النقار | إياد الصلاحي
في ليلة باردة، وشوارع فارغة إلاّ من نباح كلابها، كنت جالسًا على ناصية حارتنا، هاربًا من ليالي البيت الطويل، الليالي التي طالت عليّ في مكوثها وبطالتها وفراغ أيامها، أخرجتني الهموم وطردتني الوحشة، ورزعتني الظلمة في تلابيبها، وهكذا دائمًا، حين تضيق بي حياتي، أخرج للجلوس بمفردي وخيالاتي، أتخيل ٱيامي وأنفس عن معاناتي، وهذه الليلة الباردة واحدة من ليالي متكررة، كنت وحيدًا، في ظلام مخيف، حينما سمعت أصوت سيارات شرطة قادمة، كانت الأصوات مرتفعة ومتسارعة، وتقترب باتجاهي، كنت بمفترق شارعين، أحدهما صوب الشارع الرئيسي، وأخر باتجاه الحارة التي أسكن فيها، مرت لحظات قليلة، حتى ظهرت أمامي سيارات شرطة مرتفعة، تتبعها سيارات مدوعة، وعلى متن السيارات المموهة باللون الأزرق نساء مسلحات ونساء سائقات، كان عدد السيارات أربع، ومن خلفهما مدرعتين على متنهما مسلحون ملثمون، عرفت هذا حينما تتبعتهم من بعيد.
مرت الحملة الأمنية من أمامي، وكسرت سكون الليل من وافعي، وذهبت عني برودة الظلام، وتسمرت نظراتي باتجاه سيارات العابرين، حتى انعطفت باتجاه عمق الحارة القريب، مرت سريعًا كقضاء اللّه وقدره، وبمجرد انعطافهم نحو شارع جانبي، تعمدت معرفة ما سيجري، أخذت نفسي وتبعتهم بخطوات خائفة ومترددة، قليلًا حتى اقتربت ورأيتهم من بعيد، كانوا متوقفين بجوار مدرسة حكومية، تجرأت أكثر، واقتربت أكثر، كان الملثمون منتشرون كدائرة تحيط بكل الزوايا، بينما يصوبون أسلحتهم في كل الإتجاهات، يصوبون على اليمين وعلى اليسار وصوب السماء المظلمة، وفي ذات التوقيت كانت النساء المسلحات يقتحمن منزل مواطن لا أعرفه، منزل بائس وفقير كواحد من منازلنا الشاردة، طرقن الباب بقوة وخوف، ثم ضربن الباب بمطرقة عملاقة يحملنها بأيديهن المتصخرات، حتى افتتح الباب، واقتحمن البيت، ومع هجومهن الداخلي سمعت أصوات صرخات النساء، وبكاء الأطفال، وكلما مر الوقت زاد الصياح والشتم والبكاء، لمدة عشر دقائق، وعملية الهجوم تستبيح المكان، بعدها خرجن وليس معهن شيء، لم يقبضن على أحد، ولم يعتقلن الخائن العميل، بعد خروجهن توجهن لسياراتهن مع أسلحتهن، كانت خطواتهن مستعلية ومتباهية، صعدن على متن مركباتهن وانطلقن، ومن خلفهن مدرعات الملثمين، ثم شغلوا أصوات سياراتهم المرتفعة وغادروا بصورة مرعبة.
بعد انتهاء الهجوم، ومغادرة الأشخاص الفضائيون، أخذني الفضول أكثر لمعرفة ما يجري، تجرأت واقتربت من المكان، بينما الأهالي في البيوت المجاورة يخرجون من بيوتهم متسارعين، باتجاه المنزلة المستهدف، وصلت بين حشود الأهالي المتجمعين، كانوا يتحدثون عما حدث، تلوكهم الحيرة والربكة والتوتور والخوف، وعلى ملامحهم تعابير الصدمة والمفاجئة. اقترب نحونا شخص كبير في السن، كان قد دخل منزل الأسرة المستهدفة، وصل وقال: كانوا يبحثون عن فلان، ولم يجدوه، لكنهم فتشوا البيت للبحث عن أجهزته وممتلكاته، لقد عبثوا بالمنزل وجعلوا عاليه أسفله، وأصابوا أهله وعياله بالرعب، إنهم مذعورون، دعونا نأخذ نسائنا إليهم ونزيل عنهم أعراض الفاجعة. تحدث الرجل الى الجيران بغصة تكسوا عباراته، بعد مشاهد صادمة في منزل الأسرة، كان على غير طبيعته، وبقية الناس إلئ جواره، مصدومون مع محاولاتهم التماسك والثبات، بينما يتهامسون عن احتمالات المداهمة، قد تأتي ليلة أخرئ يوبحثون عنا جميعًا، خصوصًا ونحن نعرف هذا الرجل المطلوب، إنه يعيش بيننا منذ سنوات، ولم نعلم عنه مواصفات الخطر، إنه يكابد عناء الحياة ليكفي أسرته وأطفاله، لا أحد يصدق ادعاءات الجنون، لو كانت الشكون حقيقة، لكان يعيش بطريقة أفضل، إنه فقير، يشبهنا تمامًا، يشبه أيامنا وليالينا، ولا يتمادى في شيء مما يقال، يا لحظه المخيف، ونحن أيضًا، يا لحياتنا البائسة.
كنت في مكاني أسمع وأرى وأتعجب، عن أسرة تعرضت لهجوم مرعب، في ساعة متأخرة من شتاء قارس، لقد أصابوا الحارة برمتها في صدمة لم يتوقعها أحد، وحالة من الذعر المنتشر تتفاقم بين الناس، بعدها حضرن نساء من بيوت مجاورة، ودخلن بيت الأسرة المكلومة، وبدأ الناس ينصرفون، بعضهم إلى بيوتهم، وبعضهم بقيوا يتحدثون مع أنفسهم، بخوف، عندها أخذت حالي وغادرت، عائدًا باتجاه منزلي وليلتي الباردة بدأت في مخاوفها، كنت أسير بلا وعي، وأخطو بلا شعور، وخيالي يتذكر هول ما جرى قبل قليل، مع تساؤلات طافحة بالشعور الحزين، لماذا يهجمون على الناس منتصف الليل؟ لماذا يتعاملون مع شعبهم بطريقة الذعر المبين؟ لماذا يجعلون الأهالي يكرهونهم ويخافون منهم؟ لماذا يتعمدون تخويف النساء والأطفال؟ لماذا لماذا؟ هذه التساؤلات ليست بريئة في قانونهم الجديد، بل ادانة إن كان بصوت عالٍ وهوية معروفة.. هي حالة من الخوف العام، عن قوات نسائية وملثمين سود، وأسلحة تقتحم المنازل الأمنة، وتكتسح الليالي البائسة، اليس هذا باطل عظيم؟