أحمد سيف حاشد
المال والسلطة وقواعد اللعبة أحمد سيف حاشد ظلّت واستمرت السلطة وفي كل المراحل ومعها المال، تستغل حالة الفقر المنتشر في اليمن، بل واستخدمته ووظفته بما يعزز وجودها ومزاعم شرعيتها.. كل السلطات التي تعاقبت على حكم اليمن بمختلف توجهاتها ومسمياتها، لاسيما في العقود القليلة الماضية وإلى اليوم ظلت هي القادرة الأولى على التحشيد، وصار استخدام المال أكثر إمعانا وتعويلا عليه، دون خجل أو حياء أو مواربة، مهما افتقد هذا المال ليس لمشروعية مصادره فحسب، بل واستخدامه وتوظيفه الغير مشروع، والتي تكشف حقيقة الأجندات، والقوى المستفيدة منه، وما يتضمنه ذلك من فساد سياسي وغير سياسي. إنه استغلال لعوز وفقر المواطنين الذين تمارس عليهم سياسات الإفقار الممنهجة والمستمرة، وتوظيف هذا الاستغلال لمصلحة وخدمة أجندات السلطة الحاكمة، بل وباتت من كانت تدّعي إنها المعارضة تنتهج أيضا نفس النهج، بمجرد وصولها إلى السلطة، إن لم يكن قبلها.. إنه الاستغلال والاستخدام الذي لا يخلو من بشاعة من قبل تلك السلطات والأحزاب والقوى والجماعات السياسية والدينية.. هذا التحشيد الذي يتم بالمال، يجري معه أيضا وفي الغالب استخدام المؤسسات العامة، ومقدرات الدولة، والوظيفة العامة، بغرض انتخابي أو استعراض سياسي أو احتفال ديني أو تحشيد عسكري يتم بعيدا عن مصلحة الوطن، بل وينصب في خدمة ما هو أضيق كخدمة شخص مستبد بأي مسمّى، أو حزب، أو فئة، أو طائفة، أو جماعة، أو منطقة، أو نخبه سياسية، على حساب الشعب العريض، ومصالح الوطن العليا.. خلال العقود القليلة الماضية أنتفلت السلطة من حزب إلى آخر، ومن جماعة إلى أخرى، ومن نظام إلى آخر، وجميعها تقريبا استخدمت المال العام، والوظيفة العامة، ومقدرات الدولة، في الجمع والنقل والتحشيد والاحتفال وغيره؛ لتزييف الوعي، والإستخواذ على السلطة، والادعاء زورا إنها من تملك المشروعية الشعبية، أو الادعاء بالأحقية في الحكم، حتّى وإن كانت سلطة غلبة، أو إقصاء واستئثار.. وفي هذا يكمن أحد الأسباب التي أوصلتنا إلى ما وصلنا إليه، من حرب ودمار وفقدان وطن. ربما يتغير الإطار الخارجي لكنها تبقى الصورة الدميمة نفسها، ربما يتغيّر الشكل العام، ولكن لم يتغير الجوهر أو المضمون، إلا إلى ما هو أكثر سوءا وبؤسا وردائه.. لقد كان المشترك بين جميع السلطات التي تعاقبت على الحكم في اليمن خلال أكثر من أربعين عام ماضية، والتي كان جديدها يرث أسوأ ما في قديمها، لنصل اليوم إلى هذا الحد من الطغيان، الذي ما كان بحسبان، وعلى هذا النحو القاتل والفاجع الذي نراه اليوم.. لقد شهدت اليمن في هذه الحقبة التاريخية انقلابات وتبدلات سياسية، إلا أن السيء ظل الأكثر حضورا في الغالب والأعم.. ظل السيء هو المشترك بينها، حتى مع تبدلات النخب الحاكمة، وظل الأسوأ هو من يسود لنصل في النتيجة إلى هذا اليمن المُحترب، والمتمزّق والمتلاشي.. جميعها صنعت هذا المشهد المروع والمُرعب، الذي نعيشه اليوم، وإن