تجسد قصة غزو روسيا لأوكرانيا مزيجاً من توقعات مخفقة وتقلبات حادة في الأداء، فحينما بدأت الحرب نظر الشطر الأكبر من حلف شمال الأطلسي إلى روسيا بوصفها وحشاً يستحيل إيقافه، ويتأهب لإلحاق هزيمة سريعة بأوكرانيا، بعد ذلك توقف زحف القوات الروسية وأُجبرت على التراجع، وبعدها خلُص مراقبون خارجيون إلى أن الجيش الروسي متعفن وربما تكفي هزيمة واحدة لدفعه إلى الانهيار، لكن تبين خطأ ذلك التقدير، فمع فشل الهجمات الأوكرانية استأنفت روسيا وتيرة تقدمها البطيء، وحاضراً تشخص أبصار كثيرين إلى ما هو أبعد من روسيا، سعياً منهم إلى فهم أحوال المعارك، ويلقون باللائمة على نقص التأييد الخارجي بوصفه العامل المسؤول عن أزمات كييف.
ما غاب عن أذهان كثير من صناع القرار والمخططين العسكريين هو مدى ما حققته روسيا من تعلم من إخفاقاتها وتكيف في إستراتيجيتها وأساليبها القتالية، سواء في أوكرانيا أو خارجها، فمنذ عام 2022 شرعت موسكو في عملية منظمة لتقييم تجاربها الميدانية واستخلاص الدروس منها وتعميمها داخل مؤسساتها العسكرية، وبحلول مطلع عام 2023 كانت قد أنشأت بهدوء منظومة متكاملة للتعلم تمتد من المصانع الحربية إلى الجامعات ووحدات الجيش على جميع المستويات، واليوم يعمل الجيش الروسي على تثبيت هذه الخبرة ضمن بنية مؤسساتية دائمة، ويعيد توجيه شركات السلاح ومراكز البحوث لخدمة متطلبات الحرب، كما يربط بين الشركات التقنية الناشئة والموارد الحكومية لدعم الابتكار العسكري.
وقد أفرز هذا التحول تكتيكات جديدة أُدرجت في برامج التدريب والدلائل القتالية، إضافة إلى تطوير أسلحة أكثر فعالية، فابتكرت موسكو أساليب حديثة لاستخدام الطائرات المسيّرة لتحديد مواقع الجنود الأوكرانيين واستهدافهم، ولتدمير المعدات والمنشآت الحيوية، فحولت مجالاً كان يمثل نقطة ضعف إلى أحد عناصر قوتها، كما أنتجت صواريخ أكثر دقة ومنظومات مدرعة أكثر قدرة وتحملاً، ومنحت القادة الميدانيين الأصغر مساحة أوسع لاتخاذ القرار والتخطيط، ولقد أصبح الجيش الروسي قادراً على التطور في أثناء الحرب والاستعداد في الوقت نفسه لجيل جديد من الحروب عالية التقنية.
ونتيجة لهذه التحولات يرجح أن تواجه أوكرانيا مزيداً من الدمار خلال الأشهر المقبلة، فالهجمات الروسية بالطائرات المسيّرة ستصبح أسرع وأكثر عدداً، مما يعني ضرراً أكبر للمدن والمدنيين والبنية التحتية الحيوية، كما ستخترق أعداد أكبر من الصواريخ الدفاعات الأوكرانية، وستغدو المسافة الممتدة على مدى 10 أميال قبل خطوط الجبهة، وهي شديدة الخطورة أصلاً، أكثر وعورة وصعوبة على العبور، وقد لا تحقق هذه التغييرات اختراقات كبرى لروسيا بفضل صلابة الدفاع الأوكراني وكثافة الهجمات المضادة بالطائرات والمدفعية، لكنها ستمكن موسكو من مواصلة التضحية بجنودها في مقابل مكاسب بطيئة في دونباس، على أمل أن يرهق الصراع حلف شمال الأطلسي ويضعف التزامه تجاه أوكرانيا.
وبينما بدأ بعض المسؤولين الأميركيين والأوروبيين فعلاً يفقدون حماستهم لدعم أوكرانيا، يجب ألا تغيب عن صانعي القرار في العالم خطورة ما تعلمته روسيا، فالجيش الروسي سيخرج من هذه الحرب محملاً بخبرة واسعة ورؤية واضحة لطبيعة القتال في المستقبل، وهو يشارك هذه الخبرات بالفعل مع الصين وإيران وكوريا الشمالية، ولقد مهدت موسكو لبداية مرحلة جديدة من التعلم وإعادة البناء بعد انتهاء الحرب، وستظل مثقلة بمشكلات الانضباط والإنتاج المحدود للمعدات المتقدمة، لكنها ستكون على استعداد لخوض نمط الحرب المقبلة بقدر لا يقل عن استعداد أية قوة كبرى أخرى، على رغم القيود على مواردها، وإذا لم تُرد واشنطن والعواصم الأوروبية أن تتأخر عن الركب فعليها أن تتعلم من حرب أوكرانيا بدلاً من إدارة ظهرها لها، وعليها أن تدرس كيف درست روسيا هذه الحرب، ثم تبدأ بإجراء تغييراتها الخاصة.
