• الساعة الآن 05:19 AM
  • 17℃ صنعاء, اليمن
  • -18℃ صنعاء, اليمن

استقرار سعر الصرف في صنعاء.. الوهم الذي تحقق

news-details

خاص - النقار | صنعاء

أحدث الانقسام النقدي بين مناطق أنصار الله والحكومة المعترف بها دوليًا، فارقًا واضحًا في أسعار الصرف يصل إلى 1000 ريال، فانهيار قيمة العملة المحلية في عدن تجاوز 1500 ريال للدولار رغم استلام ودائع خليجية متتابعة، مقابل حالة استقرار نسبي في صنعاء حول 530 و550 ريالًا للدولار، وكان ذلك أكثر ما يلفت خلال ظروف الحرب ويستدعي النظر في ما إذا كان ثبات أسعار الصرف واستقرارها بصنعاء حقيقيًا بالفعل أم وهميًا مفتعلًا.

في منظور أنصار الله، تحقَّق استقرار أسعار الصرف بمناطقهم من خلال انتهاج الجهات المالية سياسات نقدية مبنية على دراسات اقتصادية عالية الدقة، حالت دون إغراق السوق المصرفية بالعملة الجديدة التي قامت سلطات عدن بطباعتها منذ عام 2017، والتي يعتبرها أنصار الله حاليًا "غير قانونية"، وبهذا تؤكد الجماعة أنها حققت انتصارًا اقتصاديًا في كبح التضخم والحفاظ على قيمة العملة عبر منعها تداول العملة المطبوعة وسحبها من السوق.

يهدم اقتصاديون هذا القول بتأكيدهم على أن سعر الصرف واستقراره في صنعاء وهمي وله أبعاده المرتبطة بتضخم أسعار السلع وبممارسة القوة السلطوية على السوق المالية والمصرفية، وهو ما تعتبره أنصار الله غير واقعي ويقلل من جهودها وسياساتها النقدية المعمول بها عبر البنك المركزي بصنعاء، وفي هذا التقرير تتناول "النقار" جوانب من هذا الملف للرد على التساؤل أعلاه.

خلفية: أزمة العملة النقدية الجديدة

 

في بدايات العام 2017، استلم البنك المركزي بعدن من شركة "جوزناك" الروسية أول دفعة من الطبعة الجديدة للريال اليمني بشكله الجديد والأصغر حجمًا من العملة اليمنية المتداولة (الطبعة القديمة)، وبقيمة 200 مليار ريال، وجاءت طباعة النقد دون غطاء من النقد الأجنبي، بغرض مواجهة العجز في الميزانية العامة وتلافي المشاكل المالية الناجمة عن شحة السيولة وفقدان إيرادات النفط وتجميد الأرصدة اليمنية في بنوك الخارج.

كانت ردة فعل أنصار الله هي الدعوة -في منتصف 2017- لمقاطعة هذه العملة الجديدة ومنع تداولها بهدف تخفيف الآثار التضخمية لهذا التوسع النقدي الذي من شأنه استنزاف العملة الأجنبية المشتراة من صنعاء إلى عدن، مما سيُفقد أنصار الله جزءًا من سيطرتهم على السوق المالية. كان قد دخل جزء ضخم من العملة الجديدة إلى صنعاء والمناطق المجاورة، وعلى مدار العامين اللاحقين أُلزمت البنوك والمؤسسات المالية ومحلات الصرافة بعدم قبول وتداول العملة الجديدة الموجودة بالفعل في السوق.

 

منذ العام 2019 اتخذت أنصار الله قرارات حاسمة قضت بحظر العملة الجديدة وتكثيف حملات التفتيش وسحب المتوفر منها في السوق، ومنحت الجماعة سكان صنعاء والمحافظات الأخرى مهلة شهر واحد لاستبدال هذه الطبعة بطبعات قديمة أو بعملة إلكترونية "ريال إلكتروني"، وهو ما تسبب لاحقًا في ارتباكات كبيرة في السوق المصرفية اليمنية مع تنامي السوق السوداء التي جرى فيها استبدال المبالغ المستبدلة بأقل من قيمتها، وازدياد تهريب العملات عبر خطوط المواجهة والتكسُّب منها. وحتى منتصف 2019 بلغ حجم العملة الجديدة التي صادرتها أنصار الله أكثر من نصف مليار ريال.