اختلفت نسب المشاركة فيها لكل منها مع ملاحظة إن السيء ورثه الأكثر سوءا ووبالا.. لقد تم قطع رواتب أكثر من مليون موظف بعمد وإصرار وإمعان، ودون أن يهتز جفن أو رمش لهذه السلطات الدميمة بكل مسمياتها، وقد أتخمها الفساد وتورمت بالمال، بل وتم استغلال الفقر المنتشر، وتوسيع رقعته كل يوم أكثر من سابقه، لينتقل معه الحال من تزييف وعي وإرادة الناخبين، ليبلغ اليوم الأمر أوجّه، بتحويل أبناءنا إلى محاطب حرب مريعة، دون وجود أي أفق لنهاية غير تلك التي نراها اليوم بأم عيوننا، وهي كارثية للوطن ومستقبله بكل المقاييس.. لقد تم الانتقال من استغلال الفقر بتزييف الإرادة والوعي إلى تغييب الإرادة والوعي على نحو لا سابق له، وأكثر إمعانا من أي وقت مضى، ومن جميع سلطات الأمر الواقع التي تفرض سلطاتها بغلبتها المتوحشة، وجميعها وبكل مسمياتها تفتقد لأي شرعية شعبية أو ديمقراطية أو حتى أخلاقية.. ومن خلال تجربتي في العملية الانتخابية، وجدت أن الاستهتار بما يفعله المال غباء في مجتمع شديدة الحاجة والعوز.. فتحييد السلطة وأدواتها من المال، إلى مقدرات الدولة والشعب، وحتّى الإعلام، ومعهم أموال رجال المال والأعمال ـ خدّام السلطة ـ أمر أهم إن أردنا بالفعل عملية ديمقراطية ناجحة تعطي المتنافسين فرص متساوية، أو على الأقل فيها مقاربة للفرص بين المتنافسين.. نخب اليمن تعيش هشاشتها وأولها النخب السياسية، ويترافق مع هذا تغييب الوعي الوطني، وتحويل الديمقراطية إلى أداة تكتيكية لمزيد من التمكين وعدم التغيير، بل لتكريس الاستبداد بالسلطة والمال وادعاء الديمقراطية وتزييفها، واستغلال الفقر والعوز والجوع، وعدم الاكتراث أو الاهتمام ببناء الإنسان حتى في حدوده الدنيا.. ولهذا رأينا أول ما تصطدم وتحتدم المصالح يتم حسمها بوجه ما، غالبها تم بالصراع والحرب، فبعد حرب 1994 تم تغيير الدستور أكثر من مرّة ليس لصالح الوطن الكبير، وإنما لصالح الحاكم المنتصر وحزبه، وحلفائه التقليديين، وفي المقابل تم إقصاء الشريك وتدميره، وتمكين الفساد وسلطة الأمر الواقع، وتمكين المنتصر.. *** من المؤسف جدا أن نجد عدم تكافؤ الفرص، ودعامة السلطة والمال، من العناصر المهمة لتحقيق النجاح والفوز في الانتخابات، في مجتمع فقير ومعوز وقليل الحيلة، بل ومتخلّف من حيث الوعي والبنية الاجتماعية.. المال لا يحقق النزاهة، بل ويعطّلها، أو ينال منها في مجتمع لازال متوعكا بأمراضه وتكويناته واختلالاته.. مجتمع مثقلا بالفاقة، ومسيس الحاجة، ومفتقر إلى الحد الأدنى من التحصين المطلوب للوعي، وللحياة المستقرة والمنتجة. استخدام المال العام، والوظيفة العامة، وتفشي الفساد الانتخابي وقوننته، واستخدام المصالح العامة، ومقدرات ومؤسسات الدولة، وتسخير السلطة والنفوذ، بل وحتى تجار القطاع الخاص، وتوظيف عصبيات ما قبل الدولة، وعلى رأسها العصبيات القبيلة والعشائرية والجهوية، بل واستغلال حتى الثارات والأمراض والتناقضات الاجتماعية الغير سوية، واستغلال واستخدام الحاجات المجتمعية في العملية الانتخابية، والابتزاز بها.. كل هذا وذاك يفقد الانتخابات نزاهتها وعفّتها، ويفرغها من جوهرها ومضامينها الديمقراطية، وتؤدي إلى مخرجات شائهة وهشة، بل وفاسدة أيضا.. أذكر مثل هذا الكلام أدليت به كشهادة بعد شهور قليلة من فوزي في الانتخابات النيابية؛ وذلك في إحدى ورش العمل التي عُقدت في فندق تاج سبا في العاصمة صنعاء.. لقد قلتها بصراحة صارخة: مجلس النواب هذا هو أحد منتجات الفساد، فاستخدام المال العام، والوظيفة العامة، وكل مقدرات الدولة في الانتخابات النيابية أدّى ويؤدّي إلى نتائج فاسدة ووعي زائف. وللأهمية أشدد هنا على أن الاستبداد ليس ولن يكون هو البديل لديمقراطية أنحرفت عن أهدافها، والمطلوب هو إصلاح عميق من الوعي إلى الدستور والقوانين والنظم والممارسات وقبل ذلك الإنسان، وبما يؤدي إلى التداول السلمي للسلطة، وتكافؤ الفرص بين المرشحين المتنافسين، وتحييد المال العام، والوظيفة العامة، وكل امكانات ومقدرات الدولة، في العملية الانتخابية، ومكافحة الفساد الانتخابي والسياسي بصرامة متناهية، وتوقيع عقوبات زاجرة، لكل من يسعى إلى افساد العملية الانتخابية، بارتكاب فعل من تلك الأفعال المشار إليها سابقا، وتقرير عقوبات رادعة تطال حتى الممتنع والمتواطئ من ذوي السلطة والشأن ذو العلاقة في انفاذ وزجر المتورطين بالفساد الانتخابي والسياسي.. الواقع الانتخابي أتيت إليه دون أن أصنعه أو أشارك في صنعه.. لم أكن راضيا عنه، بل وجدت نفسي أعمل مكرها تحت شروطه وأحكامه.. واقع مستقل عنّي تماما، كان وجوده خارج إرادتي وسلطتي، بل حتى خارج رغبتي المتطلعة للتغيير وخيار الأفضل.. وحتى الواقع المشرّع بقانون، وجدت بعض نصوصه تعمل، والبعض الآخر كسيحة ومشلولة، أو غير نافدة، بحسب رغبة السلطة، ومصالحها.. شروط الواقع لم أصنعها أنا، بل وجدتها كما هي، وكما وجدت نفسي محكوما بها وتحت طائلة تلك الشروط الثقيلة التي أرزح تحتها، مرغما بها.. أنا لست إله، ولست سلطة، ولست ساحرا لأوجد الواقع الذي أريده وأتمناه.. وكل ما فعلته هو محاولة تحقيق اختراق في جدار هذا الواقع المضروب علينا، والعامد حصارنا، وابقاءنا أطول وقت ممكن تحت ثقله وشروطه. وقبل أن أحقق اختراق في هذا الجدار السميك من خلال الانتخابات، أردت أن أتعلم أيضا قواعد اللعبة مستشهدا بمقولة ألبرت إينشتاين : “عليك أولا أن تتعلم قواعد اللعبة، بعدها عليك أن تلعب أفضل من الجميع”، وله مقولة أخرى بنفس المعنى يقول فيها “أننا بمجرد أن ندرك حدود إمكانياتنا تكون الخطوة التالية هي السعي لتخطي هذه الحدود.، فلا يستطيع تحقيق المستحيل إلا أولئك الذين يؤمنون بما يراه الآخرون غير معقول!” والأهم عندي هو أن هذا اللعب وفي كل الأحوال يجب أن لا يتخلى عن الحد الأدنى من الأخلاق والاحترام المطلوبين.. وأظن هذا أيضا يتوافق أو يلامس في جانب منه مع ما قاله أينشتاين: ” لا تكافح من أجل النجاح، بل كافح من أجل القيمة”.