لطفي فؤاد نعمان
بمناسبة مئوية ميلاد "كيس الخبرة الدولية" د.هنري كيسنجر احتفت معظم القنوات والمواقع والشخوص بطرق خاصة ورؤى محددة وموجهة، وتواتر الناس تصنيفه صانع سياسات وأزمات وأحداث مفصلية ومفكرًا استراتيجيًا ووزيرًا سابقًا ومستشارًا دوليًا لا يزال يعرض خدماته لوقف حرب أوكرانيا.
حتى اللحظة يتمتع السيد هنري بحيوية فكرية خالفت توقعات أن أحد كتبه قبل عشر سنين تقريبًا قد يكون الأخير فالعمر لن يمهله، ثم امتد به العمر وأصدر كتابين اثنين بعدها، ويعلم الله ماذا يكتب غدًا، وماذا سيكتب عنه. فما أوتيتم من العلم والقدرة على العلم وتقدير العمر إلا قليلا.
قليلاً ما كان كيسنجر لا يثير الجدل منذ اقتحم مجالات العمل الفكري والسياسي العالمي خطوة خطوة، حتى أصبح علما من أعلام السياسة الدولية.
ما هو سبب شهرته: أصوله الألمانية، ديانته اليهودية، جنسيته الأميركية، منهجيته العلمية التاريخية أو سياسته الواقعية ودعايات خصومه عنه كمجرم حرب.
بعيدًا عن التفسيرات التآمرية وتسويق مسلمات وخزعبلات وتصميم لائحة اتهامات ضد الشخصيات التاريخية المهمة حسب الإعلامي ممدوح المهيني، نجح كيسنجر في تتبع التاريخ، وفكر وقدر بواقعية إمكانية إحداث تماسك النظام الدولي، فاخترق الحواجز مسلحًا بإمكانيات ذاتية تجعل عمره 400 عام ما دام يستعيد 300 عام من التاريخ لعب فيها توازن القوى مع الدبلوماسية دورًا في تشكيل العالم، حسب دراسته العلمية عن عالم يعاد بناؤه، بمعاهدة وستفاليا. فضلًا عما يتملكه من شعور تجاه موطنه الأميركي الحاضن لأسرته الألمانية. امتنانه الفطري حرك توجهه الفكري والسياسي لكي يجتهد بوعي منظم ويعرض صورة أميركا كقوة عالمية خيرة، حسب قوله، لا غنى عنها لاستقرار العالم، وتتضمن مذكراته سنوات التجديد استخلاصا مصريا سوريا بأن لا غنى عن دور واشنطن وتأثيرها.
ولأن العاطفة شريحة تنشط الإنسان، ستؤثر فيه عاطفته الدينية بالنسبة للتعامل مع الإسرائيليين ومراعاة ظروفهم دون أن تمنع أميركيته ووظيفته السياسية من إبداء انزعاجه من طريقة تفاوض الإسرائيليين وإثارتهم للأعصاب بالعناد والتعنت. في اليمن من يشبههم!
تلك الطريقة الإسرائيلية، جعلته من أول لقاء له كوزير خارجية مع نظرائه العرب بنيويورك يعلن ألا يتوقعوا معجزة أميركية، حسب نيويورك تايمز.
جريدة النهار اللبنانية تلقت من موفدها سمير عطا الله أخبار ذاك اللقاء في سبتمبر 1973م ، مؤخرًا أعطى عطا الله جريدة الشرق الأوسط السعودية مقالاته عن مئوية كيسنجر وكتابه الأخير: القيادة.
يومها نشرت النهار بعض ما دار بين د.كيسنجر ونظرائه العرب حول جمود قضية الشرق الأوسط، وهم الأمين العام لجامعة الدول العربية د.محمود رياض، ووزراء خارجية اليمن الشمالي الأستاذ محمد أحمد نعمان ولبنان فؤاد نفاع والبحرين محمد بن مبارك آل خليفة وبعض السفراء لدى الأمم المتحدة. واقتناع كيسنجر بفكرة نظيره اليمني محمد نعمان أهمية تحريك القضية المجمدة بوجود المحاور الفلسطيني، لأن غيابه يعقد المشكلة أكثر. بعدها بأيام يشهد العالم في أكتوبر 73م معجزة عبور عربي مفاجئ تستهدف السلام، ثم تحدث ثغرة لصالح إسرائيل ليمارس بعدها كيسنجر سياسة الخطوة خطوة والدبلوماسية المكوكية رآه خلالها السيد إسماعيل فهمي كمبعوث لإسرائيل -وفق كتاب "التفاوض من أجل السلام في الشرق الأوسط"- بعدما يصف كيسنجر بالذكاء الفذ؛ لكن الذكي الفذ أو "سيد اللعبة" يقول إنه يوازن بين عدم كسر حلفائه وبين مراعاة اعتبارات أصدقائه.
تُرى ضمن أي لعبة مثيرة لاهتمامات كيسنجر كان اليمن؟ روابط التعاون الأميركي مع دول المنطقة تجعل "اليمننة" شمالًا وجنوبًا محط اهتمام. كما تُظهِر مراسلته للجانب السعودي في أبريل 76م بشأن تمويل الرياض تسليح صنعاء أثناء عهد رئيس اليمن الشمالي إبراهيم الحمدي الذي أعلن التخلي عن سلاح السوفييت في أغسطس 75م. ونتيجة الحرص الأميركي على تقليص النفوذ الشيوعي المنافس في المنطقة، يمد بصره صوب جنوب اليمن بعد توصيات الرئيس المصري محمد أنور السادات والوزير إسماعيل فهمي وجهود المستشار أشرف مروان، وطبعاً بعد إحاطته للرياض يبحث د.هنري في نيويورك إعادة علاقات واشنطن – عدن مع وزير الخارجية محمد صالح مطيع في أكتوبر ٧٥م.
على هامش إحدى فعاليات لندن في نوفمبر 97م يلتقي الرئيس التكتيكي علي عبدالله صالح بالسياسي الاستراتيجي هنري كيسنجر.
ويتخلل اليمن بعض مداخلاته ومقالاته الأخيرة، كبؤرة من بؤر القلق الإقليمية والدولية؛ بكل أسف، هكذا يصنع البشر باليمن.
في ذات السياق ضمن إحدى مقابلاته قال كيسنجر إن في الشرق الأوسط عدوك يظل عدوك، فهل يُخيب اتفاق بكين بين الرياض وطهران فرضيته هذه أم لا؟
باعتبار بؤر القلق والحروب والنزاعات نتاج تهور وتخلف أو غباءٍ بشري، يحاول كيسنجر من واشنطن باستشارته واستطاعته إدارتها أو إثارتها. ولأنه يعتز بتجربته في تحقيق وفاق موسكو وواشنطن بعد استغلال تناقضات موسكو وبكين التي يسرت زيارة الرئيس نيكسون سنة 1972م، ومن أجل فهمها جيداً كتب سنة 2011م كتابًا عن الصين.. وتجده الآن ينصح واشنطن بالحوار بدل سقطة الصدام.
لأن الحوادث التاريخية مستمرة متكررة، كملهاةٍ ثم كمأساة، فإن المخترعات الحديثة، تبعث قلق د.هنري فيقتحم مجال البحث عن الذكاء الاصطناعي وتأثيره على المستقبل البشري.
بمناسبة أخرى متابعات هذا المئوي هل سيصلح الذكاء الاصطناعي ما أفسده الغباء البشري، أم كونها نتاجًا بشريًا ستصل يد أغبياء يباعدون فرص السلام.
مثلما استهل نشاطه بالأمم المتحدة سنة 73م بمقولة إيمانويل كانط عن السلام يختم د.هنري لقاءه مع الايكونوميست 2023م بمقولة لكانط أيضًا: يتحقق السلام إما بالكوارث أو بالتفاهم والتعقل.. يضيف كيسنجر إن مُهمة القادة تجنب الكوارث بالتفاهم والتعقل.
لعل ذاك ما ينقص الأذكياء الطبيعيين لتحقيق السلام لليمن، فهل تتوفر بالذكاء الاصطناعي؟