المجمع التعليمي الصناعي العسكري
اضطر الجيش الروسي منذ الأيام الأولى لغزوه إلى التكيف مع ظروف الحرب، فكي يصمد أمام الهجمات الأوكرانية العنيفة أضافت وحداته دروعاً إضافية لمركباتها وطورت أساليب تمويه جديدة، واعتمدت تكتيكات هجوم صغيرة الحجم إضافة إلى تغييرات أخرى، كما تبادل الجنود الخبرات بطرق غير رسمية عبر شبكات التواصل الاجتماعي والقنوات المغلقة ومنشورات ميدانية بسيطة، وهذا النوع من التعلم المباشر بين الأفراد أو الوحدات يُعد المرحلة الأولى والأساس من التكيف خلال الحرب، لكن ما لم تُحول المؤسسة العسكرية هذه الدروس إلى معرفة منظمة فإنها غالباً ما تنسى بمرور الوقت ولا تصل إلى من يحتاجها، ولا تنتشر عبر صفوف القوات.
وتشمل المرحلة الثانية من التعلم إرساء هذه التغيرات على مستوى مؤسسي عبر تحديث برامج التدريب وخطط التزويد والمفاهيم العملياتية، وبعد ذلك يجب على الجيوش أن تدخل في تعلم استشراقي حول مستقبل الحرب وتدرك الحاجة إلى إصلاحات أو تحولات جذرية، فالجيوش التي تتعلم بصورة أفضل تمر بخمس مراحل: اكتساب التجربة القتالية، تحليلها، اقتراح التوصيات، تعميم تلك التوصيات والدروس عبر القوة، وفي النهاية تنفيذها.
ومع اتضاح أن الحرب قد تطول فقد بدأت روسيا بالفعل في استكمال معظم هذه المراحل، وما بدأ كتكيف ارتجالي على الجبهة تطور إلى جهد منهجي لاستخلاص الخبرات الميدانية ودرسها وتعميمها لتحسين الأداء، ففي عام 2022 مثلاً كُلف ضباط وباحثون متخصصون بالحضور في مراكز القيادة الأمامية لمراقبة مجريات الحرب عن قرب وفهم أداء الوحدات، وراجع هؤلاء الباحثون نتائج المعارك وتفحصوا سجلات القادة وأجروا مقابلات مع عناصر القوات لإعداد تقارير تحليلية، وبعد مراجعات إضافية وزعت تقارير "الدروس المستفادة" على مقر القيادة الحربية في روستوف، والأركان العامة في موسكو، ومقار فروع الخدمة والأكاديميات العسكرية وشركات الصناعات الدفاعية ومجتمع البحوث العسكرية بأكمله.
من المرجح أن تواجه أوكرانيا قدراً أكبر من الدمار خلال الأشهر المقبلة
تكيفت القوات الروسية تبعاً للدروس التي استخلصتها من الميدان، فبفضل أمر التعبئة الذي أصدرته موسكو في سبتمبر (أيلول) 2022 والزيادة الكبيرة في موازنة الدفاع، أعادت المؤسسة العسكرية الروسية تنظيم هيكلها القيادي وعدلت تكتيكاتها وانتشارها في أوكرانيا، كما غيرت منظومتها اللوجستية لتصبح أكثر قدرة على الصمود، وأدخلت تقنيات جديدة أو طورت استخدام التقنيات القديمة لتعزيز دقة الاستهداف ورفع كفاءة قدراتها في الحرب الإلكترونية، وساعدت هذه التعديلات المرحلية في تثبيت خطوط التماس الروسية وتمكينها من صد الهجوم الأوكراني المضاد عام 2023، ومنذ ذلك الحين اتسعت منظومة التعلم الروسية وأصبحت أكثر شمولاً، ففي موسكو أنشأت القيادة العسكرية أكثر من 20 لجنة متخصصة لتطبيق التوصيات المستخلصة من تقارير الجبهات ومن الدراسات البحثية، وانضم الجيش إلى تعميم الدروس المكتسبة داخل صفوفه من خلال نشرها في نشرات ميدانية، وتنظيم ورش عمل موضوعية واستضافة مؤتمرات لبحث المشكلات وتبادل الخبرات، وعلى نحو متكرر تجمع المنطقة العسكرية الجنوبية جنوداً وقادة من القوات الجوية والبرية وقوات الحرب الإلكترونية وممثلين عن الصناعة الدفاعية، لتدريبهم على رصد الطائرات المسيّرة المعادية والتعامل معها وتدميرها، وهي قدرات كانت حاسمة لنجاح أوكرانيا خلال المراحل الأولى من الحرب، وفي مؤتمر نظمته "أكاديمية المدفعية الروسية" عام 2023، اجتمع ضباط وخبراء لمراجعة تكتيكات القصف المدفعي وإدماج الطائرات المسيّرة في عمليات الاستهداف، وخلال ثلاثة أعوام فقط أدخلت روسيا أكثر من 450 تعديلاً مرحلياً على كتيبات القتال، في وقت يؤكد القادة العسكريون أن من المرجح أن تخضع هذه الكتيبات لمراجعة شاملة بالكامل بعد انتهاء الحرب.
