني وأكبر الأجهزة الأمنية.

الآن لم تعد شركات الصرافة وشبكاتها رائجة رواجًا طاغيًا فحسب، بل أصبحت ملاذًا آمنًا أيضًا لعمليات غير قانونية كتهريب وغسل الأموال، بما فيها الأموال بمليارات الدولارات التي انتزعتها الجماعة من خصومها، إضافة للموارد المحلية المختلفة الواقعة تحت سيطرة الجماعة.

ويمكن تلخيص كيف استحوذت شركات الصرافة على الجهاز المصرفي على حساب البنوك، في أنّ النقد انتقل من البنوك إلى الصرافة منتصف العام 2016 إثر أزمة سيولة ضربت البنوك في مقتل تزامنًا مع توقف البنوك الخارجية عن تعاملها مع البنوك اليمنية، وهو ما عزز بدوره سيطرة الصرافين على فوارق الصرف في الريال اليمني بالنقد والشيك، وألحق بعملاء البنوك خسارة نسب كبيرة من ودائعهم بسبب فارق الصرف.

وعندما بات صعبًا على الأفراد الحصول على ودائعهم في البنوك التي فقدت الثقة، اتجهوا إلى شركات الصرافة المتوالدة. ليسوا وحدهم، بل اتجهت أيضًا الجهات غير الحكومية إلى هذه الشركات، وهيمن الصرافون على العمليات المالية والحوالات الداخلية والدولية، مما زاد انتشارهم على نطاق واسع برعاية أنصار الله، وقامت الشركات بتطوير خدماتها ومزايا فتح الحسابات الشخصية لديها، وأُنشئت شبكات التحويل على نحو لم يسبق له مثيل.

لم يقف الأمر عند فتح الأفراد والجهات غير الحكومية حسابات لدى شركات الصرافة بشكل مخالف للقانون الذي يوكل للبنوك هذه المهمة حصرًا، بل يتجاوزه إلى فتح "حسابات حكومية" لدى الصرافين كما علمت "النقار"، وهو الحال نفسه في عدن، وقانونًا لا يجوز فتح حسابات حكومية حتى في أي بنك من البنوك غير البنك المركزي اليمني، وفق المادة (39) من القانون المالي رقم (8) لسنة 1990 والذي طالعته "النقار"، ويجوز فقط لوحدات القطاع العام ذات الطابع "غير الخدمي" فتح حسابات لدى البنوك التجارية التي تملك الدولة ما لا يقل عن 51% من أسهمها بحسب المادة (42).

ذلك كله يطرح التساؤلات حول قانونية إدارة الأموال بشكل عام في الاقتصاد المنهار، ويقتضي تتبع كيف أنتجت الجماعة هذا الكم الهائل من بؤر الصرافة ومدى تأثيرها على الاقتصاد.

سحب البساط من البنوك 

بخطى متسارعة عملت سلطة أنصار الله على تدمير القطاع المصرفي بترك الحبل على الغارب لإنشاء شركات صرافة يعود كثير منها إلى قيادات ومشرفي ومقرَّبي الجماعة، وقامت بضخ السيولة النقدية الأضخم إلى هذه الشركات وأخلَّت بانتظام الدورة النقدية، مما جعل السوق رهينة بيد مالكي النقد الجدد، الصرافين.

هكذا محت الجماعة الثقة الطبيعية في البنوك عبر سياسات الاستهداف. وحول ذلك يرى الخبير الاقتصادي اليمني فارس النجار، في حديث خاص لـ"النقار"، أن أنصار الله ضربت القطاع المصرفي بمنع البنوك التجارية للوصول إلى استثماراتها وفوائدها، إذ إن معظم الاستثمارات كانت (بنحو 90%) في أدوات الدين الداخلي أو ما يسمى بالسندات الحكومية وأذون الخزانة بحكم أن الاقتصاد اليمني هش ولم يكن هناك دفع كبير باتجاه استثمارات حقيقية، ويصل إجمالي تلك الاستثمارات في سندات وأذون الخزانة إلى 2 تريليون ونصف التريليون ريال يمني.

"منعُ جماعة أنصار الله للبنوك التجارية من الحصول على أموالها المجمدة لدى البنك المركزي أو الحصول على فوائدها، وأخيرًا إقرارها قانون منع المعاملات الربوية كشرعنة لسرقة أموال البنوك، كل ذلك تسبب في عجز لدى البنوك عن الوفاء بالتزاماتها مع المودعين، ولأن الثقة فُقدت في القطاع المصرفي، أنشأ الحوثيون قطاعًا آخر يتمثل في شركات الصرافة هذه"، يقول النجار.

ويضيف الخبير الاقتصادي بأن "الحوثيين دخلوا السوق بأكثر من 2000 شركة متعددة منها شركات صرافة، وأرادوا تشكيل هذا القطاع المصرفي الناشئ كقائم بديل على أعمال البنك المركزي بالمخالفة لقوانين البنك، وبالتالي أنشأ الحوثيون اقتصادًا موازيًا يستطيعون من خلاله التحكم بالقطاع المصرفي وغسل الأموال".

ويؤكد النجار أولوية الجماعة في "المضاربة على العملة والتحويلات الخارجية وإعادة تدوير الأموال التي قامت بنهبها، إما من خلال تدويرها داخليًا والاستفادة بها عن طريق المضاربة بالعملة، أو تحويلها إلى الخارج ودخولها مرة أخرى إلى البلاد عن طريق سلع وخدمات، وهي وسيلة لعملية غسل الأموال المشبوهة".

