خاص-النقار
منسيون كأنما سقطت قضيتهم بالتقادم، غير أنه لا تقادم هنا سوى أن ذاكرة السلطة لا تجيد الاحتفاظ لضحاياها بشيء من الالتفات. مثلها ذاكرة الناس والمجتمع، فهي أيضا معنية بالتوقف كل يوم عند الترند الجديد الذي يرسمه لها مزاج ما، لتكون قد نسيت الترند الذي سبقه واستعدت للترند القادم، ولا وقت لديها كي تلتفت لشيء آخر.
خرج الناشط رداد الحذيفي مذهولا وغير قادر على الفرح من كونه قد أطلق سراحه. يرى الاحتفاء من حوله: زوجة وأولادا وأصدقاء ومقربين، فتحاصره الوجوه التي غادرها في السجن وقد فقدت ملامحها، وجاءت تودعه بأيد فقدت ثقتها بالتلويح.
ربما فكر عند خروجه بالكتابة عنهم، بل وبأنه لا هدف له من الآن فصاعدا سوى أن يستحضر تلك الوجوه ويرسم ملامحها حد الألم. لكن اللغة خذلان هي أيضا، مثلما هو الخذلان في كل شيء. ولن تكون المهمة سهلة بالنسبة لرداد أو غيره، فحجم الألم الذي تحمله تلك الوجوه في داخل كل من يغادرهم هناك أكبر من أن يُختزل في كلمات.
وحدها السلطة وجلادوها لا يرون شيئا من ذلك، ويفكرون فقط في توسعة سجونهم لاستيعاب المزيد. فالسجين مجرد زي أزرق بالنسبة لهم، وكلما زاد ذلك الزي استدعى المزيد من العناية بالمقاس في مصنع الغزل والنسيج الذي أصبح يغزل أكفانا ويصدر بدلات سجناء.
يقترح حسين الحوثي، نجل مؤسس الجماعة، على المقربين منه القيام بدراسة علمية حديثة عن طبيعة بناء سجون جديدة أو توسعة ما هو موجود منها، والرفع بالمقترحات سريعا بحيث تضع في الاعتبار كل المعايير المعاصرة. لقد قرر أن يدخل في المنافسة هو أيضا، بحيث لا تظل السجون وتوسعتها حكرا على الكرار الخيواني وأمثاله، بل لا بد من أن يكون له سجنه الخاص كنجل زعيم “رباني” ووفق معايير محترمة تليق بالمبادئ التي تشربها من أبيه، بحيث يؤوي إلى سجنه من يشاء ويتصرف كرجل دولة تم تعيينه في جهاز أمني مهم ورئيسا لناد رياضي عريق في صنعاء. وما بين سجنه الحديث (خمسة نجوم) وناديه الرياضي (أغبر كل ما فيه حتى العشب) يستمر في مسيرته “الجهادية” كشاب تجاوز العشرين قليلا، يحمل على كتفيه رتبة لواء، وعلى رأسه بُريهاً أزرق استطاع أن يتعلم كيف يتقن وضعيته كضابط مهيب ونجل مدلل.
لكن يبدو أن المنافسة بين نجل الحوثي وبين الكرار الخيواني، رئيس جهاز الأمن والمخابرات، على أشدها؛ حيث كل منهما يريد أن يحظى بالعدد الأكبر من السجناء، قبل أن يتم حل الإشكالية بينهما كما يبدو، بأن يتولى هو المعارضين السياسيين والنشطاء والصحفيين، فيما يتولى الآخر بقية الأصناف.
يستبق الكرار الموقف، كاشفا للجمهور عن الميزات الخاصة التي يتمتع بها سجنه، حيث جاء بقناة المسيرة إليه للحديث عن سجن بخمسة نجوم تتوفر فيه كل وسائل الراحة والاستجمام للنزلاء الكرام، فما يكون من نجل الحوثي إلا أن يتقبل الأمر على مضض، حاثا فريقه على المضي قدما في تطوير وتوسعة وتحديث سجنه الخاص، ليتسنى للمسيرة أن تزوره هو أيضا يوما ما.
وعلى الجانب المخفي من البقعة المباركة من السجون الأنصارية في صنعاء، يجد عبد القادر المرتضى، مسؤول ملف الأسرى، نفسه مضطرا للقول بأن الأسرى لديه يتمتعون بكل حقوقهم. منشورات الرجل على صفحته في منصة إكس لا تكف عن القول بأن سجنه مفتوح دائما وأبدا لكل المنظمات والجهات الحقوقية. كل ذلك لأن قرارا أمريكيا صدر مؤخرا قد يحرمه من حظوة السفر إلى عُمان ضمن الفريق المفاوض، وهو ما لا يريده على الإطلاق. حتى أنه قد يستجيب لطلب القاضي عبد الوهاب قطران بالإفراج عن أسير سبق أن تم التوجيه من قبل زعيم الجماعة بإطلاق سراحه.
ذلك الأسير الذي ذكره قطران والذي نسيه المرتضى هو واحد من بين الآلاف الذين سقطوا ويسقطون سهوا من ذاكرة سلطة صنعاء، فسجونها غير معنية سوى بالمزيد والمزيد من البدلات الزرقاء ومكائن حلاقة الرأس المشحونة.