أعلن دونالد ترمب أن خطته للسلام في الشرق الأوسط تمثّل "يوماً عظيماً، عظيماً جداً، يوماً جميلاً، وربما أحد أعظم الأيام في تاريخ الحضارة"، وبعد أربعة أيام، أعلنت حركة "حماس" استعدادها لإطلاق سراح جميع الرهائن الإسرائيليين المتبقين، ورد ترمب بالقول إن "’حماس‘ أظهرت أنها مستعدة لسلام دائم"، مضيفاً "يجب على إسرائيل أن توقف القصف فوراً حتى نتمكن من إخراج الرهائن بأمان وسرعة!".
لكن سرعان ما فرض الواقع نفسه، أولاً، إن "الخطة" التي وافق عليها القادة العرب بعد لقائهم ترمب في نيويورك خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة لم تكن هي نفسها الخطة التي أعلنها ترمب لاحقاً، فقد أقنع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ترمب بإدخال تعديلات عدة تصب في مصلحة إسرائيل قبل اللقاء الذي جمعهما في البيت الأبيض الأسبوع الماضي.
من الواضح أنه في هذه الأيام الأولى بعد إعلان ترمب ونتنياهو، لا ترغب إسرائيل ولا "حماس" في أن تُوصم علناً بأنها "العقبة أمام السلام"، لقد شهدنا ما يكفي من السيناريوهات المماثلة لنعرف أن معظم ما نراه ونسمعه ليس سوى أداء مسرحي
وعلى رغم أن الدول العربية كانت، وفقاً للتقارير، "غاضبة بشدة" من تلك التعديلات، فإنها آثرت إعلان تأييدها العلني للخطة لتفادي عرقلتها والسماح بمضيها قدماً، غير أن تنفيذها سيحتاج إلى أسابيع وربما أشهر من المفاوضات قبل أن يتحقق أي تقدم فعلي، حتى في حال جرى تبادل الرهائن سريعاً، وفي أي مرحلة قد تصل هذه المفاوضات إلى طريق مسدود، كما حدث مراراً في مسارات السلام السابقة، وحتى بعد التوصل إلى تفاهمات حول القضايا الجوهرية يبقى احتمال انهيارها قائماً، وهي تجربة مألوفة في تاريخ جهود السلام في الشرق الأوسط.
ثانياً، تبدو الخطة طموحة في ظاهرها، لكنها تفتقر إلى التفاصيل العملية وآليات التنفيذ الواضحة، فعلى سبيل المثال ركز المعلقون على ما اعتبروه تنازلاً إسرائيلياً في "البند 19" المتعلق بقيام دولة فلسطينية، غير أن النص ذاته مشروط ومليء بالتعقيدات إلى حد يفقده جديته ومضمونه، ويجعله في النهاية نصاً عبثياً، إذ تنص الخطة على أنه "بينما يتقدم تطوير غزة" ويجري تنفيذ برنامج إصلاح السلطة الفلسطينية "بأمانة والتزام"، عندها "قد تتوافر في النهاية الشروط التي تتيح مساراً موثوقاً نحو تقرير المصير الفلسطيني وإقامة الدولة"، وكما كان يقول الرومان القدماء: الحذر واجب عند الشراء.
ثالثاً، وهو الأمر الأهم، إعلان "حماس" الجمعة لم يكن قبولاً غير مشروط، بل كان "نعم، ولكن" متضمنةً شروطاً قد تعرقل تنفيذ الخطة، ومساعي ضمنية لإعادة صياغتها كما طُرحت، في المقابل كان من السهل نسبياً على إسرائيل قبول خطة ترمب من دون شروط مماثلة، ليس فقط بسبب التعديلات التي منحها ترمب لنتنياهو، بل لأن الخطة، كما كُتبت، تتضمن كثيراً من المسارات أو "الثغرات" التي يمكن لإسرائيل الاستفادة منها متى شاءت، وهكذا، تجد "حماس" وإيران، الداعم الرئيس لها في أنشطتها الإرهابية، نفسيهما في موقف سياسي غير مواتٍ منذ البداية، فقد منح ترمب نتنياهو صراحة بركته ليفعل ما يجب فعله، ودعمه الكامل لإتمام مهمة تدمير التهديد الذي تشكله "حماس"، لذا لم يكن غريباً أن تجد إسرائيل سهولة في قبول الخطة.