من جانبه ينظر المحلل المصرفي أحمد سلام، إلى أن "الانتشار الواسع لشركات الصرافة يوصل رسائل من الجماعة إلى سلطات عدن مفادها أن الحوثيين قادرون على التصدي للانقسام النقدي بين صنعاء وعدن بإتاحة المجال لفتح صرافات مرتبطة بالبنك المركزي بصنعاء تدير عملياتهم المالية، دون الاهتمام بالنتائج وبتعطل أدوات السياسة النقدية وغيرها".

وتعتقد أنصار الله أنها تمكنت من السيطرة على الاقتصاد في مناطقها وفقًا لسلام، مضيفًا: "السيطرة بهذا الشكل في الوقت الحاضر تثبت أنه لا يوجد لدى الجماعة أية سياسات اقتصادية ومصرفية بشأن المستقبل".

الآثار على "بلد المليون صرَّاف"

التشوه الناجم عن الانقسام النقدي واهتزاز الثقة في القطاع المصرفي وضياع ودائع المودعين، أثَّر بشكل كامل على الاقتصاد وفق رؤية الخبير فارس النجار، "حيث زادت حدة المضاربة بالعملة، وحتى المضاربة بمناطق عدن لا تخلو من أيادي الحوثي وشركات الصرافة التابعة له، وهو ما أثر على حدة التضخم في العملة وانعكس على أسعار السلع والخدمات".

وفي التداعيات أيضًا، يشير النجار إلى تقلُّص تدفقات الأموال "الاستثمار الحقيقي"، وبالتالي "يقل الناتج المحلي الإجمالي، وتتأثر كافة مؤشرات الاقتصاد فتزداد البطالة ويرتفع التضخم"، ويتابع: "دخلنا في مرحلة الركود التضخمي الحرجة، وهي مرحلة تدني النمو الاقتصادي مقابل ازدياد البطالة مع وقف الإنتاج".

وعندما تضاءل القطاع الخاص الحقيقي بنسبة 50%، وتعرّض 35% منه للإفلاس "حلّت محلَّ القطاع الخاص شركات تتبع ميليشيات الحوثي وقوى سياسية واقتصادية أصبحت تتحكم بالمسار الاقتصادي في اليمن، وهذا له دلائل ومآثر على المستوى البعيد في حال خسارة المليشيات عسكريًا، بحيث تبقى مداميك اللعبة في التحكم الاقتصادي بيدها، وهو أمر خطير على المستقبل المتوسط والبعيد" حسب قول الاقتصادي النجار.

وبعد مرور السنوات وتفاقم الانهيار الاقتصادي في "بلد المليون صرَّاف" إن جاز التعبير، يبدو أن جماعة أنصار الله أدركت متأخرًا أنها تسببت في كارثة اقتصادية بفتح سوق صرافة عبثية، لكن دون وضع حلول تقتص المشكلة من الجذور.

ففي نهاية أبريل 2023، قرر البنك المركزي بصنعاء منع الترخيص لشركات صرافة جديدة أو لفروع جديدة للشركات القائمة، أو لمنشآت صرافة جديدة، في أي موقع يكون فيه عدد فروع البنوك أو الصرافة المرخصة 3 فروع أو أكثر في نطاق 4 كيلومترات من ذلك الموقع.

واكتفى مركزي صنعاء بتحديد رأس مال منشآت وشركات الصرافة عند "مليار و250 مليون ريال لشركات الصرافة المشغلة لشبكات الحوالات المحلية، و500 مليون ريال لشركات الصرافة، و100 مليون ريال لمنشآت الصرافة في المناطق المتوفرة فيها خدمات مالية، و50 مليون ريال لمنشآت الصرافة في المناطق غير المتوفر فيها خدمات مالية".

كذلك فرض على المنشآت والشركات إيداع ضمان نقدي بالريال لدى البنك بما يعادل 25% من قيمة رأس المال، مع منح الشركات والمنشآت المرخصة مدة 8 أشهر لرفع رأس المال ولإيداع الضمان النقدي اعتبارًا من تاريخ صدور القرار.

ويعلّق عليه المصرفي أحمد سلام بحديثه لـ"النقار": "هم لم يحلوا مشكلة تكاثر الصرافين المنافسين للبقالات، بل فرضوا بهذا القرار أعباء على الشركات التي لا تتبع الحوثيين ويعاني أصحابها من الدخل المحدود والعجز عن تغطية المصاريف التشغيلية".

ويضيف سلام: "هناك صرافون على باب الله ليسوا حوثيين، وبعضهم لا يتمكن من تغطية مصاريفه، ويضطر للدفع من رأس المال للضرائب والواجبات ورسوم البنك المركزي ورسوم المحاسب القانوني وغيرها من الرسوم".

وبين "صرَّاف حوثي" و"صرَّاف مسكين" لا تزال المشكلة قائمة، إلا أن صانع المشكلة يبقى هو صاحب السلطة الذي يربّي أرباحًا وثروات طائلة لا تخطر على بال اليمني المهموم فقط بتوفير اللقمة لأسرته بشق النفس، في وطن منكوب طال ارتهانه لإدارة "جماعة أنصار الله للصرافة والتحويلات".

 

 

شارك الخبر: