خاص | النقار
في شهر رمضان تتسارع عجلة الحياة في الواقع اليمني وتتزايد خلاله ملامح الاكتظاظ السكاني في الشوارع الرئيسية والأسواق الشعبية والمتاجر المختلفة، في ظل تراجع ملحوظ بقدرة المواطنين على الشراء والتسوق، ولكن الأمر يتهيء وفق معطيات معقدة ومترابطة، إذ يظهر للناس خلال رمضان مصادر دخل جديدة ومعروفة، أغلب الموظفين في القطاع الخاص يحصلون على مبالغ معينة تحت ما يسمى "إكرامية رمضان"، وهي مبالغ مخصصة لمتطلبات رمضان الغذائية، لكنها غير موجودة مع موظفي القطاع العام، لهذا فموظفي الحكومة يعانون أكثر مع انقطاع رواتبهم منذ تسع سنوات، وهذا الأمر يلقي بظلاله على قدرتهم لتوفير احتياجاتهم المعيشية، ومن جهة إضافية، تظهر حملات مساعدات ومعونات للمواطنين، كبادرات وضدقات وحملات تلقائية، هذه حقيقة متزايدة في الوسط الشعبي اليمني، فالكثير من مندوبي رجال الأعمال يمرون على بيوت الناس الفقيرة ويعطونهم مبالغ مالية، وأخرون من جهتهم بدأوا بتوزيع سلال غذائية، والكثير الكثير من مظاهر الحياة اليمنية خلال شهر رمضان، وهذا ما سنتحدث عنه هنا بالتفصيل.
شاعرية رمضان المعروفة.
يعتبر رمضان شهرًا مشاعريًا وعاطفيًا ومرتبطًا بعادات نوعية وخاصة، شهرًا مرتبطًا في عقول اليمنيين وقلوبهم بأجمل اللحظات السابقة، ومذكرًا إياهم بحياتهم الحالية، وما فيها من غياب وبُعد وفقر وعجز وخذلان، الحنين في شهر رمضان شعور عام، ومشاعر الحنين فيه تغشى الساكنين والمبعدين، إنه كتلة من المشاعر المتداخلة والمترابطة، المشاعر البشرية بينما تفترس قلب صاحبها، وتنتزعه من هدوء وهروبه وتجاهلاته، ليصير فزاعة من الخوف والأوجاع والأحزان العميقة، الجميع فيه شاعريون، والخيالات فيه مرتبطة بلحظات قديمة وخالدة، وأمنيات العودة إليها جامعة وكبيرة، والخوف من فقدها وزوالها جوامع طاغية وشاملة ومستحوذة على مشاعر الجميع..
طقوس دائمة..
لطالما احتفى اليمنيون في صنعاء وبقية مناطقها برمضان ولياليه العامرة بالعبادة والتلاوة والصلاة، ليالي مأذن صنعاء الماضية بينما تضيء أصواتها الليل بتلاوات عذبة وجميلة وعظيمة، أصوات تأخذ الناس معها ونفوسهم ميولًا إجباريًا بإتجاه الخير والتفضل وتذكر الذنوب والسيئات والكبائر والخوف مما اقترفته النفس في حياتها، كانت ليالي ضرورية في حياة الناس وواقعهم المليء بالإنشغال والشر، كان هذا فيما مضى، لكنه اليوم باقٍ بذكريات الناس عن تلك الليالي العامرة بالكثير من الروحانية والجمال، وعلى النقيض من ذلك يأتي الواقع الجديد ومن جاء بعده، ليحدث ميولًا باتجاه الشدة والقوة والعنف والنفوس الأشد والأشرس، متجاوزًا بذلك ليونة الدين وأثره المروح للنفس والمذكر البشر بخطاياها، وهذا بدوره ينعكس على مظاهر رمضان في الحياة العامة، إذ تتوقف الليالي عن أصواتها المعروفة، لأن معظم المساجد لا تصلي التروايح، ولا تفتح تلاواتها كما كان في الماضي، وبدلًا عنها ألزموا الناس بفتح محاضرات لقائد أنصار الله، محاضرات يومية في ذات التوقيت الذي كان يصلي فيه الناس صلاة التروايح. ومن جهة مصاحبة، مازالت مظاهر التروايح قائمة وبطفرة كبيرة في مناطق النصف الأخر من البلد، عدن ومأرب وتعز وحضرموت وبقية المحافظات.
انقسام واضح..
وهنا تظهر مظاهر متعددة للإنقسام الحاصل في الواقع اليمني، خصوصًا مع تركيزنا على تفاصيل الحياة العامة في شهر رمضان، تفاصيل متناقضة تمامًا بين المدن والمحافظات، وأسبابها تؤول لطبيعة السلطة القائمة في ذات المدينة المعنية، مما يجعل اللون السلطوي مستحوذًا على طقوس رمضان بشكل عام، ففي صنعاء تتلاشى العبادات المقترنة برمضان من قبيل صلاة التروايح والقيام والمساجد المكتظة بالمصلين، لتطرأ بدلًا عنها ملامح دينية مقترنة بالدوافع السياسية والتحشيدات الإيدلوجية، وهو ما يثير في الناس الكثير من التذمر والإبتعاد، إضافة إلى صعوبة الحياة التي تتفاوت بين طبقات الناس وانتمائاتهم، وبالمثل في مناطق عدن ومحافظات المجلس الرئاسي، تعود مظاهر رمضان بدون أية محاولات سياسية لتجييرها والاستفادة منها، مع صعوبة الحياة أيضًا بالنسبة للمواطنين.
مظاهر عامة وخاصة..
اعتادت الأسر اليمنية خلال شهر رمضان على القيام باستعداداتها الإحتفائية، عبر تنظيف البيوت، وترميم ما يحتاج لترميمه كما في القرى والريف، إضافة الى توفير المستلزمات والاحتياجات، وفي رمضان أيضًا ارتبط الشهر بنوعيات خاصة من الأطعمة والمأكولات، لهذا يتم توفير مكوناتها وضرورياتها لتصبح المائدة الرمضانية اليومية جاهزة ومكتملة، المائدة التي تحتوي على الشفوت والشربة، كطبقان طارئان وأساسيان خلال رمضان، ومن ناحية شعبية ومجتمعية، مازالت مظاهر رمضان قائمة بالرغم من كل الظروف السائدة، ففوانيس رمضان ترتفع في عدة حارات ونواحي خصوصًا بصنعاء القديمة، وفي المؤسسات الخاصة كالجامعات والمعاهد، يزين الموظفون والطلاب ممراتهم ببعضًا من فوانيس رمضان، وخلال شهر رمضان تتغير حياة اليمنيين برمتها، وهذا ما يقال دائمًا عن الأمر، حينما يتبدل النهار إلى ليل، والليل إلى نهار، وخلال الأعوام الأخيرة تتوقف خلال رمضان المدارس والجامعات، وتقل فيه ساعات الموظفين والمداومين، وتصير شوارع الساعات الصباحية الأولى فارغة إلاّ من بعض المارة، وبالعكس من هذا، يكون الليل مليئًا بالحياة ومكتظًا بالمتزاحمين، شوارع المدن ليلًا تكون على اتمها، وأسواقها مفتوحة، وحاراتها تعج بالكثير من الناس، وهنا تطرأ غاية استثنائية بالنسبة للناس، غاية يقول عنها بعض المثقفون: لو لم يكن لنا من شهر رمضان سوى تغيير الروتين العام لحياتنا، لكفتنا للإحتفاء به.
ومن ناحية اجتماعية.
تتزايد مظاهر صلة الرحم والزيارات الأسرية البينية، ويعود المسافرون، والبعيدون، ويكثر التوجه للريف لقضاء الشهر الكريم، وتزدهر المجالس المسائية باللقاءات والاجتماعات والصداقات الملتقية ببعضها بعد فراق شهور فائتة، كما تعود مظاهر المعونات المالية والغذائية بين الأقارب والجيران، ويزداد التعاون وتبادل وجبات الطعام والهدايا. وتزداد حملات التبرع والتصدق والزكاة، وتوزيع الأموال للمرضى والفقراء والأيتام، ليكون المجتمع برمته مجتمع سخاء وتكافل، والفقراء يحصلون على مبالغ مالية وسلال غذائية ومساعدات كثيرة. يحدث هذا كنوع من الإقبال الكبير على فعل الخير، بدوافع دينية وإنسانية، لهذا فمشاعر التجار ورجال الأعمال والأغنياء تكون في ذروتها الخيرية والإنسانية، كعوامل روحانية مرتبطة برمضان وشهر رمضان.
أسعار مرتفعة وعجز شرائي.
