بسبب زواج والديها خارج المحكمة وانفصالهما دون تصديق الزواج رسمياً، عاشت نور (اسم مستعار) أكثر من 23 عاماً بدون أوراق ثبوتية، ما حرمها من التعليم واضطرها لاستخدام هوية أخت غير شقيقة لها في كثير من الأحيان.
ورغم أن قانون الأحوال الشخصية العراقي الحالي يعاقب الرجل على عدم تسجيل الزواج، إلا أن هناك آلاف الزيجات التي تُعقد بالفعل خارج المحاكم.
الناشطة الحقوقية، مروة عبد، التي حاولت مساعدة الشابة العراقية في إصدار أوراق ثبوتية تقول لبي بي سي، إن نور ليست سوى واحدة فقط من ضحايا الزواج خارج المحكمة.
وتضيف لبي بي سي: "يمكنك أن تتخيل أن التعديل الذي يحاول مجلس النواب إقراره، سيقنن الزواج خارج المحكمة، ما يعني آلاف الضحايا مثل نور. ففي الوقت الحالي، ورغم وجود قانون يعاقب على هذا الفعل، تحدث كثير من هذه الزيجات، فما الحال إذا تغير القانون؟".
وأثار مشروع تعديل قانون الأحوال الشخصية العراقي رقم 188 لسنة 1959 جدلاً واسعاً في العراق، وتتركز أبرز الخلافات بشأن التعديلات، حول قضايا سن الزواج للإناث وتسجيل عقد الزواج في المحاكم والمرجعية القانونية والشرعية للزواج المختلط وحقوق المرأة المطلقة وحضانة الأطفال.
وفي الوقت الذي حظي المقترح، الذي تقدم به النائب في مجلس النواب العراقي رائد المالكي بدعم من عدد من النواب، ورجال الدين، وجد معارضة شديدة من المجتمع المدني وقانونيين.
ويتضمن المقترح ثلاث مواد رئيسية، وهي إضافة فقرة إلى المادة الثانية تتيح للعراقيين اختيار المذهب الشيعي أو السني لتطبيق أحكامه على مسائل الأحوال الشخصية، وإلغاء الفقرة الخامسة من المادة العاشرة التي تجرم عقد الزواج خارج المحكمة. كما يشمل التعديل تصديق المحكمة على عقود الزواج التي يبرمها الأفراد البالغون وفقًا للتخويل الشرعي أو القانوني من القضاء أو ديواني الوقفين الشيعي والسني.
جدل و"تقسيم مذهبي"
ويرى مؤيدو المقترح أن قانون الأحوال الشخصية المعدل "سيسهم في حماية الأسرة العراقية، وتقليل نسب الطلاق والعنوسة، دون إلغاء القانون الساري".
في المقابل، يخشى معارضوه من أن التعديل "سيعزز هيمنة الرجل على المرأة، ويسلبها حقوقها كزوجة وأم، ويشجع على تزويج القاصرات والزواج خارج المحاكم".
لكن الخبير القانوني، محمد جمعة، يقول لبي بي سي إن قانون 188 لسنة 1959 الساري لا يتعارض مع أحكام الشريعة، بل يستند عليها، ولا يوجد فيه ما يخالفها، بل جمعت الأحكام الشريعة الأكثر ملاءمة في قانون واحد.
وأضاف جمعة أن مؤيدي التعديل يرون أنه يمنح الزوجين حرية اختيار مصدر الأحكام التي تحكم زواجهما، سواء كان قانون الأحوال الشخصية الحالي أو المذهب الجعفري أو السني. لكنه يعتقد أن هذا غير صحيح، "لأن المادة الأولى من التعديل تبدو كأنها تعطي حرية الاختيار، ولكن الفقرة الأخيرة تلغي هذه الحرية، إذ تنص على اللجوء إلى الرأي الشرعي إذا اختلف أفراد الأسرة حول مصدر الأحكام".