وبسبب التسعير المتباين للأوراق الجديدة مقابل الأوراق القديمة، ازداد تباين أسعار الصرف بين صنعاء وعدن. في نهاية 2019 كان سعر صرف الدولار 582 ريالًا في صنعاء، وفي عدن 612 ريالًا، بفارق قدره نحو 5%. ومع مرور الأشهر وبسبب ضخ العملة الجديدة العائدة إلى عدن، ازدادت مستويات الصرف اختلافًا، وتفاقم معدل رسوم تحويل الحوالات بين مناطق الجانبين من 12% في بداية 2020 إلى 177% حتى شهر يوليو 2023، وفقًا لتحليل شبكة "النقار". ويقول الصرافون إن رسوم التحويل المرتفعة هذه ليست عمولةً بل فارق صرف العملة بين صنعاء وعدن.

كان حظر العملة الجديدة أبرز دواعي ظهور اختلاف في أسعار الصرف بين مناطق صنعاء وعدن، إذ حدَّ حظرها في صنعاء من العرض الإجمالي للريال الجديد، وفي المقابل زاد عرض وتدفق العملة بمناطق عدن مما أوقعها في ورطة تضخمية، وبالتالي شهد الريال فيها انخفاضًا بوتيرة مستمرة. ويُقدّر البنك المركزي بصنعاء أن البنك في عدن قام بطباعة نحو 5 تريليونات و320 مليار ريال حتى منتصف 2021، ما يعادل ثلاثة أضعاف ما طبعه البنك المركزي في صنعاء منذ العام 1964 وحتى 2014.

كذبة الصرف "بالقوة" وشبهة ارتفاع السلع

في النصف الأول من العام 2023 ظلت قيمة العملة المحلية مستقرة عند 526 ريالًا للدولار وفق أرقام حديثة لبرنامج الغذاء العالمي، مقابل مستوى 1371 ريالًا في عدن قبل أن يرتفع فوق 1500 ريال للدولار في أكتوبر الماضي.

لكن رغم الفارق الواضح في سعر الصرف، تؤكد أرقام الأمم المتحدة أن هذا التباين لا ينعكس على أسعار المواد الغذائية في صنعاء، فأسعارها تبقى مرتفعة وبشكل أكبر من ارتفاعها في مناطق عدن التي تشهد انهيار الريال بالفعل، ويتراوح ارتفاع أسعار السلع في صنعاء عنها في عدن ما بين 10 إلى 30%.

وفي وقت سابق من هذا العام، اعتبرت وزارة الصناعة والتجارة التابعة لسلطة مجلس عدن الرئاسي، أنَّ أسعار المواد الغذائية بمناطقها أقل من مناطق صنعاء، مع وجود فوارق بالدولار، وفقًا أرقام السوق.

 

 

ويتضح الفارق عند مقارنة أسعار السلع بالعملات الأجنبية، فبالمقارنة بينها في صنعاء وعدن بالريال اليمني يظهر الفرق واضحًا لصالح صنعاء، لكن باحتساب أسعار السلع في صنعاء بالريال السعودي أو الدولار الأمريكي تبدو أسعار سلع صنعاء أعلى من أسعار عدن، وهو ما يعزز فكرة أن سلطات صنعاء تفرض سعر صرف غير حقيقي بالقوة.

ولأن استقرار أسعار الصرف في صنعاء ومناطق أنصار الله لم ينعكس على أسعار السلع والخدمات، فلا يزال انخفاض الصرف بلا جدوى بالنسبة للمواطنين وقدرتهم الشرائية، في وقتٍ ترتفع فيه أسعار الغذاء وتضطر أسر كثيرة إلى التقشف والاكتفاء بوجبات معينة، بينما يتزامن ارتفاع المستويات السعرية للغذاء بصنعاء مع فرض جبايات متزايدة على الشركات والتجار، وارتفاع تكاليف النقل من موانئ الوصول إلى مخازن ومستودعات التجار، واستحداث منافذ جمركية وإعادة جمركة البضائع والسلع وإيقافها لفترات طويلة تعرّضها للتلف.

على ذلك يعلق المحلل الاقتصادي ماجد الداعري، قائلًا إنه بحكم أن المواطن في صنعاء "لا يملس أي أثر في تحسن سعر المواد الشرائية المختلفة، فإنه لا يمكن أن تكون قيمة سعر الصرف قيمة حقيقية على أرض الواقع أو مبنية على سياسة نقدية أوعوامل اقتصادية ملموسة باعتبار البلد في أزمات اقتصادية متوالية نتاج تداعيات الحرب وويلاتها وإيقاف تصدير النفط والغاز وتراجع حجم الصادرات الوطنية عمومًا، إضافة إلى انقسام القطاع المصرفي والبنك المركزي وغياب أي إمكانية واقعية لتحديد سعر صرف الدولار اليوم بأقل من ألف ريال يمني".

