سامي غالب
أيوب طارش اسم مرتبط بأحبة بعضهم رحل.
آخر الأحبة هو الصديق عبدالسلام جابر الذي تصادف ذكرى رحيله الثانية هذه الأيام.
كان يدهشني إذ يحفظ أغاني أيوب جميعها، يحفظها ويؤديها بسلطنة. كان يقول إن أيوب هو الفنان الأول في الضالع.
ينفرد بالصدارة ثم يجيء بعده، وبمسافة، كبار الفنانين في اليمن مثل: المرشدي وأبوبكر ومحمد سعد وغيرهم.
والحق أن أيوب أحد الثوابت في الضالع.
كنت أقول له ممازحا: كيف سيكون الوضع في السنوات القادمة في حال تحقق مطلب كثيرين من أبناء الضالع بفك الارتباط؟
هناك أسماء تستعصي على التصنيف!
أيوب طارش من هؤلاء، تماما مثل: المرشدي وأبوبكر سالم بلفقيه ومحمد سعد عبدالله، وأحمد السنيدار وفيصل علوي وعلي الآنسي وعلي السمةً والحارثي، وقبل هؤلاء جميعا يحل إبراهيم الماس وقاسم الأخفش وعلي أبوبكر باشراحيل (شيخ الأغنية الصنعانية) والمسلمي والعنتري … الخ.
هؤلاء فنانون صاغوا وجدان اليمنيين والخليجيين على مدى قرن من الزمان.
وبعيدا عن الحساسيات القطرية فالمؤكد أن هؤلاء الرواد (بدءا من العشرينات) هم الإرث المشترك، إلى جانب طلال مداح ومحمد عبده وعبدالكريم عبدالقادر وغيرهم من رواد الغناء في المنطقة، لمجتمعات الجزيرة والخليج العربي.
يمكن اعتبار فيصل علوي وعبدالرحمن الحداد وأيوب طارش آخر العنقود الغنائي اليمني، وآخر حبات العقد اليمني الفريد.
أكثر من ذلك يمكن القول بأن "الهوية اليمنية" عبر عنها هؤلاء دون شيء من أعراض العصبية والانغلاق.
لا يمكن قراءة أيوب طارش خارج هذا السياق حتى وهو يخط له مسارا خاصا يعبر عن أصالته كفنان لا يشبه أحدًا.
كذلك صار أيوب لصيقا بالأغلبية الساحقة من اليمنيين (وهم من الريف أو من أصول ريفية).
ومن المدهش أن جمهور أيوب ليس محصورا على سكان المرتفعات الزراعية من صعدة إلى الضالع ولحج، ومن جيزان وعسير إلى أبين وشبوة وحضرموت وصولا إلى المهرة وسقطرى.
إن أيوب طارش هو فنان الشعب أو -إن شئتم- فنان المجتمع اليمني الزراعي وبالتالي فنان الشعب.
هو صوت اليمني الفصيح إذ يتطلع إلى الحرية والتعاون والعمل … والوحدة!
وهو الابن النجيب لرواد الغناء اليمني من قاسم الأخفش وباشراحيل إلى محمد جمعة خان.
يحضرني هنا توصيفاتي المشبعة باليقين وقد تنازلت عن مدينتي -مدينة تعز فصنعاء- بأنه يمكن فهم السياق الذي جاء منه كل مطرب يمني إلا أيوب فهو "العبقري يستعصي على التفسير"!
هو رائد ما يمكن تسميته بأغنية الريف.
وإليه يعود الفضل في تحويلها إلى أغنية اليمن بحواضره وأريافه، بشماله وجنوبه، بمرتفعاته وقيعانه ووديانه وجزره.
بكلمة أخرى هو "النشيد الوطني" يحيا معنا.
ومن الظلم والاجحاف أن يطلب منه البعض أن يلتزم الحصافة فلا يتغني بوحدة الشعب اليمني معتقدا أنه أحد سياسيي المرحلة أو الدكتور رشاد العليمي رئيس مجلس القيادة الرئاسي.
كبرنا مع صوت أيوب.
كل منا معه أغنية على الأقل تذكره بأسلافه في القرية أو المدينة أو المهجر.
لذلك فإيوب له في الوجدان مهابة، تماما كسابقيه إلى الغناء في عدن وحضرموت وصنعاء.
ولسوف تحتفظ ذاكرتي بأيوب الكبير الذي يذوب خجلا في أول مقيل يجمعني بهذا الإنسان الجميل.
كان المقيل في منزل الشاعر اليمني الكبير عبدالعزيز المقالح. رحمه الله.
أمامه كان يجلس الفنان أيوب طارش وأنا على يسار المقالح.
سأل أحد الحضور المقالح عن أغنيته المفضلة من أغاني أيوب.
رد المقالح دون تردد بنبرة هادئة: كل أغانيه تعجبني!
كانت أنظار جميع من في المقيل تتجه نحو المقالح بينما كانت عيناي ترصدان انفعالات أيوب… كان تلميذا في الابتدائية يتلقى إطراء من معلمه.
يومها أكبرت الرجلين؛ المقالح وأيوب.
بعد عشر سنوات زرت رفقة صديقي وزميلي بشير السيد، الفنان الكبير في منزله في تعز.
كنا ننصت لحكاياه المدهشة بدءا من قصته مع الشيخ البيحاني في عدن ولحج.
لدى أيوب الكثير من الأسرار بعضها تسرب أو نشر بإذن منه (كالحوار الذي أجراه ل"النداء" الحاضر في قلوبنا بشير السيد) لكن أغلبها ظل في "قصر مرصود"، هو وحده يقرر موعد نشره.
سلام لأيوب؛ الصوت والنشيد والوجهة.