رفيق خوري
ليس أمراً قليل الدلالات أن تسارع دول الخليج إلى تحذير مواطنيها من البقاء في لبنان أو التجول في مناطق محددة منه، ولا فرق سواء كان السبب هو المعارك بين الفصائل الفلسطينية في مخيم عين الحلوة المسمى عاصمة الشتات الفلسطيني، أو التحسب لتحول التهديدات المتبادلة بين إسرائيل و"حزب الله" إلى صدام إقليمي واسع، أو فراغ السلطة في لبنان البارعة في التفاهة والتملص من المسؤوليات، ولا هو يتناقض مع دور السعودية وقطر ضمن "الخماسية" العربية والدولية العاملة على إخراج البلد من مأزق الشغور الرئاسي.
المشكلة لبنانية أولاً، وقمة المأساة أن يصبح الوطن الصغير مجرد مساحة جغرافية تتصارع فوقها المشاريع الإقليمية على حساب اللبنانيين ومعظم البلدان العربية، لا بل أن يتكرر التاريخ لا على طريقة هيغل التي سخر منها ماركس بالحديث عن مأساة في المرة الأولى وملهاة في المرة الثانية، بل أن تكون المأساة في المرة الثانية أكبر من الأولى.
في أوائل الستينيات من القرن الماضي سأل صحافي لبناني مسؤولاً عربياً نافذاً وعلى صلة بالتحضيرات لحرب شعبية ضد إسرائيل، على طريقة ماوتسي تونغ في الصين، لماذا يبدو الخيار الأول لفتح الجبهة أمام الكفاح المسلح الفلسطيني هو لبنان، الحلقة الأضعف بين دول الطوق؟ جاءه الجواب صريحاً "لأننا نريد تغيير لبنان والتركيبة التي قام عليها"، وهذا ما حدث بالفعل عبر المقاومة الفلسطينية التي اختارت "عمليات القشرة" والدور السوري المباشر والدور العربي اللامباشر وحرب لبنان والاجتياحات الإسرائيلية، لكن التغيير لم يكن نحو الأفضل بل نحو الأسوأ.
وحتى بعدما توقفت حرب لبنان إثر "اتفاق الطائف"، فإن قرار حل الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية لم يتم تطبيقه إلا جزئياً وانتقائياً، فـ "حزب الله" احتفظ بسلاحه على أساس أنه حركة مقاومة لا ميليشيات، والفصائل الفلسطينية، لا سيما منها الموالية لدمشق ثم طهران، بقيت مسلحة داخل المخيمات وخارجها، ولم يتبدل الوضع بعدما جرى التفاهم في الحوار الوطني الذي دار في المجلس النيابي عام 2006 على "نزع السلاح الفلسطيني خارج المخيمات وتنظيمه داخلها"، ولا طبقت السلطة ما طلبه الرئيس الفلسطيني محمود عباس بالقول إن "السلاح خارج المخيمات ضد لبنان، وداخل المخيمات ضد فلسطين".
ذلك أن لبنان الذي صنفته جامعة الدول العربية "دولة مساندة" جرى تحميله مرتين جزءاً كبيراً من عبء الصراع مع إسرائيل، مرة في مرحلة القوى القومية التي رفعت شعار تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، ومرة في مرحلة القوى الإسلامية المنخرطة في "محور المقاومة" بقيادة طهران، حيث يلعب شعار تحرير فلسطين دوراً مهماً في المشروع الإقليمي الإيراني.
عقود من تضحيات لم تصل إلى مكان بقيادة القوى القومية، ورهانات على عقود جديدة من التضحيات بقيادة الجمهورية الإسلامية ورأس حربتها "حزب الله" قبل "حماس" و"الجهاد الإسلامي" وفصائل "الحشد الشعبي" في العراق و"أنصار الله" الحوثيين في اليمن، والشيء المؤكد، بصرف النظر عن الحسابات النظرية والأيديولوجية، هو أن لبنان يدفع القسم الأكبر من كلفة الصراع مع إسرائيل وثمن المشروع الإيراني، وليس إبقاء لبنان بلا رأس سوى جزء من الثمن.
كذلك سعي "محور الممانعة" لربح حرب النفوذ في المخيمات وتوسيع مساحة "منطقة الصيد الحرة" وعزل لبنان العربي الهوية والانتماء، بحسب الدستور، عن الأشقاء العرب والأصدقاء الدوليين وإلحاقه نهائياً بالمشروع الإيراني، ولا جدوى من الدعوات إلى المساعدة إن لم يواجه اللبنانيون التحديات بالفعل.