الرئيس رجب طيب أردوغان لا يتعب من الغضب والخطابة اليومية عبر الميكروفون. كان في غنى عن تلقي ضربة سياسية قوية مثل زلزال بعد فوزه المدوي بولاية رئاسية أخيرة له، بحسب الدستور. لكن غطرسة القوة منعته من رؤية الأوراق القوية التي يجمعها معارضوه ويلعبونها ببراعة في مواجهة حاكم سلطوي يرتكب الأخطاء ويتصرف كأنه هو "الأمة"، متهماً خصومه بأنهم "أعداء الأمة". وجشع السلطة دفعه إلى تصور أن أمامه فرصة مفتوحة لتسجيل انتصار كبير في الانتخابات البلدية يمسح معارضيه ويسمح له بإجراء انتخابات نيابية مبكرة يحوز فيها أكثرية الثلثين بما يمكنه من تعديل الدستور وفتح الباب أمام ترشحه للرئاسة من جديد.
فالرجل الذي أمسك بالسلطة ولا يزال منذ عام 2002 يريد إكمال ما سماه "قرن تركيا"، الذي هو في نظره "قرن أردوغان". لذلك نزل إلى الشارع وأوحى أن المعركة، لا سيما على رئاسة البلدية في إسطنبول، هي معركته الشخصية والوجه الثاني لمعركته الرئاسية، من ثم هو المرشح الحقيقي ومرشحه المعلن هو الظل. والنتيجة خسارة مدوية له ولحزبه "الحرية والعدالة".
الرئيس الحالي للبلدية من حزب "الشعب الجمهوري" المعارض أكرم إمام أوغلو ربح من جديد. والمرشحون الآخرون من حزب الشعب أعادوا الربح في أنقرة وإزمير. أضافوا إلى ما كان لهم رئاسة بلديات عدة كانت في أيدي "الحرية والعدالة". وهكذا تحولت أحلام أردوغان إلى كوابيس. ولا أحد يعرف كيف ينفذ تعهده بـ"محاسبة أنفسنا". أول ما اعترف به هو وجود "تحول"، مع تخفيف الصدمة وتعزية النفس بالقول إن ما حدث ليس "آخر الدنيا". وأقل ما عليه مواجهته هو تضاؤل هيبته واهتزاز سطوته الرئاسية. والأهم والأصعب هو القيام بقراءة عميقة في "التحول" الحاصل داخل المجتمع التركي. فالخسارة ليست فقط في المدن، وهي متوقعة حيث تراث أتاتورك العلماني والتيارات اليسارية وصعود الطبقة الوسطى، بل أيضاً في الريف معقل التيارات الدينية. وليس أمراً قليل الدلالات أن تمر الذكرى المئوية لإقامة جمهورية أتاتورك بأقل قدر من اهتمام أردوغان، وسط تخطيطه لاحتفالات عام 2053 في ذكرى "فتح القسطنطينية" على يد محمد الفاتح عام 1453. وعام 2071 في الذكرى الألفية لمعركة "ملاذكرد" عام 1071 بين السلاجقة بقيادة ألب أرسلان والإمبراطور البيزنطي.
ذلك أن "دوار النجاح" الذي حذر منه ستالين وقع فيه أردوغان. وقد تصور أنه يستطيع أن يلعب كل الأدوار من دون دفع الثمن. دور حاكم سلطوي في ديمقراطية، وإسلامي متشدد في نظام علماني. دور من يركز كل العمل العسكري والأمني وحتى السياسي على ما يسميه "الخطر الكردي"، ومن يرسل بواخر يومياً إلى إسرائيل محملة بالقمح والخضراوات والفولاذ والأسمنت والأسلاك الشائكة لإقامة الحواجز مع خطاب ضد التوحش الإسرائيلي في حرب غزة، دور من يلعب لعبة الوسيط بين روسيا وأوكرانيا في الحرب ثم يرسل مسيرات "بيرقدار" إلى كييف ويجعل تركيا ممراً للغاز الروسي، دور من يحاول إقناع الغرب أن حزبه الإسلامي هو حزب ديمقراطي معتدل على غرار الأحزاب "المسيحية الديمقراطية" في أوروبا ومن يعمل على مراحل لتقويض النظام العلماني في بلاده وتعميق الدور الديني، دور من أراد تزعم سيطرة "الإخوان المسلمين" على السلطة في تونس وليبيا وسوريا وغزة خلال "الربيع العربي"، ومن أجبره الانفتاح على مصر والإمارات والسعودية على التشدد مع "الإخوان"، وأبسط ما قاد إلى ذلك هو أن تركيا في المرتبة 101 بين الدول التي تحترم حقوق الإنسان، بحسب بيانات الأمم المتحدة.
ولا شيء يوحي أن الأوضاع الاقتصادية الصعبة في الداخل والمغامرات العسكرية الخارجية تقنع الطامحين إلى استعادة الإمبراطوريات بأن الزمن فات على أدوار "السلطان" في إسطنبول و"القيصر" في الكرملين و"قورش الكبير" في طهران.