بعد قبولها اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بالتحقيق والملاحقة القضائية "في الجرائم المرتكبة على الأراضي اللبنانية منذ 7 أكتوبر الماضي"، عادت حكومة تصريف الأعمال اللبنانية وتراجعت عن قرارها في جلسة عقدتها يوم الثلاثاء الماضي.
وكانت الحكومة اللبنانية صوتت في أبريل الماضي على توجيه وزارة الخارجية لتقديم إعلان إلى المحكمة الجنائية الدولية يسمح لها بالتحقيق في جرائم الحرب المزعومة على الأراضي اللبنانية والمشمولة في نظام المحكمة وهي، جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجرائم العدوان، لكن وزير الخارجية عبد الله بو حبيب لم يقدّم الإعلان المطلوب، ولم يرد على سؤال لرويترز بشأن سبب عدم اتخاذه هذه الخطوة.
ونشرت الحكومة يوم الثلاثاء قراراً معدلاً لم يأت على ذكر المحكمة الجنائية الدولية، بل ذكر أن لبنان سيتقدم بشكاوى إلى الأمم المتحدة بدلاً من ذلك.
ويتهم لبنان إسرائيل بانتهاك القانون الدولي بشكل متكرر منذ أكتوبر، عندما بدأ حزب الله والجيش الإسرائيلي تبادل إطلاق النار بالتوازي مع حرب غزة. وأدى القصف الإسرائيلي منذ ذلك الحين بحسب رويترز إلى مقتل نحو 80 مدنياً في لبنان بينهم أطفال ومسعفون وصحفيون.
وجاء تراجع لبنان عن قراره باللجوء إلى المحكمة الجنائية، بعد أيام قليلة من طلب مدعي المحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير الدفاع وثلاثة من قادة حماس.
كواليس الخطوة الأولى
كواليس اتخاذ لبنان قرار اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية، في أبريل الماضي، تشرحها الناشطة الحقوقية المحامية ديالا شحادة بالقول "العام الماضي، عُقِدت ندوة في مركز "بيت بيروت" شارك فيها وزير الإعلام زياد مكاري، تناولت الاعتداءات التي يتعرض لها الإعلاميون في جنوب لبنان من قبل إسرائيل. خلال الندوة، قدمتُ مداخلة حول كيفية مقاضاة إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية. طلب مني مكاري أن أرفع له توضيحاً قانونياً حول هذا الإجراء، كونه ليس الجميع يعلمون بإمكانية اتخاذه عبر قرار حكومي لا يقتضي مصادقة مجلس النواب أو رئيس الجمهورية".
في 22 نوفمبر الماضي، أرسلت شحادة المقترح إلى وزير الإعلام، وإلى نائبين تغييرين، "رغم عدم امتلاكهما الصلاحيات اللازمة، لكن بهدف الضغط على الجهات المعنية ليس أكثر".
أحال مكاري المقترح إلى وزير العدل، بحسب ما تقوله شحادة لموقع "الحرة"، "إلا أن الأخير تحفّظ عليه، مما دفع عائلة الصحافي عصام عبد الله الذي قتل خلال تغطيته الأحداث في جنوب لبنان، خاصة شقيقته، إلى التواصل مع وزير الإعلام والإصرار على بذل جهود لمحاسبة الإسرائيليين الذين قتلوا شقيقها".
في ذات الوقت، "صدر تقرير المنظمة الهولندية للبحث العلمي التطبيقي (TNO) المرتبط بالتحقيق في مقتل عبد الله، فاستأنف وزير الإعلام جهوده لاتخاذ موقف حكومي يتيح المقاضاة الدولية. وبالفعل، صدر في أبريل الماضي قرار بهذا الشأن".
في الجلسة التي عقدت يوم الثلاثاء الماضي "والتي غاب عنها وزير الإعلام بسبب تواجده في البحرين، تراجع الوزراء المجتمعون عن القرار، وقد أعرب وزير الإعلام عن استيائه من هذا التراجع"، تقول شحادة، وقد أكد مكاري لرويترز أنه سيواصل "البحث عن محاكم دولية أخرى لتحقيق العدالة".
يذكر أن لبنان وإسرائيل ليسا من أعضاء المحكمة الجنائية الدولية، وبالتالي يتعين على كل منهما تقديم إعلان رسمي يمنحها السلطة القضائية لبدء تحقيقات خلال فترة زمنية معينة، أي أن "الانضمام للمحكمة هو انضمام جزئي ضمن إطار زمني محدد وفقاً للفقرة الثالثة من المادة 12 من نظام روما الأساسي" بحسب ما يقوله محامي تجمع نقابة الصحافه البديلة، فاروق المغربي.
وتنص هذه الفقرة على أنه "إذا كان قبول دولة غير طرف في هذا النظام الأساسي لازماً بموجب الفقرة 3، جاز لتلك الدولة بموجب إعلان يودع لدى مسجل المحكمة، أن تقبل ممارسة المحكمة اختصاصها فيما يتعلق بالجريمة قيد البحث، وتتعاون الدولة القابلة مع المحكمة دون أي تأخير أو استثناء".
خلفيات التراجع
تصف الباحثة في مؤسسة سمير قصير، الصحفية وداد جربوع، موقف الحكومة اللبنانية بأنه "صادم"، وترى في حديث مع موقع "الحرة أن "أي تبرير لهذا التراجع مرفوض".
