خاص - النقار / مجتمع
يعيش المواطنون في المدينة ومختلف مديريات محافظة تعز جحيم الانفلات الأمني وتزايد الجرائم شبه اليومية خلال سنوات الحرب، ما بين جرائم قتل وتهديدات بالتصفية وتفخيخ بعبوات ناسفة واختطافات وسرقات وقطع طريق.
الفساد واستغلال السلطة والنفوذ وممارسات الترهيب وغيرها من عناصر السيطرة، مثّلت أشكالًا تراجيدية لحياة أبناء تعز تحت سيطرة القوات التابعة لحزب التجمع اليمني للإصلاح المهيمن على المؤسسة العسكرية، والذي عمل على توسعة أجنحته العسكرية عبر إنشاء مجاميع وكتائب مسلحة.
مع القيود التي تفرضها جماعة "أنصار الله" على حرية الحركة والتنقل من وإلى المحافظة، فإن نفوذ "الإصلاح" بداخل تعز وفي مؤسساتها العسكرية تزايد منذ سلطة علي محسن الأحمر في منصبه السابق كنائب لرئيس الجمهورية، إذ أمكن للإصلاح الاستحواذ على هذه المؤسسة والسيطرة على قيادات عدد من المحاور والألوية العسكرية وتجنيد أفراد عبر استمارات في مقرات الحزب، إلى جانب توزيع عشرات الرتب العسكرية على مدنيين يتبعون الاصلاح.
آخر الملفات الدامية
في آخر الجرائم المتجددة، على سبيل المثال لا الحصر، قُتل المواطن "صادق الشرعبي" العامل في إصلاح الدراجات النارية، يوم الأحد 17 ديسمبر، بمنطقة بئر باشا شمالي المدينة، على يد مسلح يعمل لدى القوات التابعة لحزب الإصلاح يُدعى "علي المنصوب"، بسبب خلافات سابقة، وجاءت الحادثة بعد أيام من مقتل المواطن "صالح علي الخرج"، أوائل الشهر الجاري غربي المحافظة، على يد شخص أقدم على الجريمة بسبب خلاف على "قطعة أرض" ثم قام بتسليم نفسه للجهات الأمنية.
الجرائم تنسحب مرارًا إلى السطو على المحلات التجارية وتهديد التجار وقتلهم، وتنذر بتحول المدينة إلى بيئة أعمال طاردة للأنشطة التجارية والاستثمارات، أمام انهيار طاغٍ للريال والخدمات الأساسية وغياب الرقابة الحكومية، وانتشار الجماعات المسلحة في المدينة.
وليس ببعيد اغتيال مالك محلات العقيلي للصرافة، جبران العقيلي، على أيدي مسلحين وسط المدينة في أكتوبر الماضي. ذلك فاقم مخاوف التجار من الانفلات الأمني المؤثر بشدة على أعمالهم، حتى بعد أن تأسس حديثًا "ملتقى تجار تعز" الذي أنشأه تجار بغرض تنمية العمل التجاري وتحفيز مجتمع الأعمال وحماية مصالح أعضاء الملتقى.
وفي أحدث عمليات الاختطاف، تقدم القاضي عبدالرحمن الحميري، السبت 16 ديسمبر، بشكوى للنيابة الجزائية بسبب تعرضه لاختطاف من قبل مسلحين كانوا على متن "طقم عسكري" يقودهم أسامة المخلافي (القردعي)، أحد قيادات اللواء 170 بمحور تعز، بسبب قضية حكم فيها القاضي ضده.
اقتيد الحميري إلى أحد المنازل بمنطقة عصيفرة، لإجباره على التوقيع على التزام بدفع مبلغ 85 مليون ريال أو التنازل عن القضية، قبل أن تتدخل شخصيات أقنعت المسلحين بتحريره بعد نصف يوم من الاختطاف، فيما نشرت مصادر قضائية أن الأجهزة الأمنية لم تحرك ساكنًا رغم البلاغات التي تقدم بها الحميري وفرع نادي القضاة إلى إدارة الأمن.