أخيراً، لدى ترمب ميل لإعلان النصر حين يخدمه التوقيت، كما حدث عندما أصدرت "حماس" ردها الأولي، فقد اعتبر الموافقة الجزئية على احتمال إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين أمراً منجزاً، ثم أعلن أن الاتفاق برمته قد نجح، وقد فعل الشيء نفسه تقريباً في يونيو (حزيران) الماضي، بعدما ألقت القاذفات الأميركية من طراز "بي-2" قنابل خارقة للتحصينات على منشآت برنامج إيران للأسلحة النووية، حينها أعلن النصر في "الحرب ذات الأيام الـ12" التي شنتها إسرائيل ضد إيران، ودعا إلى وقف فوري لإطلاق النار، لكن الواقع أن الولايات المتحدة وإسرائيل كان عليهما مواصلة الضربات، إذ على رغم أن الهجمات ألحقت أضراراً كبيرة بمنشآت إيران النووية فإنها لم تدمرها بالكامل.
اللحظات التي اختار فيها ترمب تهنئة نفسه كانت بالفعل محطات بارزة، لكنها لم تكن نتائج نهائية، وينطبق ذلك على نحو خاص على مفاوضات الرهائن، التي شكلت هاجساً لترمب منذ ولايته الأولى، وفي مطلع ولايته الثانية نجح في التوصل إلى صفقة أُفرج بموجبها عن عدد من الرهائن (وجثامين من لقوا حتفهم) عبر إرغام إسرائيل و"حماس" على قبول خطة كانت قد تفاوضت عليها أساساً إدارة بايدن، غير أنه بعد تنفيذ عملية تبادل الرهائن في "اتفاق بايدن"، انهار ما تبقى من الاتفاق الذي كان يهدف إلى تسوية شاملة للنزاع بين إسرائيل و"حماس"، وهناك كل ما يدعو إلى الاعتقاد بأن السيناريو نفسه سيتكرر في هذه المرة أيضاً.
قضية الرهائن تثير مشاعر قوية وصوراً مؤثرة، لكن النزاعات المعقدة بين إسرائيل وإيران ووكلائها المسلحين، خصوصاً "حماس"، أشد صعوبة في المعالجة إذا كان الهدف هو التوصل إلى حل مستدام طويل الأمد، لا مجرد تفاعل عابر على وسائل التواصل الاجتماعي.
من الواضح أنه في هذه الأيام الأولى بعد إعلان ترمب ونتنياهو، لا ترغب إسرائيل ولا "حماس" في أن تُوصم علناً بأنها "العقبة أمام السلام"، لقد شهدنا ما يكفي من السيناريوهات المماثلة لنعرف أن معظم ما نراه ونسمعه ليس سوى أداء مسرحي، والأهم من ذلك كله أن صمت إيران خلال الأسبوع الماضي كان مدوياً، فحتى تُعلن طهران دعمها، إن فعلت يوماً، ستظل الخطة مجرد حبر على ورق.
خطة ترمب المؤلفة من 20 بنداً غامضة ومعقدة ومبالِغة في طموحها، وقد تنهار ببساطة تحت وطأة تعقيدها الذاتي، فحين انتهت الحرب العالمية الأولى، أصدر الرئيس الأميركي وودرو ويلسون "14 نقطة" شهيرة لوضع أسس السلام العالمي، ورد عليه رئيس الوزراء الفرنسي جورج كليمنصو قائلاً "14 نقطة؟ هذا كثير! حتى الله اكتفى بـ10 وصايا!" سنرى ما إذا كان ترمب سينجح في ما فشل فيه ويلسون.