كما تأسف شحادة لتمنّع الحكومة اللبنانية "عن استخدام الأدوات القضائية الدولية التي لا تتطلب سوى كتاب من وزير الخارجية اللبنانية أو السفير اللبناني في هولندا إلى المحكمة الجنائية الدولية، خاصة في ظل التطورات الأخيرة التي شهدتها المحكمة لجهة إصدار مذكرات توقيف بحق مسؤولين إسرائيليين كبيرين، مما ينهي الجدل حول جدوى عملها في الشكاوى المقدمة ضد إسرائيل".
وترجع شحادة سبب تراجع لبنان عن اللجوء إلى هذه المحكمة إلى "ضغوط مارسها حزب الله وحركة أمل، اللذان يخشيان من أن تشمل تحقيقات المحكمة إطلاقهما صواريخ على مناطق سكنية في إسرائيل، مما يعد انتهاكاً للقانون الدولي، وهو ما ذكره مسؤول لبناني لوكالة رويترز".
وقال المسؤول الذي طلب عدم نشر اسمه، للوكالة، إن القرار الأولي لمجلس الوزراء أثار "ارتباكاً" بشأن ما إذا كان الإعلان "سيفتح الباب أمام المحكمة للتحقيق في كل ما تريد في ملفات مختلفة".
كما كشف أن "طلب إعادة النظر في القرار جاء من جورج كلاس الوزير المقرب من رئيس البرلمان نبيه بري الذي يرأس حركة أمل الشيعية المتحالفة مع حزب الله".
وأكد كلاس عندما اتصلت به رويترز أنه طلب مراجعة القرار الأولي لمجلس الوزراء لكنه نفى أن يكون ذلك خوفاً من أن يتعرض حزب الله أو حركة أمل لمذكرات اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية.
ومنذ أكتوبر، أطلق حزب الله وحركة أمل صواريخ على إسرائيل، مما أسفر عن مقتل 10 مدنيين، وفقاً للجيش الإسرائيلي، وتشريد حوالي 60 ألف ساكن بالقرب من الحدود.
من جانبه يرى المغربي أن هناك تحليلين لقرار مجلس الوزراء اللبناني بالعدول عن اللجوء إلى هذه المحكمة، "الأول، أن حزب الله طلب عدم اتخاذ هذه الخطوة تخوفاً من صدور مذكرات إلقاء قبض بحق قيادييه وإن لم يرتكب أي من جرائم الحرب".
والثاني، أن "أميركا وأوروبا تدخلتا لدى الحكومة ووزارة الخارجية اللبنانية لتفادي المزيد من التعقيدات، أي احتمال صدور مذكرات إلقاء قبض بحق مسؤولين إسرائيليين. وبموجب ذلك، صدر قرار الحكومة اللبنانية بأن تتخذ الإجراءات أمام هيئات دولية بعيداً عن المحكمة الجنائية، لكن هذه الهيئات تبقى قاصرة عن تحقيق العدالة".
وقدّم لبنان بانتظام شكاوى إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بشأن القصف الإسرائيلي على مدى الأشهر السبعة الماضية، لكنها لم تسفر عن قرارات ملزمة للأمم المتحدة.
الفرصة قائمة
بعد قرار الحكومة بالعدول عن اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية، يمكن للإعلام اللبناني والمجتمع المدني والحقوقي اللبناني، بحسب شحادة "الضغط على الرأي العام والحكومة اللبنانية، كي يوجه وزير الخارجية أو السفير اللبناني في هولندا الإعلان إلى المحكمة الجنائية الدولية، وهذا إجراء بسيط لجأت إليه أوكرانيا، مما مكّن المحكمة من التحقيق وإصدار مذكرات توقيف بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين".
كذلك تشدد جربوع على ضرورة "تحرك المؤسسات الحقوقية والإعلامية تحديداً، كونها الأكثر تضرراً من هذه الاعتداءات والانتهاكات، للضغط على الحكومة اللبنانية لاستكمال إجراءات اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية. خاصة أن السلطة اللبنانية يمكنها في أي وقت استكمال هذه الإجراءات، نظراً لعدم وجود مهلة زمنية محددة".
وأدانت منظمة "هيومن رايتس ووتش" القرار الوزاري الجديد، وقال الباحث في شؤون لبنان في المنظمة، رمزي قيس، "أتيحت للحكومة اللبنانية فرصة تاريخية لضمان تحقيق العدالة والمحاسبة على جرائم الحرب في لبنان. ومن المخزي أن يضيعوا هذه الفرصة"، معتبراً أن إلغاء القرار يظهر أن "دعوات لبنان للمحاسبة جوفاء".
وسبق أن رحبت منظمة هيومن رايتس ووتش بقرار الحكومة اللبنانية قبول اختصاص المحكمة قائلة إنه "خطوة محورية نحو ضمان العدالة في جرائم الحرب في لبنان".
وكشفت المنظمة أنها وثقت هجومين إسرائيليين في لبنان في 13 أكتوبر "أدّيا إلى مقتل الصحفي عصام عبد الله وإصابة 6 آخرين"، وخلصت إلى أن الضربة "كانت هجوماً متعمداً مفترضاً وتشكل بالتالي جريمة حرب".
وفي هجوم آخر شنه الجيش الإسرائيلي في لبنان في نوفمبر، وثّقت هيومن رايتس ووتش أن "مقتل ثلاثة طفلات وجدّتهن كان أيضاً جريمة حرب مفترضة" كما كشفت عن "استخدام الجيش الإسرائيلي الفسفور الأبيض في عملياته في لبنان منذ 7 أكتوبر".