خاص | النقار
كيف للموظف اليمني أن يحكي مأساته؟! ومن أي نقطة قد يبدأها بالضبط؟! لحظة الذهول الأولى التي انتابت ذلك الموظف البائس، وهو يرى نفسه قد أصبح بلا مرتب، مضى عليها حتى الآن ما يقرب من تسع سنوات. هل للعالم أن يستوعب معنى ذلك؟! معنى أن يعيش موظف بلا راتب منذ تسع سنوات؟! معنى أن يجد نفسه عاجزا عن توفير محلول إرواء لطفله الذي يعاني من إسهال؟! معنى أن يطرد بلا أسف من مسكن كان يؤويه لأنه عاجز عن دفع الإيجار؟! معنى أن يشتري طحينا بالكيلوغرام فيوصي زوجته بأن تقتصد فيه؟! معنى أن يرى زوجته قد تجردت من كل حليها حتى من خاتم الزواج؟! معنى أن يبدأ ببيع أثاث بيته قطعة قطعة حتى يكون قد أتى على كل شيء؟ معنى ألا يتذكر متى كان آخر ثياب اشتراه له ولأسرته؟ معنى أن يتذكر كم من الأحذية ارتداها وخلعها سريعا ليستبدلها بأخرى جديدة، وأن يتأسف عليها لأنها كانت أحسن حالا بكثير مما ينتعله الآن؟! معنى أن يصل به الأمر إلى التفكير ببيع إحدى كليتيه أو كلتيهما مقابل أن يؤمن حياة أولاده لسنوات لا أكثر؟!
كل تلك الاعتبارات ليس لها من معنى عند من لم يعشها أو لم يشعر بها، وتظل مجرد أفكار سوداوية لا أساس لها في الواقع الذي مهما بلغ من البؤس فلن يجعل المرء يستذكر حذاء ارتداه يوما ما فراح يتحسر عليه بأنه خلعه عن قدميه حينها وهو مازال بحالة جيدة.
لكن تلك هي الحقيقة التي يعيشها الموظف اليمني منذ سنوات. وأول أولئك الذين لا يمكن أن يشعروا بمعاناة الموظف هي السلطة التي تحكمه، والتي لم تدخر جهدا ولا وسيلة إلا واستعملتها لسلخ جلده وجعله يتردى من سيء إلى أسوأ.
يصحو على فزع أن يفصل من عمله فتطير عليه الثلاثين ألف ريال التي يتسلمها نهاية كل شهر بناء على كشف الدوام ومزاج المشرف. يسارع إلى الخروج مستجديا أول باص يصادفه أن يقله إلى أقرب مكان من عمله، فلا يستجيب له أكثر أصحاب الباصات، لينتظر شاحنة أو سيارة فيتعسلق في مؤخرتها كما لو كان طالب ابتدائية من أولئك الذين يستهويهم الركوب متنقلين بين هذه الشاحنة أو تلك بعد عودتهم من المدرسة، أيام كان هناك مدارس.
وجبة الصبوح تصبح هاجسا مريرا، ترى هل سيتحجج بالأعذار لصاحب البوفيه مرة أخرى، أم ترى سيلجأ لزميل من أمثاله البائسين لعله حظي برسالة من أخيه أو ابنه في السعودية فأبقى حق الصبوح في جيبه. وربما يفاجئه الظهر وهو مازال يبحث عن صبوح. يتذكر أن زوجته شددت عليه ألا يعود إلا بنص كيلو بطاط ومثله طماط، فتلتبس الطاءات عليه وتزيده غما إلى غم. كل هذا من أجل التوقيع على اسمه في سجل الدوام حتى لا يُكتب "غياب" فيخسر الثلاثين ألف ريال.
ربما يكون طيلة تلك السنوات من العجز والضياع قد وصل إلى استعداد للعمل في أي شيء، وقد يعثر بعد جهد جهيد على عمل يزاوله من ساعات العصر وحتى الليل في مكتب أو شركة أو مطعم، فيحمد الله أنه أفضل من غيره. يذهب للعمل بأقصى ما تبقى له من طاقة وهاجس الجوع يلاحقه في كل يوم، حليب الأطفال وغلاج الحمى والسعال، وبقية الهاجس اليومي الملح: إن توفر الغاز فلا يوجد ماء، وإن توفر الماء فلا طحين، والبطاط لا يأتي مع الطماط، ولا السكر مع القات. فيروح يفصل معاشه الذي سيتحصل عليه من عمل ما بعد الظهر ويوزعه بكل أمانة واجتهاد. لكنه يجد أن ما يتحصل عليه لا يكاد يلبي أدنى متطلبات الحياة. كل هذا ومازالت السلطة التي تحكمه تريد منه أن يسبح بحمدها وأن يخرج للهتاف في ميادينها وألا يطالبها بشيء. فإن طالبها براتبه المنقطع نظرت إليه شزرا واتهمته بالخيانة وتنفيذ أجندة العدوان، وإن سكت استمرت في امتهانه وكسر ناموسه حتى يصبح ما تجود به من نصف راتب في أحيان متباعدة منة كبيرة تستحق لأجلها الثناء. ذلك حال الموظف في ظل سلطة صنعاء، فكيف هو حال المواطن العادي يا تلك السلطة؟!