يؤثر سعر النفط بشكل كبير على الحياة اليومية لليبيين، نظرا لاعتماد الاقتصاد الليبي بشكل كبير على صادرات البلاد منه.
لكن أسعار النفط في ليبيا ارتفعت إلى أعلى مستوياتها بشكل مفاجئ، بسبب توقف أكثر من نصف إنتاج البلاد من النفط يوم الخميس الماضي، أي ما يعادل 700 ألف برميل يومياً، بعد نشوب نزاع بين حكومتي البلاد الشرقية والغربية حول المصرف المركزي، المخول الوحيد لإدارة عائدات النفط.
وتكبدت البلاد خسائر بقيمة 120 مليون دولار خلال ثلاثة أيام فقط، بحسب وكالة رويترز للأنباء.
ويقول بعض المهندسين الليبيين إن صادرات النفط لا تزال، إلى حدود مساء الاثنين، متوقفة من موانئ رئيسية وإن الإنتاج لا يزال منخفضا في أنحاء ليبيا رغم زيادة بعض الإمدادات لأغراض توليد الطاقة محليا.
ومنذ الإطاحة بحكم القذافي، انقسم الحكم في البلاد بين حكومتين: حكومة الوحدة الوطنية، التي تحظى باعتراف دولي، وهي حكومة مؤقتة يترأسها حاليا عبد الحميد الدبيبة، ومقرها العاصمة طرابلس، وتحكم غرب البلاد. والحكومة الليبية الموازية (حكومة البرلمان) التي يترأسها الآن أسامة حماد، وتحظى بدعم القائد العسكري خليفة حفتر، ومقرها في مدينة بنغازي، وتحكم شرقي البلاد وبعض المدن في الجنوب.
وقد باءت بالفشل كل محاولات الأمم المتحدة لإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية لتوحيد البلاد تحت حكومة واحدة.
وقالت المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا، التي تسيطر على عائدات النفط لرويترز، إن متوسط إنتاج النفط بلغ 591024 برميلا يوم الأربعاء 28 أغسطس/آب الماضي، بينما ضخت ليبيا نحو 1.18 مليون برميل يومياً في يوليو/ تموز.
كيف بدأت الأزمة؟
منذ مطلع عام 2022 حجب مجلس النواب (الحكومة الشرقية الموازية) الثقة عن حكومة الوحدة الوطنية، وكلف حكومة أخرى بدلاً من حكومة عبد الحميد الدبيبة، لكن الأخير رفض تسليم السلطة ولا يزال يشغل منصبه، واشترط لفعل ذلك إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية المؤجلة منذ كانون الأول/ ديسمبر 2021.
وبدوره، أقال المجلس الرئاسي في حكومة الدبيبة، المكون من ثلاثة أشخاص، محافظ المصرف المركزي، الصديق الكبير، المدعوم من قبل الحكومة الشرقية، والذي رفض التنحي عن منصبه، ما أدى إلى دخول لجنة مكلفة من قبل المجلس الرئاسي بالقوة إلى مقر مصرف ليبيا المركزي لتنفيذ القرار، حسبما أظهرت مقاطع فيديو نُشرت على منصة إكس ومنصات أخرى للتواصل الاجتماعي.
ورداً على ذلك، أعلنت حكومة شرق ليبيا إغلاق حقول النفط وإيقاف إنتاجه وصادراته، ما صعد من حدة التوتر بين الحكومتين.
وقال الصديق الكبير لصحيفة فاينانشال تايمز البريطانية الصادرة يوم الجمعة، إنه وموظفين كبار في المصرف المركزي "غادروا البلاد حفاظاً على حياتهم من هجمات محتملة من قبل فصيل مسلح يهدد ويرهب موظفي البنك ويخطف أطفالهم وأقاربهم في بعض الأحيان لإجبارهم على الذهاب إلى العمل".
كيف يؤثر إغلاق حقول النفط على حياة الليبيين؟
رغم تأكيدات شركة البريقة لتسويق النفط في ليبيا بشأن توفر كميات كافية من الوقود، إلا أن الطوابير الطويلة المصطفة أمام محطات الوقود تقول عكس ذلك.