التأهب الصناعي
في العام الأول من الغزو جاءت لأوكرانيا مفاجأة غير متوقعة، إذ تحول العتاد الروسي المعطوب إلى مصدر غير مقصود للعون، فطوال أشهر تعطلت المعدات الروسية مراراً بسبب ضعف الصيانة وعيوب التصنيع وسوء التصميم، فعلى سبيل المثال أظهر فحص سريع لمئات منظومات الحرب الإلكترونية الروسية وجود عيوب في نحو 30 في المئة منها، وكان الخلل الأكثر شيوعاً يتمثل في تدني جودة المكونات الإلكترونية، ولا سيما الدوائر الدقيقة، ووفقاً للدورية العسكرية البارزة "الفكر العسكري" التابعة للجيش الروسي، فإن ما بين 60 و70 في المئة من أعطال أنظمة الحرب الإلكترونية بين عامي 2022 و2024 نتجت من خلل في المعدات نفسها، بينما تسببت نيران الجيش الأوكراني بما بين 30 و40 في المئة فقط منها.
وفي مراحل عدة واجهت روسيا صعوبة في إصلاح هذه المشكلات، ففي العام الأول للحرب أعاق بطء استجابة الصناعات الدفاعية وانفصالها عن حاجات الجنود في الميدان، وتقادم اللوائح التنظيمية، جهود الابتكار والإصلاح، لكن في نهاية المطاف أمرت القيادة مصنعي المعدات بتحسين الإنتاج وزيادة معدلات الإصلاح وتسريع وتيرة الابتكار، ومع الدعم الحكومي بدأت عجلة التغيير بالتحرك، كما خففت وزارة الدفاع القيود البيروقراطية لتقليص فترات البحث والتطوير، وعقدت اجتماعات دورية مع المصانع لضمان استيعابها الملاحظات الواردة من الخطوط الأمامية وتحويلها إلى تحسينات عملية، كما أرسلت شركات الدفاع خبراء إلى المناطق الأوكرانية المحتلة لإصلاح المعدات ودرس أدائها الميداني وإرسال تقارير مفصلة، على غرار ما فعلت في سوريا حينما تدخلت روسيا للدفاع عن نظام بشار الأسد، ومنذ مطلع عام 2023 أطلق الكرملين برامج لدمج الجامعات المدنية ومراكز الأبحاث في جهود الدفاع الوطني، وتعزيز التعاون بين المهندسين المدنيين والعسكريين في مواقع الاختبار والتدريب لاختبار النماذج الأولية قبل إرسالها إلى ساحات القتال.
وفي موازاة ذلك أطلقت الحكومة الروسية مبادرات لدعم الشركات الدفاعية الناشئة بهدف تشجيع الابتكار، وعمل وزير الدفاع الروسي أندريه بيلوسوف على ربط تلك الشركات الصغيرة بالشركات الحكومية الكبرى المسيطرة على القطاع، والتي كانت رافضة تقليدياً للوافدين الجدد، وقد نجح هذا المسعى، فاليوم تشارك الشركات الناشئة إضافة إلى كبار المتعاقدين في معارض الأسلحة وتبيع منتجاتها مباشرة للجيش، وأتاحت هذه التغييرات لروسيا تقليص الفجوة التكنولوجية التي تمتعت بها كييف خلال الأعوام الأولى من الحرب، إذ باتت المصانع الروسية تنتج أنظمة جديدة ومعدلة تتلاءم مع ظروف القتال في أوكرانيا، بينما تعلم الجيش كيف يستخدمها بكفاءة، ولعل أبرز ما قامت به وزارة الدفاع كان إنشاء وحدة "روبيكون" المتخصصة في أبحاث وتشغيل الطائرات المسيّرة، وهي وحدة نخبوية تجرب أنواعاً مختلفة من التكتيكات أصبحت اليوم وتُوجه طريقة تدريب الوحدات الروسية الأخرى للطائرات المسيّرة.
