• الساعة الآن 07:44 PM
  • 20℃ صنعاء, اليمن
  • -18℃ صنعاء, اليمن

احتجاج على الجوع

news-details

 

 

كثيراً ما يستفزني الفقر والجوع والظلم والفساد.. يستفزني الاستبداد بكل صنوفه حتى وإن لبس ثوب الأب أو المعلم أو القائد، أو القديس أو الكاهن.. يستفزني أكثر غرور السلطة وعنادها وخواء التعالي والاستكبار في وجه الحق والعدالة التي أحلم بها وأهتم بأمرها.. لم أعتد الظلم لأهوّن منه أو أتصالح معه مهما طالت سنينه.. لا أتسامح مع الظلم وأنا المجبول على النسيان، حتى يتم كسره أو إسقاطه أو التحرر من ربقته.

روحي لا تهدأ ولا تستكين، وتظل دوما متحفزة للتململ والتمرد والثورة.. مسكوناً على الدوام بالقلق وعدم الرضى، حتى وإن لذتُ بالصمتِ قليلا، أو شعرت بخذلان مُحبط إلى حين، أو تعاميتُ مرغما عن الحق لبعض الوقت، أو حتى تواطأت لأسباب تخصّني، فإنني أعيش صراعاً داخلياً أقوى وأكثر احتداما مع ضميري، وتأنيب ضميري يظل يرفسني من الداخل كحمار وحشي، حتى أعود إلى الصواب أو الصحيح ما أمكن.

ربما هذه الروح غير القطيعية هي من كانت السبب في استبعادي من فرص متاحة اغتنمها غيري، وأهدرتها أنا بوعي وقناعة وزُهد، لأنني اعتبرتها في حقيقتها بل ولازلت، مجرد مصائد ومكائد، ومعتقلا للاستعباد لا فكاك منه ولا مفر.

أشعر أحياناً بالتعب والضنك، ولكن ما إن أستريح قليلاً أو أسترجع الأنفاس حتى أعاود الكرّة مرتين وثلاثاً.. أعود إلى إعلان الرفض، وفعل التمرد، والمقاومة حتى تستقيم الأمور، أو تنتهي إلى زوال.

أخوض مع الواقع صراعاً صبوراً كـ "سيزيف" رمز العذاب الأبدي مع الصخرة، أو كإبليس الذي شق عصا الجماعة، وعصى ربه منفرداً وشاذاً؛ لإنفاذ مشيئة ربه المكتوبة في لوحه  المحفوظ، مقدماً إياها على أنانيته.. أحاول أن أوصل صوتي المضطهد إلى أقصى مدى ممكن، حتى وإن أكلت بعضه الدود، فإنني على الدوام أحاول أن أجد نفسي مصطفاً مع المضطهدين في قضاياهم العادلة، وفي مقاومة من يصنع ذلك الظلم والاضطهاد، بل والاستعباد أياً كان صاحبه.

ربما أبدو قلقاً على الدوام، وغير راضٍ على سير الأمور والأحوال، بل وربما ساخطاً على هذا العالم الدامي، ونظامه المرتكز على الظلم والاستغلال، وثائراً في وجه الأقدار التي أشعر أنها غير عادلة.. كل ذلك أدركته اليوم ملياً، وما كنت أدركه فيما خلا، وكانت البداية في أول احتجاج أشارك فيه حالما كنت مراهقاً، أو في مطلع الشباب الباكر.

***

في مدرسة "البروليتاريا" وبسبب الجوع، واحتجاجاً على غياب التحسين في وجبات الغذاء، وانقطاع الكهرباء، أضرب عدد كبير من الطلاب عن الدراسة، وكنت واحداً منهم.