وتشهد ليبيا، العضو في منظمة أوبك، والتي يعد النفط فيها شريان الحياة، طوابير طويلة في طرابلس والمناطق المحيطة بها، بعد إغلاق حقول النفط التي تشرف عليها الحكومة الشرقية التي لا تحظى باعتراف دولي.
تحدثت بي بي سي نيوز عربي إلى عدد من المواطنين الليبيين عن انعكاسات تصاعد التوتر بين حكومتي البلاد، وتأثير إيقاف إنتاج النفط على حياتهم اليومية.
تقول إيناس حميدة - وهي امرأة خمسينية، تعيش في العاصمة طرابلس، وتعمل رئيسة تحرير لإحدى المنصات الإخبارية التابعة للهيئة العامة للصحافة: "نحن كليبيين نعيش على عائدات النفط ولا نملك موارد أخرى تخفف علينا وطأة الأزمات المتلاحقة، إذ لا تزال أزمة السيولة مستمرة منذ ما يزيد عن أربعة أشهر في ظل غياب بنية تحتية تجعلالحلول الأخرى ممكنة، ما يدفع المواطنين إلى اللجوء إلى المضاربين ودفع عمولات مرتفعة لسحب رواتبهم الشهرية من المصارف".
وتوضح حميدة أنه في ظل هذه الأزمة "انخفضت قيمة الدينار أيضاً إلى أكثر من الثلث وتراجعت القوة الشرائية وتأثرت حركة البيع والشراء، وكل ذلك يحدث بالتزامن مع اقتراب موسم افتتاح المدارس وفصل الشتاء، ناهيك عن الانقسامات السياسية وما نتج عنها من تراجع في مستوى المعيشة وانتشار الفساد في ظل غياب الرقابة الفاعلة والناجعة، عدا عن تأثيراتها على الغذاء والدواء والحياة اليومية".
ويقول طارق بريدعة (46 عاماً)، وهو صحفي من طرابلس، إن إغلاق حقول النفط يشكل تهديداً كبيراً على اقتصاد الدولة.
"يؤدي إيقاف الإنتاج إلى انخفاض حاد في دخل الدولة، ما يؤثر سلباً على المؤسسات التي تعتمد كليا على الإيرادات النفطية لتشغيلها ودفع مرتبات موظفيها. كما يتسبب في نقص الموارد المالية اللازمة لتمويل الخدمات العامة والبنية التحتية".
وأشار بريدعة إلى العدد الكبير من مواطني البلاد الذين يعملون في قطاع النفط أو يعتمدون على الأنشطة الاقتصادية المرتبطة به قائلاً: "إن إغلاق هذا القطاع قد يؤدي إلى فقدان وظائف وتضرر الشركات المتصلة به. بالإضافة إلى ذلك، فإن تأثير نقص إمدادات النفط يمكن أن يتسبب في نقص الوقود والطاقة، ما يؤثر على النقل وتشغيل الأعمال اليومية وارتفاع الأسعار وزيادة تكلفة المعيشة، لأن ليبيا دولة تعتمد على النفط فقط ولا تصدر أو تصنع أي شيء آخر يعود بالنفع المالي على البلاد".
ولا شك أن نقص إيرادات الدولة، التي في حالة ليبيا تعتمد كلياً على النفط، سيؤثر على جميع مجالات الحياة في البلاد ابتداء من ميزانية الدولة وليس انتهاء بأسعار السلع الأساسية.
ويضيف بريدعة "إن جودة الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم والمرافق العامة، ستتأثر كثيراً بنقص التمويل، ما ينعكس سلباً على جودة حياة المواطنين، واستمرار نقص الإيرادات النفطية على المدى الطويل، سيعيق قدرة الدولة على الاستثمار في البنية التحتية وتحديثها، والتي تشمل الطرق والمساكن والمستشفيات والمدارس، التي تعاني بالفعل من التهالك".
