استغرق وقتاً طويلاً استمر لأكثر من ثلاثة أعوام التوصل إلى مسودة اتفاق حول القضايا الإنسانية وهو تعبير، كررته مراراً، عن مدى انعدام الثقة بين أطراف الحرب على رغم استمرار المساعي التي بذلها مبعوثو الأمم المتحدة، إلا أن فشلهم المتكرر كان مرتبطاً بامتناع القوى المحلية عن تسريع إنجاز صفقات تبادل الأسرى اليمنيين من المعتقلات اليمنية، ناهيك عن المحاولات لفتح الطرقات التي تسبب إغلاقها في خنق حركة التنقل بين المدن وحصارها، بخاصة محافظة تعز التي كانت الأكثر معاناة.
وعلى رغم الانفراج الذي أحدثه التحرك السعودي - العماني الجاد والمستمر لإقناع الأطراف اليمنية بضرورة الدخول في تنفيذ المبادرة السعودية لإنهاء الحرب اليمنية التي أعلنت في الـ22 من مارس (آذار) 2022 وكانت من نتائجها المباشرة إعادة تشغيل ميناء الحديدة أمام حركة السفن التجارية وكذلك فتح مطار صنعاء إلى الأردن، أقول على رغم هذا التحرك الإيجابي من الدولتين والرحلات المتبادلة بين الرياض وصنعاء ومسقط إلا أن العقبات والاشتراطات أعاقت الخروج بصيغة موحدة حول دفع الرواتب وفتح الطرقات.
ستظل الملفات كافة المرتبطة بوضع حد نهائي للحرب اليمنية مفتوحة أمام المجهول إذا لم يتم الانتهاء من المسار الإنساني، ومن دون ذلك سيبقى الحديث عن الدخول في المسار السياسي مجرد أمنية لا ترتبط بالواقع وتبتعد من كل ما يهم الناس المحاصرين في الداخل والخارج.
لقد مضى أكثر من تسعة أعوام منذ استيلاء جماعة أنصار الله الحوثية على العاصمة صنعاء في الـ21 من سبتمبر (أيلول) 2014، كما مضى أكثر من ثماني سنوات على عودة "الشرعية" لعدن التي كان من المفترض أن تشكل نموذجاً صالحاً وجاذباً لليمنيين وحاضنة تهيئ لاستعادة السلام، ولكن الذي حدث أن السلطتين لم تتمكنا من الارتقاء إلى الفعل الأخلاقي الواجب عليهما وصارت "الشرعية" منافساً جاداً للحوثيين في العبث بموارد البلاد وإفساد الوظيفة العامة.
كنت من الذين استهدفوا الرئيس عبد ربه منصور هادي واتهمه بأنه يعرقل التوجه نحو إنهاء الحرب وأن إزاحته كانت أمراً حيوياً حتى تتحرك الأوضاع بصورة إيجابية، وجرى ذلك فجر السابع من أبريل (نيسان) 2022 ثم جاء البيان الختامي للمشاورات اليمنية في الرياض ليؤكد أن الحل العسكري أثبت فشله وأن المسار السياسي هو المتاح الوحيد أمام اليمنيين.
حتى هذه اللحظة لا يبدو أن المناخ مهيّأ للحديث عن مسار سياسي لأن الأطراف اليمنية مستفيدة من الإبقاء على الأوضاع على حالها، فالسلطة "الشرعية" منشغلة بترتيب أوضاع مناصريها بخطوط مناطقية ولا تلتفت إلى اليمن كوحدة جغرافية تتحمل مسؤوليتها، ويكفي هنا استذكار الخطاب الذي ألقاه محافظ الحديدة بداية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وهدد خلاله بالاستقالة نتيجة انهيار كل الخدمات في المديريتين اللتين يتحكم بهما (بقية المديريات يسيطر عليها الحوثيون) واتهم الشرعية بتجاهل كل مطالباته.
وقبل يومين أعلن محافظ حضرموت أنه سيستولي على كل الإيرادات التي يتحصل عليها من منفذ الوديعة الحدودي وسيودعها في حساب خاص، متهماً الحكومة بأنها لا تقدم للمحافظة أيّاً من متطلباتها التنموية، وقد منح الرئيس رشاد العليمي المحافظة صلاحيات الحكم المحلي الكامل عند زيارته لها في يوليو (تموز) الماضي، وهي خطوة غير دستورية وغير مدروسة وتفتح أبواباً للعبث في إنشاء مقاطعات يمارس فيها المحافظ مسؤولياته من دون رقابة محلية أو مركزية.
في الطرف الثاني تقوم جماعة أنصار الله الحوثية بإدارة السلطة في الرقعة الجغرافية التي تتحكم فيها منفردة، ولكنها لا تقوم بما على سلطة أمر واقع من مسؤوليات تجاه المواطنين الذين يعيشون في نطاق نشاطاتها، على رغم أن مواردها المالية صارت تفوق موارد الحكومة الشرعية (من دون الدعم السعودي المستمر)، خصوصاً بعد وقف تصدير النفط نتيجة تهديدات الحوثيين بقصف السفن التي تقترب من ميناء التصدير، ومن الغريب أنها عجزت عن تشكيل حكومة جديدة بعد إقالة الدكتور عبدالعزيز بن حبتور في الـ30 من سبتمبر الماضي، مما يدل على عدم اكتراثها بالعمل المنظم في أدنى حدوده.
يرفع الطرفان اليمنيان شعاراً واحداً أثيراً عندهما وتافهاً في آن هو "لا عجلة في نيل استحقاقات السلام فنحن غير معنيين بالمواطنين"، وهو توصيف للواقع الذي يدفع المواطن كلفته لوحده، بينما تستفيد السلطتان من استمرار هذا الواقع الذي انزلق باليمنيين إلى مستويات غير مسبوقة من الفقر والقهر والعبث والفساد.
إن جهود الرياض ومسقط لفتح الباب الواسع للتوصل إلى حدود دنيا من التوافقات الإنسانية تواجه مقاومة باستحداث جماعة أنصار الله الحوثية لشروط جديدة كلما كان الاتفاق قريباً من الإنجاز، ثم جاءت أحداث ما بعد السابع من أكتوبر لتضع الملف اليمني بعيداً من اهتمامات العالم والإقليم الذي لا يستطيع أن يلزم الطرفين التحلي بالمسؤولية الأخلاقية والإنسانية والوطنية ومجرد إبداء الاستعداد للتنازل عن مصالحهما الخاصة. لا يختلف الفساد المالي والعبث الإداري والاختلالات الأمنية في عدن وصنعاء وهذه الحال هي التي تعطل المسار الإنساني، فما بالنا بالحديث الوهمي عن مسار سياسي.