وربما أصبح الانفلات الأمني مفهومًا لدى المجتمع الدولي أكثر بعد حادثة اغتيال منسق برنامج الغذاء العالمي في المحافظة الأردني "مؤيد حميدي" على أيدي مسلحين في يوليو الماضي، لكن القضية دخلت ما يشبه حالة الموت السريري بالتغاضي عنها وعدم إعلان نتائج نهائية بشأن التحقيق مع أكثر من عشرة متهمين.
وعقب إدانات مؤقتة، قُتل في أغسطس التالي "عدنان المحيا" ضابط جهاز الأمن السياسي وأحد المحققين في جريمة اغتيال حميدي. قبل اغتياله تلقّى المحيا تهديدًا بالتصفية، ما دفع أعضاء اللجنة المعنية بالتحقيق في اغتيال "حميدي" لطلب الإعفاء من مهامهم، ثم خرجت القضية عن دائرة الضوء.
في السياق، عادت أحكام "الإعدام" إلى تعز بعد توقفها منذ بداية الحرب، بإعلان النيابة العامة هذا الشهر عن تنفيذ أول حكم إعدام بحق مواطن يدعى "أركان فؤاد الهمداني" أُدين بجريمة قتل المواطن "مروان علي الحاج".
ناشطون اعتبروا أن عودة الإعدامات قد تكبح "الانفلات الأمني" وتجعل البعض يكفّون عن "اللعب بالسلاح وقتل الأبرياء"، لكن آخرين انتقدوا ذلك بقولهم إن "وساطات" تَحول دون تطبيق القصاص بحق الكثيرين، مثل محمد العمري الذي كتب: "ربما هذا المعدوم إنسان مواطن ما في معه وساطة أو متهبشين نفذوا الحكم بحقه لكن عادي في كثير محكومين عليهم بالقصاص وفارّين من العدالة ويتجولون بشوارع المدينة، أين العدل؟".
وقال مبارك الشميري: "هذا مواطن أما الذين معاهم وساطة والله يخرجوا والبعض يقتل وعنده وساطة حتى السجن ما يدخله"، فيما تساءل علي محمد: "هل أركان فؤاد القاتل الوحيد في تعز خلال 8 سنوات؟!".
الفوضى في عيون المواطنين
عبدالله الشرماني، 33 عامًا، يحكي لـ"النقار" من المدينة أنه لا يزال "حتى اليوم في شريعة مع أفراد من محور تعز تدعمهم السلطة".
يقول الشرماني: "بدأت المشكلة نهاية سنة 2022 عندما أراد "متهبّشون" مسلحون يدعمهم نافذون الاستيلاء على أرض لنا في إحدى المناطق قرب المدينة، وفي ذلك اليوم حدثت مشادة كلامية بيننا ودافعت عن أرضنا كصاحب حق يمتلك البصيرة الخاصة بملكية هذه الأرض، وبعد أخذ ورد أطلقوا عليّ الرصاص في ساقي ولا يزال أثر الطلقة شاهدًا"!
ويواصل: "عندما أدخلنا مختصين في الأمن لم أستفد بشيء، بل دفعنا مبالغ لشخصين وعدونا بالسير قانونيًا في القضية، وحين يئست من مماطلة الأمن أدخلتُ منذ وقت قريب أحد مشايخ تعز في الموضوع، ووعدني بقرب استلام الأرض وما زلنا ننتظر، علمًا بأن القضية لدى الجهات المختصة"، مضيفًا: "الشيخ قال لي إنه في حال رغبتُ في بيع الأرض فإن ثمنها سيكون منخفضًا عن قيمتها الفعلية لأن الأرض أصبح عليها مشاكل".