ويقدّر الداعري، في حديث لـ"النقار"، أن سعر صرف صنعاء هو "صرف رقمي لا هو حقيقي ولا وهمي، وإنما قيمة أقل من الواقعية مثبتة إعلاميًا بسطوة القبضة الأمنية الميليشاوية، بمعنى أن قيمة الصرف المحددة رسميًا المثبتة أمنيًا يمكن لأي شخص أن يلمسها بشراء عملات بذلك الصرف المحدد وتداولها في إطار تلك المناطق فقط، ما يعني أنها قيمة صرف قائمة وليست وهمية، لكن بما أنها غير مؤثرة على أسعار السلع فليس لها قيمة حقيقية".

وعن إقامة مقارنة بين سعر الصرف في صنعاء وعدن، يرى المحلل الاقتصادي أنَّ مقارنة كهذه هي محكومة بعوامل انهيار متساوية، بل يمكن أن تكون الفجوة في صنعاء أكبر لولا القبضة الأمنية، ويضيف: "الحلول الأمنية المحكمة بمناطق الحوثي تخدمهم إعلاميًا وتعود على قادتهم ونافذيهم في السوق بالفائدة الحقيقية المتعلقة بفوارق عمليات الصرف المهربة من وإلى مناطقهم المليشياوية، بالاستفادة من منع تداول العملة الصغيرة، بينما الأسعار للمواد شبه متساوية في عدن وصنعاء، إذا ما اعتبرنا فارق قيمة صرف العملة".

في ضفة مقابلة، هناك من يرى أن سعر الصرف بصنعاء حقيقي، مثل الباحث الاقتصادي وحيد الفودعي، الذي يعتقد أن صرف صنعاء غير وهمي بسبب قدرة المواطن على شراء العملة الصعبة في مناطق أنصار الله ومبادلتها بالنقد المحلي (الطبعة القديمة) في أي لحظة، وكذلك بسبب أن مقارنة أسعار السلع بالريال اليمني بين مناطق صنعاء ومناطق عدن تُظهر الفارق السعري الكبير لصالح صنعاء.

وتتلخص هذه الرؤية في أن المقارنة بين قيمة السلع بعملات أجنبية كالريال السعودي -والتي ستُظهر أسعار سلع صنعاء أعلى من أسعار عدن- مقارنة غير صحيحة، حيث يفترض اتخاذ الريال اليمني كمعيار أساس، وبالتالي قياس فوارق أسعار السلع بالريال اليمني لأن دخل الفرد في اليمن هو بالريال اليمني وليس بالريال السعودي.

حول ذلك يرد المصرفي محمد نعيم، ويقول لـ"النقار": "صحيح، دخل الفرد بالريال اليمني، حتى أولئك الذين من المفترض أن تكون مرتباتهم بالدولار أصبح دخلهم بالريال اليمني بالقوة، وبالنتيجة يمكن القول إن السلطات هي التي ترغمنا على اعتبار الريال اليمني معيارًا، لكن إذا كان الريال هو مقياس كل شيء فلماذا إذًا توجد سوق الصرف؟".

يوضح نعيم بأنَّ مما يشير إلى وهمية ثبات الصرف المنخفض "شحة العملة الأجنبية أصلًا واستحواذ السلطات عليها"، ويؤكد أن أسعار الصرف في أسواق صنعاء تتحدد بموجب الاحتياطيات والنقد المتداول من طبعة الريال القديمة".

من ناحية أخرى، والحديث للمصرفي نعيم، يتحكم في سوق الصرف هوامير كبار وشركات صرافة وشبكات تحويل لها أيدٍ طولى على مستوى الجمهورية اليمنية كلها، وألاعيب المضاربات تلعب دورًا في تكييف الصرف بشكل أو بآخر".

وعندما التقت "النقَّار" برشيد المقبلي، ويعمل إداريًا في إحدى شركات الصرافة بصنعاء، تحدَّث عن شحة توفر العملات الأجنبية المتزامنة مع الانقسام النقدي مع عدن وكذا مع تقليص المساعدات الأممية التي توفر جزءًا من هذه العملات.

ويقول المقبلي إن "أنصار الله يفرضون أن يتم تسليم الحوالات الخارجية -المرسلة بالعملات الأجنبية- بالريال اليمني حصرًا، سواء أراد المستلم أم لم يُرد"، وفي اعتقاده أن ذلك جعل الكثيرين، بمن فيهم التجار، يندفعون لإخراج عملاتهم الصعبة من مناطق أنصار الله لمصارفتها في مناطق حكومة المجلس الرئاسي أو خارج البلاد.