امتنعنا عن الدراسة، وخرجنا للرصيف نحتج على رداءة الغذاء والمطالبة بتحسينه.. قطعنا الطريق بين لحج وعدن بالحجارة ومنعنا عبور السيارات، وهو عمل جريء في ذلك العهد، بل وشديد الحساسية؛ لأن أي عمل أو احتجاج من هذا القبيل، كان يصنّف باعتباره ثورة مضادة، ويذهب بعض السياسيين إلى تفسيره بأكثر الاحتمالات سوءاً وقبحاً، وبأسباب يفترضونها فوق ما نطيق ونحتمل، غير أن وجود طلاب محتجين من الضالع وردفان والصبيحة درأ عنّا كثير من تلك الاحتمالات والافتراضات ومنعت عنّا عواقبه.

كثيرون هم الطلاب الذين التزموا الاحتجاج وامتنعوا عن الذهاب إلى الصفوف الدراسية، وبعضهم وهنوا بعد يوم أو بضع يوم، وبعضهم آثروا السلامة، وتحاشوا المشاركة في هذا العمل الاحتجاجي شديد الندرة والوقوع، إن لم يكن غير المسبوق.

زميلي أحمد مسعد الشعيبي يصف ما حدث بأول انتفاضه طلابية عفوية ضد الحرمان من الحقوق الطبيعية المتمثلة في المأكل والمسكن... وقد اطلق شررها انقطاع التيار الكهربائي بسبب عدم سداد إدارة التربية فاتورة استهلاك الكهرباء، وقد انطلق الطلاب إلى الخط العام قاطعين الطريق العام التي تربط محافظة لحج بمحافظة عدن.

كان الطلاب من أبناء الضالع في المدرسة هم طليعة المحتجين.. كنتُ معجباً بأولئك “المجانين” الذين رفضوا الظلام، ونازلوا الجوع، وتحدوا عواقبه.

كنت أنظر لغير المحتجين نظرة سخط وازدراء، وأسأل نفسي: لماذا هؤلاء يتلبسهم الخوف ويركبهم الخذلان، ولا يسخطون على الجوع والقائمين عليه؟!!

أعجبتُ بالطلاب الذين يجرؤون على الاحتجاج، ويحاولون أن يصلوا بصوت الجوع إلى أكبر مسؤول في البلاد.

كان المسؤولون في المحافظة ولاسيما في التربية والتعليم الذين تتبع المدرسة مسؤوليتهم هلعين من انعكاسات وتأثير تلك الاحتجاجات عليهم، وعلى مناصبهم ووظائفهم.

نزل المسؤولون عن التربية والتعليم في المحافظة ليجتمعوا بالطلاب ويسمعوا مطالب المحتجين ومناقشتهم فيها بعد فشلهم في إرعابهم وثنيهم عن مواصلة الاحتجاج، وإرجاعهم إلى فصولهم الدراسية.

لم نهدأ ولم نكف عن الاحتجاج الا بعد حضور علي عنتر، والذي نجح في تهدئتنا عندما قال: "تروحوا أسبوع وترجعوا على أكل حسين ونظيف" وأمر بتحضير ناقلات “بوابير” لنقل الراغبين من المحتجين، والمتذمرين كُلا الى مديريته والعودة إلى أسرهم في إجازة قصيرة، ريثما يتم تدبّر الأمور، وتحقيق مطالب المحتجين.

العمل الاحتجاجي من هذا النوع وضد السلطة الثورية أو هكذا يفهم مثل هذا النوع من الاحتجاج وفي تلك الفترة شديدة الحساسية كان عملاً جريئاً ومقداماً بكل المقاييس.

أن يندلع عمل احتجاجي في مدرسة تحمل اسماً عظيماً في دولة تدّعي أنها تتبني نظرية الاشتراكية العلمية، وتعمل من أجل إقامة دولة "البروليتاريا" عمل ربما يكشف هشاشة بعض من ذلك الادعاء.

أسفر هذا الاحتجاج عن نتائج تحسين ملحوظة في التغذية، والنظافة والتنظيم واستعادة الكهرباء المقطوعة.. وكان هذا العمل هو أول احتجاجي أشارك فيه.

***

شارك المقال: