بعدما شهدتها عدة دول أوروبية خلال السنوات الماضية، وصلت المحاكمات المدرجة ضمن "الولاية القضائية العالمية" والخاصة برجالات نظام الأسد إلى فرنسا، الثلاثاء، ومن المقرر حسبما يوضح حقوقيون لموقع "الحرة" أن يصدر الحكم النهائي بحق 3 مسؤولين أمنيين يوم الجمعة المقبل، لكنه سيكون "غيابيا".
الرجال الثلاثة هم: علي مملوك الرئيس السابق لمكتب الأمن القومي المشرف على أجهزة الأمن والمخابرات في سوريا، جميل حسن مدير المخابرات الجوية الأسبق وعبد السلام محمود المدير السابق لفرع التحقيق في ذات الفرع الأمني الذي يترأسه الأخير.
ويواجه هؤلاء تهما بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، فيما يتعلق باختفاء السورييّن الفرنسييّن مازن الدباغ وابنه باتريك، اللذين كانا يبلغان من العمر 48 و20 عاما وقت اختفائهما في عام 2013 في سجون بشار الأسد.
وتم توقيف باتريك حين كان يدرس بالسنة الثانية في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بدمشق في الثالث من نوفمبر 2013 على يد خمسة أشخاص يتبعون لفرع المخابرات الجوية (اثنان من الضباط واثنان من عناصر الأمن ومتخصص في المعلومات).
وفي اليوم التالي، 4 نوفمبر، عاد الضابطان نفسهما، بصحبة 12 من العناصر المسلحة، واتهموا مازن دباغ (والده) بالإخفاق في تربية ابنه على النحو اللائق، ومن ثم اعتقلوه، بذريعة أنهم "سيعلمونه كيف يربيه".
وفي توقيت الواقعة حسبما يشرح تقرير لـ"المركز السوري للإعلام وحرية التعبير" كان مازن يشغل منصب المستشار التربوي الأول في المدرسة الفرنسية بدمشق.
ويضيف المركز، الذي يدفع بالقضية منذ سنوات إلى جانب منظمات حقوقية سورية أخرى، أن الأب اقتيد آنذاك إلى "سجن المزة العسكري"، ومنذ ذلك الحين اعتبر مع ابنه باتريك في عداد المختفين قسريا.
ولم يسبق لمازن دباغ ونجله الاشتراك في أية تحركات معارضة لنظام بشار الأسد، لا قبل انتفاضة مارس 2011 الشعبية ولا بعدها، وبعد غياب أي خبر عنهما منذ لحظة اعتقالهما تم تأكيد وفاتهما، وفق وثيقة رسمية حصلت عليها العائلة، في 2018، دون تحديد أسباب أو مكان الوفاة.
تفاصيل الحكم المرتقب
والمحاكمة التي بدأت أولى جلساتها صباح الثلاثاء هي الأولى من نوعها حسب "المركز السوري للإعلام وحرية التعبير"، وحقوقيون سوريون، بينهم المحامي والقانوني، أنور البني.
ويوضح البني لموقع "الحرة" أنها تستمر أربعة أيام، على أن يصدر الحكم النهائي يوم الجمعة المقبل الموافق لـ24 من مايو الحالي.
ستكون المحاكمة مفتوحة للعموم مع ترجمة فورية إلى اللغة العربية، على مدى الأيام الأربعة المقبلة، ويحضرها شهود، بينهم البني وآخرين.
ويعتبرها الحقوقي السوري "مهمة جدا" لأنها تفتح المجال أمام الضحايا والشهود، لكي يفضحوا كل ممارسات النظام في المعتقلات.
كما أن إدانة المحكمة القطعية للرجالات الأمنيين الثلاثة بارتكابهم جرائم حرب وضد الإنسانية تشكل "إدانة لنظام الأسد ككل ورئيسه كونه يعطي الأوامر العليا من أعلى هرم السلطة"، وفق البني.
وتعرّف جرائم الحرب، بحسب "اتفاقيات جنيف" بأنها تلك التي تنتهك قوانين الحرب، وتشمل استهداف المدنيين والتعذيب وقتل أسرى الحرب أو إساءة معاملتهم.
أما الجرائم ضد الإنسانية فهي عبارة عن جرائم تُرتكب كجزء من هجوم واسع النطاق أو منظم ضد المدنيين في أوقات السلم أو الحرب، وتشمل الاختفاء القسري والقتل والاسترقاق (العبودية) والترحيل أو النقل القسري للسكان وعمليات الاغتصاب الجماعي الممنهجة.
ومنذ 10 سنوات كان للحالة السورية نصيب كبير من هذين النوعين.
ويرى المختص بالقانون الجنائي الدولي، المعتصم الكيلاني أن المحاكمة التي بدأت ضد مملوك وحسن ومحمود تكتسب أهمية، كونها "تشكل جزءا أساسيا من البذل المعمول به للوصول إلى العدالة السورية المرتقبة".