الدولار بأكثر من 2000 ريال!

 

تتضح وهمية سعر الصرف في صنعاء من خلال السحب من الودائع المودعة لدى البنوك، فعند السحب من الودائع يتم احتساب سعر الدولار بأكثر من 2000 ريال، وليس 530 ريالًا كما هو متداول.

يؤكد ذلك مصدر رفيع في بنك اليمن والكويت بصنعاء. يقول لـ"النقار" مفضلًا عدم ذكر اسمه: "سعر الصرف الثابت المستقر هو سعر وهمي بكل تأكيد، وما يثبت ذلك هو تسعير الدولار بما يتراوح بين 2000 و2200 ريال في حال رغبت في السحب من الودائع، ما يعني أن واقع سوق الصرافة شيء، وما هو مكتوب في الشيكات شيء آخر".

ويضيف المصدر: "الودائع التي تم إيداعها قبل نقل البنك المركزي إلى عدن في 2016، أصبحت الآن بحكم الغائب، أي إنها أصبحت بمثابة نقود غير موجودة واقعيًا، لأن البنك المركزي بصنعاء لا يمتلك النقود، وبالتالي فإن السحب الجزئي الودائع يخضع لقيود واعتبارات معينة وربما يطول تنفيذ السحب زمنيًا، وأبرز هذه الاعتبارات أنه لا يمكن السحب بالريال اليمني، بل بالدولار، وسعر الدولار بأكثر من ألفي ريال".

وكان محافظ البنك المركزي بعدن أحمد غالب المعبقي، ذكر في تصريحات صحفية سابقة، أن استقرار الصرف في صنعاء وهمي لأن الكتلة النقدية صغيرة وتالفة ولا توجد عملة ونشاط اقتصادي يستوعب العملة، بينما توجد في مناطق عدن 2 تريليون و500 مليار ريال، ما يعني أن كتلةً نقدية كبيرة انحصرت في جزء من البلد هي عدن والمحافظات المجاورة لها، في حين هناك كتلة نقدية صغيرة في الجزء الآخر من البلاد، مما فاقم التضخم النقدي في مناطق عدن والناجم عن طبع العملة في السابق دون دراسة وتوزيعها بعد وصولها من الميناء إلى الصرافين مباشرة، حد قوله.

وهذا ما عقَّب عليه الاقتصادي ماجد الداعري في حديثه لـ"النقار" بقوله إن "نجاح" سلطات صنعاء في تحديد سعر ثابت كان نتيجة "قدرتها الأمنية" على منع تداول العملة الصغيرة (الصادرة عن مركزي عدن) ومنع إدخالها إلى مناطق سيطرتها والاستفادة من فوارق فرْضِها لنصف قيمة الصرف فقط وكذا الاستفادة من النصف الآخر في عمليات مصرفية معقدة، مستغلةً الفشل المصرفي المخجل للحكومة الشرعية -وفق تعبيره- وفضائح فشل وفساد الإدارات المتعاقبة على البنك المركزي بعدن والتي أقدمت على طباعة أكثر من خمسة تريليونات ريال دون غطاء أو حاجة نقدية حقيقية إليها، وأغرقت السوق بتلك الكميات النقدية التي لم يسبق طباعتها طوال تاريخ اليمن الموحد وما قبله شمالًا وجنوبًا، ودون رقابة حكومية أو موافقة برلمانية على الكميات أو تغيير شكل العملة وحجمها.

ويتم في عدن التلاعب بالصرف دون حسيب أو رقيب، بحسب الداعري، وتتورط قيادات حكومية وأمنية نافذة ومسؤولون حكوميون وفي البنك المركزي بعدن نفسه بالوقوف وراء تكاثر وحماية شركات الصرافة المتورطة بالمضاربة والتلاعب بسعر الصرف لصالح هوامير الصرف ومافيا تجريف العملة الصعبة من السوق وتهريبها للخارج بطرق وأساليب وأعذار ومبررات مختلفة، وكل ذلك يعود بمزيد من انهيار العملة بعدن.

إلى ذلك لا يزال الانقسام النقدي في اليمن ضمن ملفات المفاوضات السياسية مجهولة المستقبل، إذ تتحدث التقارير عن دعم دولي لإنهاء الانقسام النقدي وتوحيد العملة المحلية من أجل تلاشي فوارق أسعار الصرف ورسوم تحويل الحوالات بين المحافظات، فيما يخشى المواطن أن يتلاشى هو قبل أن يتحقق له الاستقرار المعيشي والمالي والنفسي في بلد أرهقته حروب المصالح الشخصية العبثية.

 

شارك الخبر: