وسط ترقب للقاء الذي سيجمع بين قائد الجيش السوداني عبدالفتاح البرهان، وقائد قوات "الدعم السريع" محمد حمدان دقلو (حميدتي) بغرض الاتفاق على إنهاء الحرب في السودان والوصول إلى السلام بحسب ما كان مقرراً، لا يزال التردد والشك سيدا الموقف. وبينما كان التنسيق برعاية الهيئة الحكومية للتنمية "إيغاد" لاجتماع الجنرالين الخميس الماضي يمضي على قدم وساق، إلا أن وزارة الخارجية السودانية، تلقت مذكرة من نظيرتها في جيبوتي، رئيس دورة "إيغاد"، تفيد بعدم تمكن قائد "الدعم السريع" من الوصول لعقد اللقاء لـ"أسباب فنية"، وانتقل الحدث بسرعة إلى تركيز قواتهما على مواصلة القتال.
في مرحلة سابقة، كان الشك في إمكانية تحقق اللقاء مرتبطاً باختفاء قائد "الدعم السريع"، ولكن بعد ظهوره المفاجئ في أوغندا برفقة رئيسها يوري موسفيني، ثم في أديس أبابا برفقة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، تسلل أمل بأنه ربما تكون هناك فرصة لوقف الحرب. ومع ذلك فإن تحقق اللقاء المؤجل إلى يناير (كانون الثاني) المقبل فلن يكون وحده العنصر الحاسم، لا سيما مع وصول الحرب في السودان إلى مراحل متقدمة زادت معها التوترات الداخلية، وظهرت توترات إقليمية جديدة، إضافة إلى استسهال خرق الهدن السابقة، واستمرار تبادل الاتهامات.
وتيرة التدمير
ومن ضمن ما يميز الحرب السودانية هو أنها حرب ماضية نحو المجهول، ومع ذلك، هناك أمر مؤكد هو استمرار طرفي الصراع في نزاعهما بمضاعفة كل طرف قواته حتى تحول الصراع إلى حرب استنزاف تستهدف المدنيين العزل. وما بين هجوم وهجوم مضاد، يستمر السودانيون في المقاومة ويزداد عدد ضحايا الحرب من كل المدن المتأثرة بها، كما تتكاثر حالات النزوح واللجوء أيضاً. وبحسب إحصاءات الأمم المتحدة فإن حصيلة الحرب السودانية هي مقتل 12 ألف شخص، ونحو سبعة ملايين شخص من النازحين واللاجئين، ودمار طاول البنية التحتية من مستشفيات ومنشآت عامة. وبعد كل ما حدث لم تحسم الحرب لصالح أي من الطرفين، بينما قسمت أقاليم السودان إلى مناطق سيطرة لكليهما.أما أحد الأخطار فهو استمرار وتيرة تدمير المدن والبنية التحتية وقطع الطرق وترهيب المدنيين، كما أن رد الجيش على هجوم "الدعم السريع" يؤدي إلى النتائج نفسها. هذه الوتيرة من استمرار الحرب في الخرطوم ودارفور وود مدني بمثابة مأزق استنزاف، ومثل هذه الحالة يمكن أن تستمر لسنوات.من المؤكد أن من بين النقاط الشائكة الرئيسة بالنسبة إلى الجيش نجد موقف الدول الأفريقية الرافض لإدانة "الدعم السريع"، في ظل تكرار المبررات حول ما يهدد سيادتها الإقليمية من جهة الغرب والتدخلات الدولية عامة. وهذه النظرة لم تتطور لدى الجيش بأن الحرب ليست بين قوتين عسكريتين، خرجت الثانية من رحم الأولى، ولكنه يرى أن جوهرها هي حرب بينه من جهة والقوى السياسية التي تستخدم "الدعم السريع" وكيلاً لها من جهة أخرى.
وكان تأييد القوى السياسية والحزبية لـ"الدعم السريع" بمثابة مفاجأة، على رغم أن هذه القوى ليست كتلة متجانسة بأي حال من الأحوال، فقد كشفت الحرب عن اتساع الهوة في مواقفها تجاه الحرب وشعاراتها في أوان انتفاضة ديسمبر (كانون الأول) 2018، وتراجع مكانتها المؤيدة سابقاً للسلام والديمقراطية.
خيار مباشر
منذ اندلاع الحرب الأهلية في جنوب السودان في عام 1955، وحتى الحرب الحالية التي انطلقت في أبريل (نيسان) الماضي، وقع نحو 40 اتفاق سلام، أولها "مؤتمر المائدة المستديرة" المنعقد في جوبا بجنوب السودان في عام 1965 وآخرها "اتفاق جوبا للسلام" في 2020. ولم تؤد كلها إلى السلام باستثناء اتفاقات قليلة. وإضافة إلى هذه الاتفاقات هناك مبادرات واتفاقات مصالحة جرت لتسوية نزاعات قبلية.
أغلب البلدان التي جرت فيها حروب عندما تستقر على قرار بناء طريق مستدام للسلام تأخذ في اعتبارها التصميم على ذلك، ولكن بالنسبة إلى السودان لا يقتصر الأمر على مجرد الرغبة والقرار وإلا لكان السودانيون ضحايا الحروب العديدة هم أول المستفيدين من إرساء مثل هذا المسار. ولم يحدث ذلك في حرب الجنوب أو حرب دارفور أو الحرب الحالية، لأن الخيار المباشر للسلام يقع في أيدي الجنرالين، اللذين يمكنهما إنهاء هذه الحرب بقرار واحد.ومن بين المبادرات العديدة لوقف إطلاق النار وإجراء محادثات سلام كانت "محادثات جدة" التي جرت برعاية السعودية والولايات المتحدة، وكانت تقدم مسائل وقف إطلاق النار، والسماح بفتح مسار آمن لتوصيل المساعدات الإنسانية، وممرات آمنة لخروج المدنيين من مناطق النزاع على غيرها من البنود. وأما مبادرة "إيغاد" فكانت من نوع المبادرات التي رأى الجيش أنها تحقق حلم "الدعم السريع" وتميل إلى صالحه، وهو ما أثار البرهان وقتها ورفضتها قيادات الجيش.