لا أحد منا يخفي وجود أزمة معيشية خانقة، هذه حقيقة واضحة، مع غلاء غير مسبوق لمعظم المواد والسلع الغذائية والاستهلاكية الأساسية، وبحسب بعض التجار، فإن مختلف السلع الأساسية باتت تشهد ارتفاعًا ملحوظًا بالأسعار، هذا ما يؤكده تقرير حديث توقعت فيه منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (FAO) أن ترتفع أسعار السلع الغذائية الأساسية والوقود بشكل موسمي، في الفترة من مارس حتى مايو 2024، استجابة للطلب المتزايد خلال شهر رمضان المبارك والعيد، وبسبب الآثار غير المتوقعة للتصعيد المستمر في البحر الأحمر. وحذّرت المنظمة من تفاقم شديد للأزمة الغذائية في شمال البلاد مع الشهر الأخير للنصف الأول من العام الجاري، وقالت: "من المتوقع حدوث أزمة خطيرة لانعدام الأمن الغذائي في مناطق سيطرة جماعة الحوثيين، اعتباراً من يونيو القادم، عند بداية موسم العجاف، وفي ظل غياب المساعدات الغذائية الإنسانية" كنتيجة للأحداث المرتبطة بالبحر الأحمر.
تسابق إعلامي.
من المعروف لدى الجميع، كيف يتسابق المنتجون والمعلنون والإعلاميون على حيازة الإهتمام الأكبر لدى الناس، من خلال مسلسلاتهم وبرامجهم وإعلاناتهم وعروضاتهم المقدمة خلال شهر رمضان، وهي أعمال يتم تحضيرها مذ فترات مبكرة، تتجاوز نصف عام، فقط ليتم تقديمها خلال رمضان، القنوات الفضائية تعرض إعلاناتها التشويقية، والكثير من التجار والمؤسسات التجارية جاهزون لبث إعلاناتهم المشوقة بعد التنسيق مع فنانين وإعلاميين وقنوات فضائية، ليصبح الشهر برمته ترفيهيًا وتنافسيًا بامتياز، أما ما يثير الغرابة والتذمر المتكرر لدى الناس، تحول الدراما والمسلسلات والبرامج التلفزيونية لمنصات سياسية وسلطوية ذات غايات صراعية، وهذا ما صار رائجًا جدًا في قنوات الأطراف اليمنية المتناوئة.
ليل رمضان المختلف..
للتمشية بليالي رمضان نكهة فريدة، يتذكرها الكثير من الناس، خصوصًا الشباب والأصدقاء، ليالي التحرير والزبيري وشوارع حدة والأسواق المزدحمة بالمعروضات الجديدة، والأضواء الساطعة، والمولات الصغيرة بكافة الأرجاء، ليالي الأصدقاء والشاي الحليب والسير بجوار المحلات وتفقد الأسعار، والمرور ببائع الحلويات والبقلاوة والزنود، والجلوس على الأرصة الدافئة مع الأحاديث والضحكات والألفة الإستثنائية، هل تتذكرون ليالي صنعاء وازدحام التحرير بالمارين والبائعين المتجولين، والوقوف للحظات عند بائع البليلة والبطاط مع إضافة الكثير من الشطة الحارقة، ومن ثم التجول والسير في نواحي الشوارع الحميمية، وبائعي الملابس المنخفضة في زوايا الطريق، وكشك المجلات والكتب والعطورات.
موظفي الدولة..
في المقيل بدأنا نتحدث، كان أمامي رجل كبير في السن، هذا الرجل كان ضابط كبير في القوات المسلحة، بدأنا نتحدث بنوع من الضحك والتنكيت عن الفرق بين الماضي والحاضر، قليلًا قليلًا، حتى تغيرت ملامح الرجل، ليبدأ بالحديث عن وضعه المادي، ووضع عياله وبيته وحاله المعيشي، بملامح الإنكسار والعجز كان يقول: كنا في الماضي نستبشر عندما يقترب شهر رمضان، نستبشر وتمتلئ بيوتنا بمصاريف الطعام، مصاريف متنوعة وكثيرة وبكميات كافية، كان يأتي رمضان علينا فنحصل فيه على ثلاثة رواتب، راتب بداية الشهر، وراتب إكرامية الشهر، وراتب قبل انتهاء الشهر قبيل العيد، أما اليوم أين نحن، ومنذ متى ننتظر نصف راتب، منذ ستة أشهر، وحين يأتي فيكون مأساة بالنسبة لنا، لا شيء أخر...