من جهته يتحدث المواطن عصام عبدالله عثمان، حول ذلك معتقدًا أن حالة الانفلات الأمني في تعز خلقت مشكلات أقلُّها فداحةً هي ظاهرة السرقات والبسط على المنازل والأراضي.
وبحسب عثمان في حديثه لـ"النقار" فإن "هناك ممارسات سرقة وسطو تشرعن لها السلطات العسكرية"، ويستشهد بحادثة مشابهة قائلًا: "اضطرت عائلة مجاورة لنا في نفس الحي إلى النزوح وإغلاق المنزل مع أخذ جزء بسيط من العفش اللازم وترك الباقي في المنزل، وبعد نزوحهم تمكّنّا من الوصول إليهم بعد فترة وقلنا لهم إن أفرادًا من المقاومة استولت على منزلهم، وبعدها عاد الأخ الكبير وهو أعزل من أجل الدخول إلى المنزل لكنهم منعوه، وحين أصر على الدخول قام المسلحون بإطلاق النار على كتفه".
ويؤكد عثمان أن "لا وجود لأي أمان في تعز، من الممكن أن يطلق أشخاص الرصاص ويحدثون فوضى لسرقة محلات، إلى حد أنك تجد صعوبة تمنعك من الذهاب إلى جامعة أو مستشفى، والسلطة المحلية لا تتحمل مسؤوليتها تجاه هذه الفوضى".
أما نادية القاضي، طالبة جامعية، فتشير إلى أن "الانفلات الأمني ظهر في تعز مع بداية الحرب، وظهر الكثير من "البلاطجة" بدعوى حماية تعز في الظاهر عبر ما يسمى بالكتائب وغيرها.
وفي حديثها لـ"النقار" تذهب نادية إلى عدم اللامبالاة بأرواح الناس من قبل "القنّاصة المنتشرين فوق العمارات السكنية". وتوضح: "إذا ذهبنا إلى مكان ما لتأدية عزاء أو لزيارة عائلة معروفة في منطقة معينة خاصةً إذا كانت مهجورة نوعًا ما من المارة، فإن بعض الأشخاص في المنطقة يحذّروننا من التأخر في العودة لأن هناك قنّاصة على أسطح العمارات يقتنصون أي شخص غريب يدخل إلى الحارة".
وفي تعليق لـ"النقار" على الوضع العام، يعتقد الباحث في القانون نشوان عبدالباقي، أن "السلطة العسكرية والأمنية التابعة لحزب الإصلاح فشلت في كبح الفوضى الحاصلة لسبب وحيد، وهو أنها هي التي صنعتها وكرّستها، لذلك هي تمنح الرواتب الجيدة للعسكريين ولأفراد تم تحويلهم إلى عسكر، ولكن دون أن يكون هناك معركة، وهو ما جعلها تحول فوّهات بنادقها إلى المواطنين وسكان المدينة أنفسهم".
ويشير عبدالباقي إلى أن "السلاح أصبح جزءًا لا يتجزأ من أولئك الذين ينظرون إلى المواطنين بفوقية القوة والسلطة والترهيب، وبلا مسوغات قانونية تجدهم يفترسون حقوق الآخرين بشتى الوسائل"، معتبرًا أن "مطالبة السلطات الحالية بإصلاح الأوضاع هي إمعان في زيادة الأوضاع سوءاً، وإنما نحتاج إلى اقتلاع هذه السلطات وإعمال سلطة عادلة في تعز بعيدًا عن المحسوبيات والنفوذ الحزبي والطائفي".
مأساة تعز لا تقف عند حد أو نهاية، فحمولة الحرب أثقلت طوال هذه السنوات على كاهل النسبة السكانية الأكبر في اليمن، وما زاد الحمولة كارثية هو أن لا حكومة تلتفت إلى ما آلت إليه حاضرة الثقافة اليمنية، وأن السلطات المحلية عملت على تحويل المدينة إلى مسرح جريمة، في مشهد عبثي أصبح اعتياديًا بالنسبة للكثير من أبناء الحالمة.