شيئاً فشيئاً تتحول العلاقات الثنائية المتنامية إلى تحالف وثيق بين الصين وروسيا، فكيف أصبح أعداء الأمس إلى أصدقاء؟ وهل يصمد تحالفهما الهادف إلى مواجهة الهيمنة الأمريكية أمام رواسب الماضي؟
فبعد وقتٍ قصير من إعلان سياسة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، الجديدة خلال العام الجاري، وقّعت روسيا صفقة بـ165 مليار دولار مع الصين لتطوير أكثر من 80 مشروعاً ثنائياً في أوراسيا، وبدأ بالفعل إنشاء خطوط أنابيب ومحطات وممرات تجارية جديدة نتيجةً للاتفاق؛ مما يزيد من ارتباط الصين بروسيا.
لكن المثير للاهتمام هو أن التحالف الصيني الروسي، الذي ظل يُعتقد لفترةٍ طويلة أنه يحمل الكثير من التعقيدات والتفاصيل التاريخية والمبادئ التي ستعوق نجاحه، قد أصبح ممكناً لأن الجغرافيا السياسية تتغير باستمرار، بحسب تقرير لمنصة "أسباب" المختصة بالتحليل السياسي والاستراتيجي.
شي وبوتين.. صداقة ورؤية واحدة
يمكن ربط تحول العلاقات الثنائية بين العملاقين الشيوعيين بشخصية شي جين بينغ ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، فكلاهما يريد إنهاء النظام العالمي الحالي الذي تهيمن عليه أمريكا وحلفاؤها الغربيون واستبداله بنظام متعدد الأقطاب، وبالتالي تختلف اختصاصات السياسة الخارجية الجديدة للصين التي قدمها شي عن سابقتها. إذ تتحدث عن التصرف باستباقية وتصميم واتحاد والسعي للإنجاز، مع الجرأة على القتال، في حين أن الاختصاصات السابقة بسياسة دينغ شياو بينغ تركز على التصرف بهدوء وإخفاء القدرات وتحيُّن الفرصة وعدم لفت الأنظار أو تولي القيادة مطلقاً.
فقد عُقِد اجتماع سابق بين الرئيس الروسي بوريس يلتسن ونظيره الصيني جيانغ زيمين في الكرملين في شهر أبريل/نيسان عام 1997 وخلاله أعلن الثنائي عن التزامهما المشترك بعالم متعدد الأقطاب دون هيمنة، وأدانا فكرة احتكار شؤون العالم، في إشارةٍ إلى الولايات المتحدة على ما يبدو، لكن في ذروة لحظة الأقطاب المتعددة تلك لم يكن بوسع أي منهما فعل شيء باستثناء الابتعاد عن طريق بعضهما البعض.
فاتبعت الصين استراتيجية تنمية تتمحور حول الصناعة التصديرية التي تتركّز في مناطقها الاقتصادية الخاصة الساحلية، وتخلّت عن تنمية المناطق الداخلية والتوسع في آسيا الوسطى. بينما استغلت روسيا ثرواتها الهيدروكربونية لدعم الصناعات الغربية عن طريق مد أوروبا بـ12 خط أنابيب للغاز الطبيعي، إذ بدأ تشغيل مشروع خط نورد ستريم الروسي الألماني عام 2011، وبعد مرور عقدٍ واحد، أصبحت أوروبا تشتري نصف غازها الطبيعي تقريباً من روسيا وشكّلت تلك الصادرات نحو خمسي إيرادات الحكومة في موسكو.
لكن استراتيجية الاعتماد المتبادل على الطاقة كانت تتعارض مع أهداف موسكو على الأرض، وأثار زحف حلف الناتو والاتحاد الأوروبي على حدودها الكثير من التوترات، خاصةً فيما يتعلّق بأوكرانيا.
وشهد عام 2014 الإطاحة بالحكومة الموالية لروسيا في كييف؛ مما دفع موسكو إلى ضم شبه جزيرة القرم والدخول على خط الصراعٍ الانفصالي في منطقة دونباس، ولم يقف الرئيس الأمريكي جو بايدن دون حراكٍ وسط الأحداث، ففُرضت العقوبات الأمريكية على مشروعات مثل نورد ستريم، ووصل الأمر إلى حد التهديد بإنهائها كلياً.
واتفقت آراء بايدن في هذه القضية مع نظرائه في شرق أوروبا الذين كانوا يخشون تهميشهم جيوسياسياً، وأسفر الهجوم الروسي على أوكرانيا عام 2022، والذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة" بينما يصفه الغرب بأنه "غزو عدواني غير مبرر"، عن تشديد العقوبات وإحداث عجزٍ مؤقت بـ67 مليار دولار في تجارة روسيا مع الاتحاد الأوروبي. لكن تخريب خط نورد ستريم في سبتمبر/أيلول عام 2022 تسبّب في انهيار عمليات تسليم الغاز الطبيعي الروسي ولم يعد هناك ما يربط روسيا بأوروبا بعدها.