هل من حلول في الأفق؟
دعت الدول الأعضاء بمجلس الأمن في بيان صدر في 28 أغسطس/آب المنقضي، كافة القيادات والمؤسسات السياسية والاقتصادية والأمنية الليبية إلى تهدئة التوترات، والامتناع عن استخدام القوة أو التهديد باستخدامها أو أي تدابير اقتصادية تهدف إلى ممارسة الضغط، والتوصل إلى حل توافقي للأزمة الحالية فيما يتعلق بالبنك المركزي. كما حثت الأطراف الليبية على تجنب أي أعمال عسكرية من شأنها تعريض استقرار ليبيا الهش وأمن المدنيين للخطر، والمشاركة الكاملة وبحسن نية ودون شروط مسبقة، وتقديم التنازلات اللازمة لإحراز تقدم في العملية السياسية التي تقودها وتملكها ليبيا وتيسرها الأمم المتحدة، بما يتماشى مع قرار مجلس الأمن رقم 2702 (2023).
ويقول الخبير الاقتصادي الليبي، مختار الجديد، لبي بي سي: "إن إقالة محافظ البنك من جانب المجلس الرئاسي، مشكلة سياسية بامتياز، تأتي على خلفية الصراع السياسي الممتد إلى ما يزيد عن عشر سنوات، وإذا طال أمد هذه الأزمة، فستكون لها انعكاسات مباشرة على حياة المواطنين الليبيين، وخصوصاً في ظل الانقسام السياسي الحاد الذي طال الجانب الاقتصادي، حيث دخل إغلاق بعض حقول النفط حيز التنفيذ فعلاً، وثمة مخاوف من أن يطول أمد هذه الأزمة إلى أسابيع وأشهر، والذي سينتج عنه ارتفاع حاد في سعر صرف الدولار في السوق الموازي وسينعكس ذلك على حياة المواطنين".
إضافة إلى ذلك، يقول الجديد إن "الأزمة في هذه المرة على خلاف الأزمات السابقة التي مرت بها ليبيا، ستكون أزمة عنيفة وحادة إذا لم تعد الأمور إلى نصابها ويواصل المصرف المركزي مهامه. ولتحقيق ذلك، يجب أن يتم اختيار محافظ المصرف المركزي بالتوافق بين المجلس الأعلى للدولة والبرلمان، وإلا ستكون النتائج وخيمة على المواطنين الليبيين بالدرجة الأولى، فضلاً عن أسعار النفط العالمية، كون ليبيا تنتج ما يزيد عن مليون برميل من النفط الخام في اليوم الواحد".
ويقول الخبير الاقتصادي الليبي أحمد السنوسي لبي بي سي، إنه في دولة مثل ليبيا، النفط فيها شريان الحياة، "لا شك أن عواقب وخيمة ستترتب عن هذه النزاعات السياسية وستخيم على كافة نواحي الحياة، بما فيها ميزانية الدولة وحجم السيولة المتوفرة وغيرها، ناهيك عن فقدان المواطنين للثقة بالمصارف الليبية منذ زمن، لذلك يجب البحث عن حلول أخرى تضمن استعادة أموال التجار والمواطنين إلى المصارف، لكن السلطات للأسف، تكرر وتقع في نفس أخطاء الماضي، متبعة مبدأ الغنيمة الذي كان ولا يزال سبباً في كل هذه الأزمات والحروب والفقر، وبالتالي لن تختلف النتائج عن سابقاتها، ولا تلوح أي حلول واضحة في الأفق لأن المنظومة السياسية تسير في نفس الخطوات التي كانت عليها قبل 12 بل 60 عاماً، وبالتالي استمرار الصراعات على هذه الغنيمة".
وخلاصة الأمر، تلعب أسعار النفط دوراً حاسماً في تشكيل الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في ليبيا. ويمكن أن تخلف التقلبات في أسعار النفط تأثيرات واسعة النطاق على كل شيء بدءاً من تكاليف المعيشة اليومية وحتى الاستقرار الوطني. وقد تنجرف البلاد نحو الهاوية من جديد ما لم تهدئ الأطراف السياسية من وتيرة الصراع فيما بينها وتصل إلى حل توافقي لأزمة المصرف المركزي.