كذلك أدخلت موسكو تحسينات أقل لفتاً للأنظار لكنها لا تقل أهمية، فقد طورت شركات الدفاع أنظمة الحماية والدروع في كثير من المركبات، وزودت بعضها بمحركات أقوى وأجهزة رؤية أكثر تطوراً وأنظمة تشويش محسنة، كما رفعت روسيا من قدرة قنابلها الانزلاقية على التدمير، وزادت إنتاج النسخ المعدلة من طائرات "شاهد" المسيّرة وأنواع مختلفة من المركبات الجوية غير المأهولة، ويعمل قطاع الصناعات الدفاعية كذلك على معالجة عيوب التصنيع وتحسين إجراءات الصيانة الخاصة بأنظمة الحرب الإلكترونية.
وتفسر هذه التحسينات المتراكمة الصعوبات المتزايدة التي واجهها الأوكرانيون خلال الـ 18 شهراً الأخيرة، ففي عامي 2022 و2023، كانت كييف قادرة على استهداف مراكز القيادة الروسية ومخازن الذخيرة وخطوط الإمداد بسهولة نسبية، لكن تحسين الدفاعات الصاروخية والإجراءات الإلكترونية الروسية جعل مثل هذه العمليات أكثر تعقيداً اليوم، وباتت الهجمات الروسية بالطائرات المسيّرة والصواريخ أكبر حجماً وأكثر تعقيداً وتنسيقاً، ويعني ذلك، في الحد الأدنى، أن على شركاء أوكرانيا تزويدها بمزيد من أنظمة الدفاع الجوي وتعزيز قدراتها في مجالات الحرب الإلكترونية، وفي المقابل تعمل كييف على تطوير صواريخ بعيدة المدى تستهدف تدمير الترسانة الروسية في مواقع إنتاجها وتخزينها، قبل أن تصل إلى الجبهات.
مكتوب بالدم
يمتد التعلم الروسي إلى مجال آخر لا يقل أهمية وهو التدريب العسكري، فقد شرع الموجهون العسكريون في مراجعة شاملة لتجارب القتال ودمج الدروس المستخلصة منها في برامج التدريب، ولضمان أن تكون هذه البرامج واقعية وذات صلة بالمعارك الدائرة، تعتمد روسيا نظام المداورة بين الجبهات ومراكز التدريب، إذ تتبادل القوات القتال والتدريب بصورة دورية، على غرار إرسالها مهندسي الصناعات الدفاعية إلى الخطوط الأمامية، وحين يتعذر التواصل المباشر ينظم الجيش مؤتمرات آمنة عبر الفيديو تربط الوحدات المقاتلة بالأكاديميات ومراكز التدريب، فيما تحول بعض قدامى المحاربين إلى مدربين متفرغين بدوام كامل.
أجرت روسيا عدداً من التغييرات في أساليب التعليم العسكري نتيجة خبرتها القتالية في أوكرانيا، فقد أصبحت أجهزة المحاكاة أكثر واقعية، كما عدلت موسكو طرق تدريس الإسعافات الأولية التكتيكية وبدأت تُعلم الجنود كيفية قيادة المركبات العسكرية عبر ساحات قتال معقدة تهيمن عليها الطائرات المسيّرة، إضافة إلى كيفية تنفيذ هجوم صغير ضمن عملية أوسع تشمل الطائرات المسيّرة والمدرعات، وهما مهمتان أساسيتان في حرب تخضع فيها الخطوط الأمامية لمراقبة مستمرة من كييف، (وبالنظر إلى أن أوكرانيا تستطيع رؤية معظم ما تفعله روسيا على أرض المعركة، فإن الفرق الصغيرة المستقلة تعد ضرورية لاختراق المواقع الدفاعية الأوكرانية)، وللمرة الأولى يستخدم المدربون الروس الطائرات المسيّرة لمراقبة تدريبات الجنود حتى يتمكنوا لاحقاً من تقييم أداء الوحدات وتحليل نجاحاتها وإخفاقاتها على نحو أدق.