وقدّرت منظمة هيومن رايتس ووتش في تقرير صدر في مارس/آذار 2024، أن المحاكم العراقية في جميع أنحاء البلاد قد صدقت بين يناير/كانون الثاني وأكتوبر/ تشرين الأول 2023 على 37.727 زواجاً عُقِد خارج إطار المحاكم مقارنة بـ 211.157 زواجاً مدنياً.
وبحسب قانونين، فإن معظم هذه الزيجات التي أشار إليها تقرير المنظمة، يخص فتيات لم يبلغن السن القانوني، إذ يقوم الأهل بعقد الزواج خارج المحكمة خشية المحاسبة القانونية، وعندما تبلغ الفتاة السن القانوني يُجرى تصديق العقد في المحكمة."
وينص قانون الأحوال الشخصية الحالي على "الحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تزيد على سنة، أو بغرامة لا تقل عن ثلاثمائة دينار ولا تزيد على ألف دينار، على كل رجل عقد زواجاً خارج المحكمة".
وتحذر ناشطات نسويات تحدثن لبي بي سي، من أن إقرارالتعديل الجديد قد يؤدي إلى "فجوة وفصل في المجتمع العراقي، وتقسيمه بين المذهبين السني والشيعي في مسائل الزواج".
وشهدت محافظات عراقية مظاهرات كانت في الغالب نسوية، احتجاجاً على التعديل، وتعالت الأصوات المطالبة بالعدول عنه، على إثر ذلك (تشكل تحالف 188) يضم ناشطين وناشطات وسياسيين وقانونيين وبرلمانيين من أجل الضغط على مجلس النواب العراقي.
ما الذي يجعل التعديل جدليا؟
وحذرت منظمة هيومن رايتش من أن إقرار التعديل، ستكون له آثار كارثية على حقوق النساء والفتيات المكفولة بموجب القانون الدولي، وقالت في تقرير تحت عنوان "العراق يستعد لتشريع زواج الأطفال" : "إن التعديل" سيسمح بزواج الفتيات اللاتي لا تتجاوز أعمارهن تسع سنوات، ويقوض مبدأ المساواة بموجب القانون العراقي، ويزيل أوجه حماية المرأة في الطلاق والميراث. ويعرّض زواج الأطفال الفتيات لتزايد خطر العنف الجنسي والجسدي، وعواقب وخيمة على الصحة البدنية والنفسية، والحرمان من التعليم والعمل."
وهذه ليست المرة الأولى التي يُقترح فيها تعديل قانون الأحوال؛ ففي عام 2014، قدم وزير العدل الأسبق، حسن الشمري، 254 مادة لتعديل القانون بدعوى "إنقاذ الطائفة الشيعية من ارتكاب الذنوب" بسبب تعارض بعض بنود قانون الأحوال الشخصية الحالي (1959) مع الفقه الشيعي.
وفي عام 2021، قُدِّم مقترح لتعديل المادة 57 من قانون الأحوال الشخصية المتعلقة بحضانة الأم بعد الطلاق، ولكن لم يُجر إقرار أي من المقترحين.
وبسبب الاعتراضات الواسعة على مشروع تعديل قانون الأحوال الشخصية، تعهد رئيس الوزراء محمد شياع السوداني بـ "مناقشة ملاحظات المجلس الأعلى لشؤون المرأة في ورشة تخصصية قريبا".
وتقول الناشطة والحقوقية، مروة عبد، إن التعديل "يثير مخاوف بسبب سلب سلطة القاضي وإعطائها لرجل الدين، وهو تحد خطير يواجهه أي قانوني.
وأوضحت أن التجارب السابقة في الدول التي يحكمها رجال الدين، أدت إلى فقدان العديد من الحقوق، نظراً لعدم وجود قانون ثابت وواضح، واعتماد الأمر على المذاهب والآراء المختلفة."
وأكدت أن "الخطورة تكمن في جعل القاضي كساعي البريد، يرسل كتاباً إلى دار الإفتاء وهما الوقفين السني والشيعي، حتى يتمكن من البت في أي قضية."
