مع استمرار العقوبات الغربية، تتسارع حدة الأزمات التي تحاصر الاقتصاد الإيراني، ووفق البيانات الرسمية، عاد الاقتصاد الإيراني إلى الانكماش خلال النصف الأول من السنة الإيرانية، إذ أظهرت بيانات البنك المركزي تسجيل نمو سلبي سواء مع احتساب إنتاج النفط أو من دونه.
وبحسب البنك المركزي الإيراني، انخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.6 في المئة خلال الأشهر الستة التي بدأت في الـ21 من مارس (آذار) الماضي عند احتساب النفط، وبنسبة 0.8 في المئة عند استبعاد النفط، مما يشير إلى ضعف الطلب وتراجع الاستثمارات وارتفاع منسوب عدم اليقين في الاقتصاد الحقيقي.
وأظهرت البيانات تراجعاً حاداً في قطاعات رئيسة، إذ انكمش القطاع الزراعي بنسبة 2.9 في المئة، فيما تراجع قطاعا الصناعة والتعدين بنسبة 3.4 في المئة، في انعكاس لقيود الطاقة وارتفاع الكلفة واستمرار حال الركود في التصنيع.
وسجل قطاع البناء أكبر انخفاض، بانكماش بلغت نسبته 12.9 في المئة، مما يدل على ركود عميق في قطاع حيوي للتوظيف والصناعات المرتبطة به.
بالمقابل، نما إنتاج النفط بنسبة 1.1 في المئة خلال الفترة نفسها، إلا أن هذا النمو المحدود لم يكن كافياً لتعويض الضعف الواسع في باقي قطاعات الاقتصاد.
ويظل سوء الإدارة والعقوبات الغربية من أكبر نقاط الضعف التي يعانيها الاقتصاد الإيراني، بخاصة مع زيادة تأثير العقوبات في النفط والأسواق المالية، والتضخم المزمن وتأثيرها في القوة الشرائية واتساع الفقر، وانقطاع الطاقة وأزمات مستمرة في الكهرباء والمياه، إضافة إلى الفساد الإداري، إذ تحتل إيران المرتبة 149 عالمياً في مؤشر الفساد الإداري.
الفقر يتوحش والتضخم يلتهم الأجور
ومع تزايد حدة الأزمات الاقتصادية سجل الفقر معدلات غير مسبوقة في إيران خلال الأعوام الأخيرة، وتشير التقارير والتحليلات الاقتصادية إلى زيادة ملحوظة في الفقر بإيران بسبب التضخم الجامح وانهيار قيمة العملة، إذ ارتفعت معدلات التضخم بصورة حادة، بخاصة في المواد الغذائية، مما أدى إلى تراجع القوة الشرائية للرواتب بصورة كبيرة وجعل دخل المواطنين أقل بكثير من كلف المعيشة الأساسية (خط الفقر)، مع تحذيرات من أن الفقر قد يصبح ظاهرة متأصلة ومستمرة ما لم تتخذ إجراءات عاجلة.
بالنسبة إلى الأسباب الرئيسة لتوسع دائرة الفقر فإنها تتمثل في أربعة أسباب يتصدرها التضخم المرتفع، إذ قفز التضخم السنوي والشهري، بخاصة في أسعار المواد الغذائية الأساسية بنسب تراوح ما بين 60 و70 في المئة، مما تسبب في تآكل الرواتب وإجمال دخول الأسر الإيرانية.
ويتمثل السبب الثاني في تراجع القوة الشرائية، إذ إن أجور العمال والموظفين لا تغطي حتى الحد الأدنى من سلة المعيشة، ويقدر خط الفقر بأكثر من 500 مليون ريال، بينما متوسط الرواتب أقل بكثير.
فيما يتمثل السبب الثالث في العقوبات الاقتصادية التي تؤدي دوراً هيكلياً في زيادة التضخم المزمن، إذ تزيد كلفة الإنتاج وتحد من الوصول إلى الموارد الأجنبية، أما السبب الرابع فيتمثل في الموازنة الحكومية التي تضمنت زيادة مقترحة في الرواتب بنسبة 20 في المئة فقط مقابل تضخم أعلى بكثير، وزيادة في الضرائب، مما يزيد الضغط على المواطنين.
تراجع القوة الشرائية بنسب كبيرة
وتشير تقارير البنك الدولي إلى تراجع معدل الفقر وفق خط الفقر العالمي المتوسط في الأعوام الأخيرة، إذ انخفض من نحو 29.3 في المئة عام 2020 إلى قرابة 21.9 في المئة عام 2022، غير أن هذا التحسن هش، ولا يزال أكثر من خُمس السكان من دون هذا الخط في إيران.
وتُظهر بيانات عالمية أن نسبة الفقراء تراوح ما بين 20 و21 في المئة، مما يدل على أن شريحة واسعة تعيش دون مستوى رفاه ملائم.
وعلى رغم أن هذه الأرقام قد تبدو مطمئنة ظاهرياً، فإنها لا تعكس مؤشرات أخرى حاسمة مثل الهشاشة الاقتصادية وقرب شرائح واسعة من خط الفقر، بخاصة أن آلاف الأسر التي تقع بالكاد فوق الخط يمكن أن تنزلق تحته مع أي صدمة بسيطة.