أجرت روسيا أيضاً عدداً من التعديلات على برنامج تدريب الضباط الصغار بهدف إعدادهم بصورة أفضل للمهمات العملياتية، ولا تمثل هذه التغييرات إعادة هيكلة شاملة للبرنامج؛ إذ إن التعديل الرئيس الذي أجرته موسكو خلال زمن الحرب هو إضافة دورة تدريبية تكميلية مدتها شهران، تهدف إلى مساعدة الضباط برتبة "ملازم" في تطوير مهاراتهم في الرماية والمدفعية والاستطلاع والطوبوغرافيا والملاحة، واستخدام الطائرات المسيّرة والطب التكتيكي، ويركز المدربون كذلك على تعليم الضباط الصغار كيفية قيادة الوحدات الصغيرة، نظراً إلى أهمية الهجمات المحدودة التي تنفذها فرق المشاة في ساحة القتال، كما يتلقى بعض هؤلاء الضباط تدريباً على ما تسميه دول حلف شمال الأطلسي "تخطيط المهمة"، وهو تدريب يمنح فيه الضباط هدفاً محدداً ويطلب منهم هم وفرقهم تحديد الطريقة المثلى لتحقيقه بأنفسهم، بدلاً من انتظار الأوامر الصادرة من القيادة المركزية، ويُعد ذلك تحولاً جوهرياً في بنية الجيش الروسي التقليدية التي تقوم على التسلسل الهرمي الصارم من الأعلى إلى الأسفل، وهو تحول اُستلهم من النجاحات التي حققتها بعض الوحدات الروسية ضد كييف.
ومع ذلك، وعلى رغم الاهتمام الذي أولاه القادة الكبار لمعالجة أوجه القصور، لا تزال برامج التدريب الروسية غير متكافئة في مستواها، وأصبح التدريب الموجه للمتطوعين المتجهين إلى أوكرانيا يركز، على نحو مبرر، على تعليم الجنود القتال ضمن فرق هجومية صغيرة في ساحات قتال تغص بالطائرات المسيّرة، غير أن فترة التدريب لا تزال قصيرة جداً مما يجعل الوحدات تصل إلى الجبهة منقوصة الإعداد للمهمات القتالية الموكلة إليها. وعلى رغم أن البرنامج التعليمي المخصص للمجندين الجدد قد عُدل منذ عام 2022 ليعكس الخبرة القتالية المكتسبة، فإنه لم يخضع بعد لمراجعة شاملة كاملة، ولا تزال بعض مراكز التدريب الإقليمية، بحسب ما أفاد مسؤولون روس، تُدرس معلومات متقادمة أو تعجز عن مواكبة وتيرة التغير السريعة في ساحة المعركة، وقد لجأ الجيش إلى إجراء عمليات تفتيش مفاجئة للتأكد من تطبيق التعليمات التدريبية الجديدة واعتمادها فعلياً.
حدود التعلم
قد لا تزال برامج التدريب الروسية عملاً جارياً في طور التطوير، فيما يواصل صمود المقاومة الأوكرانية العنيفة منع الكرملين من تحقيق أهدافه الرئيسة، ومع ذلك فإن التغييرات التي أجرتها موسكو تبعث بلا شك على الإحباط بالنسبة إلى الأوكرانيين، فمنذ بداية الحرب تمكنت كييف من الصمود في وجه موسكو إلى حد كبير بفضل تفوقها في الابتكار، وهو تفوق بدأ الآن يتآكل تدريجياً، وقد أقر الأوكرانيون منذ زمن بعيد بأنهم لا يستطيعون هزيمة الجيش الروسي اعتماداً على التفوق العددي وحده.
لكن لحسن حظ كييف فإن قدرة روسيا على مضاهاة التفوق النوعي الأوكراني تبقى محدودة، ففي المقام الأول تعاني عملية التعلم داخل الجيش الروسي خللاً جوهرياً يفسر الهوة القائمة بين النشاط البحثي الحيوي الجاري في مكاتب القيادة والأركان والباحثين وبعض شركات الصناعات الدفاعية في الداخل، وبين التجربة القاسية التي يعيشها الجنود في الخطوط الأمامية، فعلى رغم تمكن الجيش الروسي من اكتساب الخبرة القتالية وتحليلها وتعميمها، فإنه لا يزال يواجه صعوبة في تنفيذ توصياته وضمان الالتزام بالتوجيهات التي يصدرها، فقد أوصى مسؤولون، على سبيل المثال، بإعادة هيكلة نظام ضبط الجودة في البلاد استجابة لما شهده من أعطال وأخطاء متكررة، لكن هذا النظام لم يُعد إصلاحه بعد، وبالمثل شهدت دراسة الطب العسكري وطب الإصابات القتالية في روسيا تقدماً كبيراً منذ عام 2022، غير أن عدد الجنود في الخطوط الأمامية الذين يُصابون بعدوى فيروس نقص المناعة (الإيدز) يشهد ارتفاعاً حاداً، ويُعزى ذلك جزئياً، في الأقل، إلى إعادة استخدام المحاقن وتردي ممارسات التعقيم في المستشفيات الميدانية أثناء حوادث الإصابات الجماعية.