ويضيف الخبير القانوني، محمد جمعة، من جانبه أن "الاعتراض ليس على حرية اختيار المذهب عند الزواج، بل على كيفية حل الخلافات. ففي حال حدوث خلاف، يُتّبع الرأي الشرعي، ما يعني أن الزوجة لن يكون لها خيار إذا أراد الزوج شيئاً مختلفاً، إذ سيؤخذ بمذهب الرجل."
تزويج القاصرات
ويشير جمعة إلى أن الفقرة الثانية من التعديل تنص على أن المحاكم تعتمد على مدونة الأحكام الشرعية في مسائل الأحوال الشخصية، ما يعني تغيير سن الزواج إلى تسع سنوات وفقاً للمذهب الجعفري، وأن حضانة الأم للطفل تكون لمدة سنتين للصبي، وسبع سنوات للفتاة، ثم تنتقل الحضانة إلى الأب.
كما يلفت إلى أن التعديل يتناول موضوع "النفقة من أجل الاستمتاع"، ما يعني أن الزوجة التي تغادر بيت الزوجية دون إذن زوجها أو تمتنع عن العلاقة بسبب مرض أو تعب قد لا تحصل على النفقة، لأنها "مشروطة بالاستمتاع".
ويشير جمعة أيضاً إلى أن الفقه الجعفري لا يمنح القاضي حق التفريق بين الزوجين، بل يمنح هذه الصلاحية للمرجع الأعلى، وحتى هذه المسألة يوجد فيها اختلاف بين المراجع الشيعية، إذ يمنح بعضهم حق التفريق للقاضي، بينما يرفضه آخرون، ما يعني أن الآراء الشرعية ليست ثابتة وقد تتغير مع مرور الزمن ويمكن مناقشتها.
وتشير الحقوقية العراقية، مروة عبد، إلى أن سوابق مجلس النواب في القرارات والقوانين المتعلقة بالمرأة كانت سيئة للغاية، وتقول "المقترحات غالباً ما تهدف إلى سلب الحقوق المكتسبة للنساء، مثل حق الحضانة، وهو حق اكتُسِب بعد تجارب ومعاناة".
وتضيف أن التعديل الجديد سيسلب المرأة حقها في النفقة. فالقانون الحالي يوفر أنواعاً مختلفة من النفقة، وكذلك حقها في السكن. وأعربت عن قلقها من أن التعديلات قد تجبر الناس على اتباع مذهب معين.
وأُقِرَّ قانون الأحوال الشخصية العراقي في عام 1959، وخضع لتعديلات على مر السنين، ويعتقد قانونيون أن هذا القانون يشكل إطارا قويا لضمان تماسك الأسرة العراقية لأكثر من 60 عاما، ما يجعله مرجعا مستمرا للعراقيين.
حقوق أساسية
تقول الناشطة مروة عبد إن والدة نور لم تسجلها لأنها تزوجت وتطلقت من والد نور خارج المحكمة، ثم تزوجت مرة أخرى داخل المحكمة وأنجبت أولاداً وعاشت حياتها بشكل طبيعي، وكذلك فعل والدها، لكن بقيت نور بلا أوراق ثبوتية، ما حرمها من التعليم والحياة الطبيعية.
وتابعت عبد: "عندما بدأنا بتقديم طلب إلى المحكمة المختصة لإصدار أوراق ثبوتية بموافقة والدتها، توفيت والدتها، ما تسبب بإيقاف القضية مرة أخرى، وبعد رحلة قانونية طويلة ومكلفة استمرت ثلاث سنوات، حصلت نور لأول مرة على أول شهادة ميلاد وتحقيق شخصية وهي في منتصف العشرينات من عمرها.
تقول مروة عبد : "ربما ساعدت الظروف نور بعد سنوات من المعاناة، ولكن هناك كثيرات مثلها، لم يسعفهن الحظ في العثور على من يساعدهن. هؤلاء النساء ربما تعرضن للابتزاز أو الضياع، وقد يدفعهن ذلك أحياناً إلى التفكير في الانتحار، هذا كله ونحن نملك قانوناً يعاقب من يتزوج خارج المحكمة، فكيف سيكون الوضع لو كان الأمر غير ذلك؟!".