عصام عبد الفتاح
بات هذا السؤال محورًا للمناقشات الساخنة المتداولة على القنوات الإعلامية والصحف منذ أن بدأ مسلسل التخلص من الوجود الفرنسي في دول غرب إفريقيا، بدءًا من مالي وبوركينا فاسو، وأخيرًا النيجر. والحق أن ثمة عوامل تاريخية وسياسية خليقة بأن تبدد علامات الاستفهام حول رغبة هذه الدول في الخلاص من الوجود الفرنسي على أقاليمها، وقد تنبأ محللون مخضرمون في فرنسا بهذه الظاهرة قبل حدوثها، خاصة عندما فشلت العملية العسكرية المعروفة باسم «باركان» في مالي، بسبب عجز القوات الفرنسية الرابضة فيها عن القضاء على الجماعات الجهادية. ولكن هل كان فشل عملية «باركان» هو السبب الرئيسي وراء التخلص من الوجود الفرنسى؟ وهل هناك علاقة بين الوجود الفرنسى والانقلابات التى وقعت فى مالى وبوركينا فاسو، وأخيرًا فى النيجر؟
دامت عملية «باركان» في الساحل الإفريقي ثمانية أعوام منذ 2014 حتى نوفمبر 2022، وعلل الخبراء العسكريون الفرنسيون فشلها بأن العدو الذى يواجهونه هو عدو مبهم وضبابي ينضوي تحت نعت «الإرهاب»، فضلًا عن أن الحرب ضده غير محددة المدة، وتتم بوسائل لم تكن فعالة. وفى النيجر ثمة حوالي 1200 جندي فرنسي على أرضها وطائرات ومُسيرات وعربات عسكرية، ورغم ذلك لاتزال الجماعات الجهادية تنشر الخوف والذعر في البلاد. وقد نشرت فرنسا في عدة مدن إفريقية وحدات عسكرية استطلاعية PMR خفية ومتنقلة، كان دورها الظاهر هو تدريب الجنود الأفارقة، ثم أدركت القيادة الفرنسية بعد إخفاقها في مالي ضرورة التزام الحذر وأمرت بألا تظهر قواتها في الخطوط الأمامية حتى لا تبدو أشبه بقوات احتلال، وألا تُقدم على أي تحرك دون الحصول على موافقة مسبقة من القيادة العسكرية المحلية كما حدث في مالي. وتغيرت استراتيجية العمل للقوات الفرنسية لكى تلتزم بمبدأ «التعاون والخدمة وفقًا لحاجة السلطات»، وتنوعت هذه الخدمة بين تدريب القوات وتقديم المشورة والعون لها. ولئن كانت النيجر قد وافقت على تلقى هذا العون العسكري والفني من فرنسا فإن قطاعًا عريضًا من شعب النيجر لم يكن راضيًا عن وجود قوات فرنسية تمارس عمليات عسكرية في بلاده وتفاقم لديه هذا الشعور تدريجيًا مع تصاعد موجة العداء اليميني المتطرف في فرنسا إزاء الأجانب، وبالأخص الأفارقة منهم. ولئن ظل راسخًا في أذهان القادة الفرنسيين أن الحرب التي تخوضها فرنسا في دول الساحل هى حرب حضارية ضد الإرهاب، وأن الحل الوحيد الناجع لأزمات دول الساحل هو الحل العسكري فإن عددًا من القادة الأفارقة بات يشك في جدوى هذه العمليات العسكرية بعد إخفاقاتها المتكررة في القضاء على جماعات الجهاد، وبدأ يفكر في التفاوض مع زعمائها. لذا أرسل بعض الرؤساء الأفارقة، ومن بينهم محمد بازوم نفسه- وفقًا لسردية الصحفي الفرنسي ريمي كرايول، في مقاله المنشور بصحيفة «لوموند ديبلوماتيك» بتاريخ مارس 2023- وسطاء للتفاوض مع زعمائها، وهو ما كانت ترفضه فرنسا ولا تستسيغه المعارضة. وفى شهر أكتوبر 2022 اتهمت فرنسا بأنها تسلح الجهاديين لكنهم لم يقدموا دليلًا على ذلك.
يضاف إلى ذلك ما يشير إليه الباحثان الفرنسيان توماس بوريل ويانيس توماس، في كتابهما «إفريقيا الفرانكوفونية في المأزق العسكري الفرنسي»، من أن الترتيبات العسكرية الفرنسية الموجودة في الدول الإفريقية شبيهة تمامًا بتلك التي زرعتها فرنسا فيها غداة استقلالها حتى تحتفظ بنوع من الهيمنة على مستعمراتها القديمة وتستفيد من مواردها الغنية. ولا يخفى على أحد أن محطات الطاقة النووية الفرنسية تعتمد على 10 بالمائة من خام اليورانيوم في النيجر. وإذا كانت فرنسا من أشد الدول تحمسًا للتدخل العسكري في النيجر لإعادة الرئيس المعزول إلى منصبه، فالواقع أن الأمور لا تسير في هذا الاتجاه. أما رجل الشارع في النيجر فيقول مندهشًا: «ما لا أفهمه حقًا هو كيف يمكن بعد هذه الحرب التي قادها في بلادنا، ولمدة أعوام مديدة، واحد من أقوى جيوش العالم ضد جماعات الجهاد، ورغم ذلك لايزال الجهاديون يحتلون أراضينا؟».