ثم هناك مجالات أخرى لا تزال موسكو تعاني فيها صعوبة التعلم أصلاً، مثل الانضباط والاحتراف، وهما جانبان طال إهمالهما من عناصر القوة القتالية، ونتيجة لذلك فلا تزال نوعية الأفراد في الخطوط الأمامية الروسية متفاوتة إلى حد كبير، فبعض الوحدات يقودها ضباط أكفاء، في حين تعاني أخرى قادة قساة أو متقاعسين عن أداء مهماتهم، وتفشل الوحدات المتجاورة في التنسيق في ما بينها مما يؤدي إلى خسائر مفرطة خلال عمليات التبديل أو المناورة، كما تجد الوحدات صعوبة في الحفاظ على تماسكها عند إعادة تشكيلها، وهو أمر يحدث كثيراً، لأن الجيش الروسي لا يزال يتكبد خسائر هائلة ويتعرض بعض الأفراد داخل وحداتهم إلى أشكال من العنف أو الإهمال، بينما يواجه آخرون عقوبات قاسية على مخالفات بسيطة، مثل ربطهم إلى الأشجار أو تركهم في حفر مفتوحة في العراء.
وعلى رغم أن هذه المشكلات لم تمنع القوات العسكرية من تنفيذ معظم المهمات الموكلة إليها، فإنها تشكل بلا شك أحد الأسباب التي تفسر استمرار أداء روسيا المتدني مقارنة بما تمتلكه من تفوق في العتاد والعدد، وقد دق علماء النفس العسكريون الروس ناقوس الخطر، مؤكدين أن الجهود الحالية لتقييم الحال النفسية للجنود وتحديد مسببات ما يسمى "السلوك المنحرف"، مثل الفرار من الخدمة أو الاستسلام أو العنف أو فقدان الكفاءة القتالية، هي جهود متقادمة، غير أن الجهاز العسكري نفسه لم يستوعب هذه الرسالة بعد، مفضلاً التركيز على التحمل وتنفيذ الأوامر بأية وسيلة كانت.
وفي الأقل خلال الوقت الراهن، تبقى التحديات المرتبطة بطبيعة الحرب نفسها بالغة الصعوبة في المعالجة، حتى بعد تحديدها وتشخيصها، فمثلاً تدرك القيادة العسكرية الروسية تماماً أن ساحة القتال الأوكرانية تخضع لرقابة مكثفة من الطائرات المسيّرة، وأنه يكاد يكون من المستحيل حشد أعداد كبيرة من القوات لتنفيذ هجوم مدرع من دون التعرض لهجوم مضاد، وفي الدوريات العسكرية يعترف الإستراتيجيون صراحة بأن التشكيلات القتالية التقليدية لم تعد "تشكل الشرط الرئيس لتحقيق النصر"، وقد تكيف الجيش الروسي مع هذا الواقع بالابتعاد من استخدام التشكيلات المدرعة الضخمة، متبنياً بصورة متزايدة فرق الهجوم الصغيرة التي أصبحت الآن محور التدريب العسكري، كما أضافت القيادة الروسية وحدات جديدة من الطائرات المسيّرة وفرق اقتحام ووحدات استطلاع، للمساعدة في اختراق الدفاعات الأوكرانية المُحكمة، وعلى رغم أن هذه التغييرات تعقد جهود أوكرانيا في صد الهجمات، وقد تؤدي أحياناً إلى تحقيق اختراقات تكتيكية روسية، فإنها تأتي بثمن بشري باهظ، إذ تعجز هذه الفرق والوحدات الصغيرة عن السيطرة على الأرض والاحتفاظ بها بالطريقة التي تتيحها القوات الكبيرة المُجمعة، ومع ذلك يصر الكرملين على إبقاء الحرب دائرة بهذا النهج الاستنزافي الطويل.
وأخيراً فإن سجل موسكو في استخلاص الدروس بعد الحروب لا يدعو إلى كثير من التفاؤل، فبعد الحرب السوفياتية في أفغانستان والحرب الروسية لدعم نظام الأسد، فشل الجيش في التعلم من خبراته القتالية أو نسي ما اكتسبه منها، لأن المعرفة التي جُمعت لم تُنقل إلى ما بعد الدوائر الضيقة التي خاضت القتال، كما أخفقت القوات المسلحة الروسية في تطبيق الدروس الجوهرية خلال تسعينيات القرن الماضي وبدايات الألفية الجديدة، حين انهار الدعم المالي والقيادي للإصلاحات العسكرية التي كان يفترض أن تلي الحروب.