مسارات الخروج
ونجحت قوات "الدعم السريع" في تصوير أن اجتماع البرهان وحميدتي هو الهدف الأكبر، فأصبح التركيز على مجرد اللقاء وكأنه سيقود بصورة آلية إلى وقف الحرب، بينما الحقيقة هي أن تشابكات النزاع باتت أكثر تعقيداً. وفي كل الحروب، خصوصاً تلك الأفريقية، نادراً ما تكون مسارات الخروج منها سهلة، وفي الأشهر الأخيرة من الحرب السودانية كما هو الحال في بداياتها، يبدو أن الخيار الفوري للسلام في يد الجنرالين. وأي تفاوض بينهما من شأنه أن يؤدي إلى فترة جمود يستخدمانها لإعادة بناء مواردهما ثم استئناف القتال، لذلك عندما أعاد البرهان علاقاته مع "إيغاد" بعد الخصومة إثر مقترحها السابق بالتدخل العسكري الإقليمي، كان ذلك بهدف التوصل إلى "عملية سلام" صديقة لكليهما، ومعلوم أن "إيغاد" لم تكن يوماً وسيط سلام محايداً.وتتمثل ملامح تعقيد عملية السلام في عوامل عدة، الأول، هو أن الضغط الأفريقي على الجيش السوداني لحمله على نسخة ما من الاستسلام من خلال عملية سلام معاكسة لن يكون غير فعال على المدى الطويل فحسب، بل سيؤدي إلى انهيار الدولة السودانية، وقد بدأ إضعافها فعلاً.العامل الثاني، وهو أن خيار السلام المستدام هو مواصلة دعم السودانيين بطرق تسمح لهم بتهيئة الظروف لعملية سلام عادلة، وهي مجموعة من الأفكار قدمتها "منصة جدة"، ولكن ذلك يتطلب من القوى الإقليمية الاستمرار في إرسال الإشارات الواضحة إلى طرفي النزاع ومحاولة معالجة المخاوف الأمنية المشروعة.أما بالنسبة إلى العامل الثالث فتشكل مبادرة السلام الأفريقية مناورة جريئة تثير تساؤلات عدة في ظل حذر الجيش من تدخلاتها. ويتوقع أنه كلما طال أمد القتال زادت فرصة عدم قدرة "الدعم السريع" على الاحتفاظ بالمناطق التي استولى عليها، مما يعني تراجع نفوذه في بعض الأقاليم بينما يستمر في اقتحام أقاليم أخرى.
مرحلة جديدة
إن تم اللقاء بين البرهان وحميدتي في يناير المقبل فسيكون بداية لمرحلة جديدة لن يكون من ضمنها حل أزمة السودان بصورة جذرية، كما لا يتوقع أن يؤدي اللقاء إلى وقف الحرب مباشرة، لأن ما بين الرجلين يحتاج إلى وقت طويل حتى يصلا إلى اتفاق أشبه بالتسوية. فلو توقفت الحرب في هذه المرحلة فستكون إيذاناً بنهايتهما لأن المحاسبة ستكون على أحداث وجرائم قريبة وواضحة ومشهودة، بعكس ما قد يكون إذا مضى وقت عليها. ومع أن جرائم الحروب لا تسقط بالتقادم لارتباطها بحقوق وضحايا انتهاكات كثيرة إضافة إلى الحق العام المنصوص عليه في القوانين المحلية والدولية، لكن إذا مر وقت فقد يسمح ذلك لكليهما بترتيب أوضاعه التي تمكنه إما من القضاء على خصمه والاستيلاء على الحكم على رغم أنف المجتمع الدولي والسودانيين الرافضين ذلك، أو أن يوصلا السودان إلى حالة أقرب إلى الفناء يكون بعدها الحل في الوصول إلى مصالحة وعدالة محلية لا تنصف كل الضحايا ولا تحقق عدالة كاملة.هنالك من يرى أن الدول الأفريقية تتمتع بالخبرة في مجال السلام وحل الصراعات التي يمكنها تقديمها لإنهاء الأزمة السودانية حتى لو لم تكن الجهود ناجحة دائماً، فإنها ذات قيمة حيث لا يزال القادة الأفارقة يتمتعون بخبرة في إدارة الصراع.في المقابل ترى أصوات أخرى أنه على رغم سير المبادرات الأفريقية بصورة طبيعية فإن الترحيب بها لا يكون كبيراً، لأن رؤساء دول "إيغاد" مثلاً بينما يسعون إلى وقف الحرب في السودان لا يستطيعون إيقاف الحروب القريبة في بلدانهم، وتبدو أي جهود لوقف الحرب غير فعالة.وبما أن كل حرب لا بد أن تكون لها نهاية، تظهر التجارب التاريخية أن نصفها تقريباً ينتهي بنوع من الاتفاق لوقف القتال، وينتهي النصف الآخر بانتصار أحد الجانبين أو عندما يتلاشى القتال لأسباب مختلفة. ويبدو أن نهاية الحرب في السودان ستكون باتفاق باهت بين الجنرالين يحاول إنقاذ مشهد تلاشي القتال.