وتفيد بعض التقارير بأن نسبة غير قليلة من السكان في إيران تقع تحت خط الفقر المطلق، أي إن دخولهم لا تغطي حتى الحاجات الأساسية.
وتشير تحليلات إعلامية مستقلة، في ظل التضخم وتراجع القوة الشرائية للأجور بنسب كبيرة، إلى أن أكثر من 80 في المئة من الأسر قد تكون دون معايير خط الفقر العالمي، بينما تذهب تقديرات غير رسمية إلى أن نحو نصف السكان قد يكونون فعلياً تحت خط الفقر إذا ما أُخذت كلفة المعيشة الحقيقية في الحسبان.
زيادات ضخمة في أسعار السلع
تشير بيانات حديثة لمركز الإحصاء الإيراني إلى ارتفاع معدل التضخم إلى مستوى 52.6 في المئة، ويشير هذا الرقم إلى ارتفاع متوسط أسعار السلع والخدمات خلال الـ 12 شهراً الماضية، مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق، مسجلاً زيادة قدرها 1.8 نقطة مئوية.
وارتفع مؤشر أسعار المستهلكين بنسبة شهرية بلغت 4.2 في المئة ليصل إلى 435.1 نقطة، فيما ظل الضغط التضخمي على الشرائح المنخفضة الدخل أعلى من نظيره لدى الشرائح ذات الدخل المرتفع.
وفيما سجل التضخم السنوي لقطاع المواد الغذائية والمشروبات والتبغ 72 في المئة، خلال هذا الشهر، بلغ 43 في المئة لقطاع السلع غير الغذائية والخدمات.
وصل معدل التضخم السنوي لمجموعة المواد الغذائية والمشروبات نحو 50 في المئة، و38.3 في المئة للسلع غير الغذائية والخدمات.
وأفاد التقرير بأن التضخم الشهري لأسعار الحليب والجبن والبيض بلغ 10.2 في المئة، فيما سُجّل تضخم شهري في قطاع الخبز بنسبة 7.7 في المئة.
وتُظهر بيانات مركز الإحصاء حول التغيرات في المؤشر العام أن المستوى العام للأسعار خلال نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، ارتفع بنحو 2700 في المئة مقارنة بعام 2012.
ويُعد الارتفاع الحاد في التضخم السنوي أحد المؤشرات المبكرة لاحتمال الدخول في مرحلة التضخم المفرط، إذ يعكس تسارعاً كبيراً في ارتفاع لأسعار.
أزمة انهيار العملة تتفاقم
بينما لا يمكن تجاهل انهيار العملة الإيرانية مقابل سلة العملات الرئيسة، واصلت أسعار الذهب والعملات ارتفاعاتها القياسية في السوق الإيرانية، إذ وصل سعر كل عملة ذهب من الطراز الجديد، المعروف باسم "إمامِي"، إلى 157 مليون تومان، فيما تجاوز سعر الدولار الأميركي في السوق الحرة نحو 137 ألف تومان، وبلغ سعر كل جنيه استرليني نحو 185 ألف تومان، وسعر اليورو أكثر من 161 ألف تومان.
وفي وقت تتصاعد فيه حدة الأزمات المالية والاقتصادية المختلفة في إيران، قدّم الرئيس الإيراني، مسعود بزشكیان، قبل أيام، مشروع موازنة العام الجديد إلى البرلمان الإيراني. نواب البرلمان انتقدوا في جلسة سابقة الزيادة المتوقعة في الرواتب، التي تحددت بنسبة 20 في المئة فقط.
وعلى رغم المؤشرات السلبية، فإن رئيس البنك المركزي الإيراني، محمد رضا فرزين، قال في اجتماع مع مجمع رواد الأعمال في البلاد، إن البنك المركزي يتمتع في الوقت الراهن باحتياطات آمنة ومضمونة من النقد الأجنبي والذهب، وهي متاحة وقابلة للاستخدام، بما في ذلك الموارد المودعة في البنوك خارج البلاد.
وأشار إلى أن البنك المركزي وضع منذ بداية العام الحالي إجراءات خاصة لتعزيز قدرة الاقتصاد الوطني على الصمود في مواجهة الظروف الصعبة ضمن أولوياته.
ومع ارتفاع حاد في العجز والديون، تستخدم الحكومة الإيرانية أدوات مختلفة منها بيع الأصول، وإصدار السندات والديون، والاقتراض من البنك المركزي، والموارد المصرفية وشبه النقدية.
وبالمجمل، يمكن سد العجز، لكن كلفة ذلك على التضخم والقوة الشرائية كبيرة، مما يزيد من الضغط على الأسر الإيرانية.
وقبل أيام، حذر النائب في البرلمان الإيراني ميثم ظهوريان، من أن اضطرابات سوق العملة وفجوات التخصيص يمكن أن تستمر في مفاقمة التضخم إذا لم تُنفذ إصلاحات هيكلية، بخاصة في الاستيراد والعملات الأجنبية.