تدرك روسيا الطبيعة المتغيرة للحروب، ولذلك فلا بد من أن يتغير جيشها معها
ومع ذلك فإن أياً من العوامل التي حالت سابقاً دون حدوث هذا التحول لا تبدو موجودة في روسيا اليوم، بل إن كثيراً من عمليات التعلم الجارية حالياً تشبه تلك التي شهدتها موسكو بعد الحرب العالمية الثانية، وبالنظر إلى بنية الجيش الراهنة وأوضاعه المالية وقيادته، فيبدو أن المؤسسة العسكرية الروسية تستعد لمرحلة تعلم شاملة ومكثفة فور انتهاء الحرب في أوكرانيا، وقد بدأ المسؤولون بالفعل مناقشة مراجعة موسعة للمفاهيم العملياتية الروسية والنظرية والإستراتيجية العسكرية والأنظمة القتالية، وخيارات التسلح الطويلة الأمد الممتدة حتى منتصف ثلاثينيات هذا القرن، وأكدت شخصيات رسمية أن تجاوز التهديدات التي تواجه الهجمات المدرعة واسعة النطاق يعد أولوية بحثية قصوى، وأن ثمة خططاً لإعادة تصميم هيكل القوة والمفاهيم العملياتية للجيش بما يتلاءم مع هذا التحدي، ومن المرجح أن يركز الجيش الروسي من الآن فصاعداً على إنتاج مزيد من الطائرات المسيّرة وأنظمة القتال غير المأهولة الأخرى، والتي ستعزز القوة العسكرية لموسكو في مواجهة الـ "ناتو".
كذلك سيعمل القادة الروس على دمج الطائرات المسيّرة والروبوتات والأنظمة الذاتية الأخرى على نطاق أوسع داخل القوات المسلحة، ومن وجهة نظر المؤسسة العسكرية فإن هذه التقنيات تمثل مستقبل المعارك، فقد كتب الخبراء العسكريون الروس أن الأنظمة غير المأهولة ستصبح أهم أسلحة القرن الـ 21، ويتصور هؤلاء الخبراء عالماً تمتلئ فيه السماء بأسراب من الطائرات المسيّرة القادرة على إغراق دفاعات الخصوم، وطائرات مجهرية يصعب اكتشافها أو اعتراضها، وأخرى تحاكي في شكلها وسلوكها الطيور أو الحشرات أو الكائنات البرية الأخرى، وقد راقب الجيش الروسي عن كثب استخدام نظيره الأوكراني الروبوتات القتالية، ويستعد الآن للاستثمار على نحو أوسع في هذا المجال للمساعدة في مهمات تشمل الحراسة والخدمات اللوجستية وزرع الألغام وإزالتها والمراقبة تحت سطح البحر.
يعتبر المنظرون والقادة العسكريون الروس أن الذكاء الاصطناعي هو العنصر الرئيس في حروب العصر الحديث، فبفضل السرعة التي تتيحها هذه التقنية في معالجة الكم المتزايد من المعلومات الرقمية، سيتمكن القادة من اتخاذ قرارات أسرع، ويخشى الإستراتيجيون في موسكو من أنه إذا لم يمتلك القادة الروس أدوات متقدمة للذكاء الاصطناعي فسيتفوق عليهم خصوم يملكونها، ولهذا السبب يبحث الخبراء الروس في كيفية نشر أنظمة للقرار تعتمد على الذكاء الاصطناعي وأسلحة مدعومة به، مع مطلع ثلاثينيات هذا القرن، ويجري الجيش دراسات حول كيفية توظيف الذكاء الاصطناعي في الصواريخ فرط الصوتية وأنظمة الدفاع الجوي والطائرات المسيّرة، بهدف رفع كفاءتها القتالية، كما يبحث في سبل استخدام الذكاء الاصطناعي لتسريع إنجاز المهمات التحليلية وأتمتة عمليات إصدار الأوامر، وعلى رغم أن هذا المجال يعد أولوية وطنية فإن حجم الاستثمار فيه لا يزال محدوداً نسبياً، مما يقيد قدرات روسيا في المدى القريب.
التكيف أو الفناء
مع اندلاع الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022 أخطأ الجيش الروسي في تقدير قدرات خصمه وإصراره على القتال، فقد تبين أن كثيراً من معداته غير مؤهلة لتنفيذ المهمات الموكلة إليها، وقد تعطلت بعض المنظومات بالكامل ولم يكن الجنود أنفسهم مهيئين للمواجهة، إذ دخلوا المعارك من دون تدريب كاف، بل إن بعضهم لم يبلغ أصلاً بأنه ذاهب إلى الحرب، أما منظومة القيادة والسيطرة فقد واجهت خللاً عميقاً أعاق قدرتها على التنسيق وتنفيذ العمليات بفعالية.