الزراعة والطاقة في قلب تحالف الصين وروسيا
بدأت روسيا في تشييد بنى تحتية مادية تربطها بالصين لتحل محل صناعتها الموجهة نحو الغرب، وتستهدف موسكو وبكين حالياً الوصول بحجم تجارتهما السنوية إلى 200 مليار دولار بحلول عام 2024، وستكون المحطة الأولى هنا هي الزراعة، إذ تم طرح فكرة ممر الحبوب البري الجديد في عام 2012 ليربط الحبوب الروسية بالأسواق الصينية.
ويلغي هذا الممر الحاجة إلى طريق البحر الأسود، مُقللاً اعتماد الصين على الواردات من أستراليا وأمريكا الشمالية، ويصل إجمالي استثمارات رأس المال في المشروع إلى 6.5 مليار دولار، وسيغير سنوياً وجهة 7 ملايين طن من حبوب الشرق الأقصى الروسي ومنطقة الأورال والمنطقة الفدرالية السيبيرية. وستمر غالبية تلك الكمية بمحطة حبوب زابايكالسك وهي منشأة شحن بالسكك الحديد على حدود منغوليا الداخلية، وقد بدأ إنشاؤها عام 2020.
تُوسِّع بكين في المقابل صادرات سياراتها إلى روسيا وتتعاون معها في مشروعات الطائرات والعلوم، وتُمثل سياسة الطاقة الجذور المحورية لهذا التكامل إذ من المقرر أن يستوعب الطلب الصيني إمدادات روسيا. ويأتي في مقدمة هذه السياسة خط أنابيب قوة سيبيريا تحت إشراف شركة غازبروم الروسية ومؤسسة البترول الوطنية الصينية، ويمتد خط قوة سيبيريا بطول الساحل الصيني ليمر ببكين قبل أن ينتهي في شانغهاي، وقد بدأ توصيل الغاز عام 2019 ثم ارتفع معدل التوصيل بمقدار النصف خلال 2022 وسيبدأ توصيل الغاز عبر التوسعة الجنوبية في 2025.
أوروبا الغاز روسيا
خط يامال أوروبا الذي كان ينقل الغاز الروسي لدول الاتحاد الأوروبي عبر بيلاروسيا/رويترز أرشيفية
بينما سيمتد خط قوة سيبيريا 2 من حقول الغاز في شبه جزيرة يامال، ليمر بمنغوليا وصولاً إلى الصين، وسيبدأ إنشاؤه عام 2024، ومن المفترض أن يوفر خط الأنابيب الثاني منفذاً لحقول الغاز التي كانت تخدم أوروبا أي أنه سيكون بديلاً مباشراً لنورد ستريم، وإذا نجحت الخطة، فسيبلغ حجم صادرات الغاز الروسي إلى الصين 98 مليار متر مكعب بحلول 2030، بالإضافة إلى 100 مليون طن من الغاز الطبيعي المسال.
وبطبيعة الحال، أدت زيادة حجم التجارة الثنائية بين بكين وموسكو إلى تسريع وتيرة إلغاء الدولرة، حيث تجري حالياً تسوية المزيد من المعاملات الدولية بعملة اليوان. وتفوّق حجم معاملات اليوان-الروبل على حجم معاملات الدولار في بعض الأيام أواخر عام 2022.
أسفر اتجاه موسكو إلى العملات الصديقة عن ارتفاع حصة التجارة باليوان داخل أسواق العملات الروسية حيث قفزت من 1% إلى 45% بينما تراجعت حصة التجارة بالدولار بمقدار النصف من 80% إلى 40%.
التغاضي عن الخطوط الحمراء
في الوقت نفسه، تغاضت هذه الشراكة مؤقتاً عن بعض الخطوط الحمراء التي تتعلق ببصمة الصين داخل الجمهوريات السوفيتية السابقة، إذ زادت صادرات بكين السنوية إلى آسيا الوسطى بأكثر من النصف في مارس/آذار 2023 وارتبطت غالبية تلك الصادرات بالاستثمار في الطاقة والمعادن والنقل بالسكك الحديدية.
تشمل تلك الاستثمارات خط سكك حديد جديداً يمتد من كاشغر إلى قرغيزستان وأوزبكستان ليُكمِّل بذلك الممر الأوسط، ولم تدعم روسيا المشروع إلا في عام 2022 رغم التخطيط له منذ عام 1997، بينما من المقرر إتمام الخط في عام 2024.