لكن المراقبين للشأن العسكري الروسي لم يعد بإمكانهم الحكم على أداء موسكو بمعايير تلك المرحلة الأولى من الحرب، فخلال الأعوام اللاحقة تحول الجيش الروسي إلى مؤسسة تتعلم وتتكيف باستمرار، وأصبحت التعديلات التي يجريها على الخطوط الأمامية مجرد جزء من منظومة أوسع لبناء المعرفة العسكرية، فموسكو تعمل على جمع خبراتها القتالية وتحليلها ونشر الدروس المستخلصة منها عبر قواتها المسلحة ومجمعها الدفاعي بأكمله، وهي تسعى بطريقة منهجية إلى تسجيل تجربتها في زمن الحرب وتحويلها إلى معرفة مؤسسية راسخة، استعداداً لمرحلة إصلاح عسكري شامل بعد انتهاء الصراع، فلقد أدركت روسيا أن طبيعة الحروب المقبلة تتبدل جذرياً، ومن ثم فلا بد من أن يتبدل جيشها معهاز
سيواجه القادة الروس عقبات أمام تحقيق طموحاتهم حتى بعد انتهاء هذا الصراع، فمثلاً ستشكل العقوبات الدولية عائقاً كبيراً أمام تقدمهم، شرط أن تبقى سارية المفعول، إذ إن قدرة الجيش الروسي على التطوير ستعتمد في نهاية المطاف على التمويل المستمر والوصول إلى المعادن الحيوية والقدرة على إنتاج معدات متقدمة عالية الجودة، وهي جميعها أمور تجعلها العقوبات أكثر صعوبة، كما سيحتاج الجيش الروسي إلى دعم من القيادة العليا وإسهام عدد كاف من المحاربين المخضرمين ذوي الخبرة حتى تؤتي الإصلاحات المقررة ثمارها، ومهما كانت الظروف فستظل روسيا مقيدة بنقاط ضعفها التقليدية في العنصر البشري، مثل ضعف الانضباط، وببرنامج تسلح باهظ الكُلف يستنزف مواردها.
وعلى نحو متصل تشعر موسكو بالقلق من أن تقوم الولايات المتحدة وأوروبا بدرس حربها في أوكرانيا واستخلاص الدروس منها لتطوير وسائل مضادة لقدراتها وتكتيكاتها الجديدة، وعلى حلف شمال الأطلسي أن يثبت أن هذه المخاوف في محلها، فإذا أراد الغرب أن يواكب التطور الروسي ويعادل قدراته، خصوصاً في مجالات حيوية مثل حرب الطائرات المسيّرة، فعليه أن يسرّع تحليل وقائع غزو أوكرانيا ويترجم نتائجه إلى خطوات عملية، بما في ذلك توسيع برامج اقتناء الطائرات المسيّرة وتبني ابتكارات ميدانية أخرى، وعلى رغم وجود مؤسسات متخصصة في دول الـ "ناتو" تعنى باستخلاص الدروس من الحرب، فإن التقدم لا يزال بطيئاً ومجزأً، ولم تحدث هذه الجهود حتى الآن تحولاً جوهرياً في خطط التسليح أو برامج التدريب أو المفاهيم العملياتية للجيوش الغربية.
وكي لا يتخلف الغرب عن الركب فينبغي على الولايات المتحدة وأوروبا أن تولي اهتماماً أكبر، ولا سيما أن موسكو تنقل معارفها العسكرية إلى حلفائها من الأنظمة الاستبدادية، غير أن ذلك يتطلب نظرة واقعية إلى الجيش الروسي كما هو في حقيقته، جيش يعاني عللاً بنيوية واضحة، لكنه يمتلك قدراً من الصلابة تمكنه من الصمود والتكيف، فمشكلاته التنظيمية والانضباطية حقيقية، وستزداد خطورتها في حال اندلاع مواجهة مباشرة مع الـ "ناتو"، إلا أن مسار التعلم داخله لا يتوقف، إذ سيواصل الجيش الروسي تعديل تكتيكاته وتطوير أسلحة جديدة والتوسع ضمن خطة لإعادة البناء تمتد على مدى عقد كامل، وغالباً ما يُقال إن الجيوش هي التي تصنع الحروب، لكن الحروب في نهاية المطاف هي التي تعيد تشكيل الجيوش أيضاً.
مترجم عن "فورين أفيرز" نوفمبر (تشرين ثاني) / ديسمبر (كانون أول) 2025
دارا ماسيكوت، زميلة أولى في "برنامج روسيا وأوراسيا" ضمن "صندوق كارنيغي للسلام الدولي"، وفي وقت سابق عملت باحثة متقدمة لشؤون السياسة في "مؤسسة راند"، وشغلت منصب المحللة المتقدمة في وزارة الدفاع / الحرب.