عزّز شي هذه المكاسب بالكشف عن خطة تنميةٍ إقليمية خلال اجتماع مع رؤساء آسيا الوسطى الخمسة، وستركز سياسة بكين في آسيا الوسطى على التجارة والاستثمار والسياحة والتبادل الثقافي، علاوةً على أن الخطة تتضمن التعاون الأمني أيضاً.
ويبدو أن هذه الخطة تمثل تحوطاً ضد المخاوف التركية القائمة حيال ممارسات الصين المثيرة للجدل في سنجان، كما يتطلّع المشرعون الصينيون إلى التعجيل بإنهاء الخط D من مشروع أنابيب الصين-آسيا الوسطى، وهو المشروع الذي حول كازاخستان وتركمانستان إلى اثنتين من أكبر مزودي الصين بالغاز الطبيعي.
وفي هذا السياق، تجاوزت قيمة تجارة الصين الكازاخية والتركمانية معاً حاجز 100 مليار دولار في عام 2022، وتُعَدُّ دول آسيا الوسطى بمثابة سوق مربحة في المجمل، بينما تتطلع الصين إلى ترك بصمتها هناك، ومع التطور السريع للأحداث، بدأت الصين وروسيا في دعم الطموحات الإقليمية لبعضهما البعض أيضا.
إذ كان الروس يتجاهلون تحالفات أمريكا في آسيا والمحيط الهادئ من قبل، بينما كان الصينيون يتجاهلون السياسة الأمريكية داخل أوروبا، لكن العلاقة بين موسكو وبكين صارت أكثر تعاطفاً وتفهماً اليوم. وفي هذا الإطار، يمكن رصد موقف موسكو من تحالف أوكوس كمثال، حيث إن برنامج تسليح أستراليا بغواصات نووية بقيمة 370 مليار دولار هو برنامج يستهدف الصين.
لكن موسكو تعارض هذا الاتفاق باعتباره جزءاً من جهود الغرب لتطويق منطقة أوراسيا، وذلك من خلال التحالفات المتشابكة مثل الناتو وأنزوس والعيون الخمس وكواد، لهذا استجابت الصين وروسيا بتدشين ترتيباتهما وتحالفاتهما الخاصة مثل بريكس والشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة ومنظمة شانغهاي للتعاون.
ويتجلى المثال الآخر على الطموحات الإقليمية المشتركة في اعتماد بكين على روسيا لتحقيق طموحاتها في القطب الشمالي حيث تتمتع روسيا بموانئ كبيرة وأصول أخرى في الدائرة القطبية الشمالية، ومن المتوقع أن يصبح القطب الشمالي خالياً من الجليد بحلول 2050؛ ما يُثير التساؤلات حول موارد قاع البحر مثل النفط، والغاز، واليورانيوم.
كما يعني ذلك فتح طرق بحرية جديدة بالنسبة للصين، ما قد يخفض أوقات الشحن بمقدار النصف، لكن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن أحياناً؛ فربما تربط الجغرافيا السياسية بين روسيا والصين لكن صولات القوة الناعمة بينهما تُعتبر محدودة، إذ لا يزال التأثير الثقافي والإعلامي الصيني منخفضاً في روسيا.
وربما تكون التغطية الإعلامية الروسية للصين إيجابيةً في العموم، لكن غياب التأثير الحقيقي قد يُبرِّد العلاقات الدافئة بسرعة في حال تدهور العلاقة الثنائية، وقد تظهر تلك التوترات حيال تعديات الصين في آسيا الوسطى أو تأثيرها المتزايد على مدينة فلاديفوستوك، فيما دخلت اتفاقية ثنائية جديدة حيز التنفيذ في يونيو/حزيران عام 2023.
وتسعى الاتفاقية إلى دعم تنمية مقاطعة جيلين، عن طريق السماح للبضائع المتجهة إلى شينجيانغ بعبور فلاديفوستوك دون جمارك، لكن القوميين الصينيين يحلمون منذ وقتٍ طويل بتلك المدينة التي ضمها الروس بموجب معاهدة غير متكافئة عام 1858. وإذا رجحت كفة الصين السكانية والاقتصادية في المنطقة أكثر فقد يثير هذا الأمر المخاوف الروسية من الوحدوية، لكن كلا الطرفين راضٍ بالتجاوز عن تلك النقاط في الوقت الحالي، وعند إلقاء نظرة شاملة على الأوضاع سنجد أن طموحات روسيا الأوروبية قد ماتت لكن طموحاتها الآسيوية حصلت على قبلة حياةٍ جديدة.