وعلى الرغم من أنها "غيابية" بينما يقيم الأشخاص المستهدفون في سوريا يقول لموقع "الحرة" إنها "مهمة كموقف قانوني، كونها تلاحق 3 رموز أمنية تابعة لنظام بشار الأسد".
بالإضافة إلى ذلك فإنها "تؤكد للمجتمع الدولي أنه لا يوجد تطبيع مع نظام يرتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وأنه بدلا من تأهيله يجب محاكمته".
ماذا بعد صدور الحكم؟
وعلى مدى السنوات الماضية جرت عدة محاكمات للسوريين في هولندا وألمانيا والسويد، لكن هذه هي المرة الأولى التي تتم فيها محاسبة شخصيات رفيعة المستوى قريبة من الأسد.
ويُحاكم طبيب سوري (علاء موسى) يشتبه بارتكابه جرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك تعذيب السجناء داخل المستشفيات العسكرية في سوريا، أمام محكمة فرانكفورت، وهي أحدث قضية في البلاد بسبب مزاعم التعذيب المرتبطة بالنظام السوري.
وفي أغسطس 2023 عادت الفضائح المرتبطة بالفرع الأمني "227" التابع لنظام الأسد إلى الواجهة من جديد، مع إعلان ألمانيا إلقاء القبض على مواطن سوري، الخميس، "للاشتباه القوي بارتكابه جرائم حرب وضد الإنسانية في سوريا"، في الفترة الممتدة بين عامي 2012 و2015.
وقال كليمانس بيكتارت، المحامي الفرنسي الذي يمثل عائلة الدباغ: "إنه أمر تاريخي لأن هؤلاء هم كبار ضباط النظام السوري الذين تتم محاكمتهم".
وأضاف وفق صحيفة "الغارديان" البريطانية: "إنه أمر مهم ليس فقط لعائلة الدباغ، بل للعديد من السوريين الآخرين. وهناك عائلات من الأشخاص الذين اختفوا لا زالوا ينتظرون أخبارا عن أحبائهم أو جثث القتلى".
ويُعتقد أن أكثر من 15 ألف سوري تعرضوا للتعذيب حتى الموت على أيدي مسؤولي مخابرات نظام الأسد، وتشير التقارير إلى مقتل أكثر من 230 ألف مدني، من بينهم 30 ألف طفل، وفقا لـ"الشبكة السورية لحقوق الإنسان".
ويوضح المحامي السوري البني أن "المحكمة ستوفر مساحة كبيرة لقطع أي محاولات لإعادة تأهيل المجرمين وجعلهم في جزء من أي تسوية سياسية أو مستقبل سوريا أو المرحلة الانتقالية".
ويقول إن الحكم النهائي سيخرج بالتأكيد في الأيام المقبلة، و"إن كان غيابيا لن يؤثر ذلك على قوته وصلاحية تنفيذه، لأنه سيتعمم على الإنتربول، وبالتالي سيكون مملوك وحسن ومحمود مطلوبين لكل العالم".
ويعتقد القانوني السوري المعتصم الكيلاني أن الحكم المرتقب والمحاكمة بحد ذاتها "يبنى عليها الكثير".
ويعتقد أن يكون الحكم النهائي 20 عاما وبشكل غيابي لكل رجل أمني مستهدف.
"نظرة نقدية"
وكان قضاة التحقيق الجنائي في فرنسا أصدروا في وقت سابق مذكرة توقيف بحق بشار الأسد وشقيقه ماهر الأسد، القائد الفعلي للفرقة الرابعة في الجيش السوري. كما صدرت مذكرات توقيف بحق العميد غسان عباس، مدير الفرع 450 من مركز الدراسات والبحوث العلمية السورية، والعميد بسام الحسن، مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الاستراتيجية وضابط الاتصال بين القصر الرئاسي ومركز البحوث العلمية السورية. وأتى الإجراء القضائي عقب تحقيق جنائي أجرته الوحدة المتخصصة في الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب التابعة للمحكمة القضائية في باريس.
لكن مكتب المدعي العام الوطني لمكافحة الإرهاب في فرنسا طلب في منتصف يناير 2024 من محكمة الاستئناف البتّ في صلاحية مذكرة الاعتقال بحق الأسد، وهو ما أثار حفيظة حقوقيين.
واستند طلبه بكون إصدار مذكرة توقيف بحق رئيس دولة على رأس عمله "يشكل استثناءً" يجب البت فيه من خلال محكمة أعلى قبل إجراء أي محاكمة، نظرا للحصانة التي يملكها الرئيس ورئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية، وهم في مناصبهم في "دولة ذات سيادة".
وينظر علي الجاسم، وهو باحث مختص في الجماعات شبه العسكرية إلى المحاكمات التي تجري في أوروبا تحت مسمى "الولاية القضائية" بمسارين، الأول نقدي والثاني يصب في إطار ما يعبّر عنه الحقوقيون.
ويقول من وجهة نظر نقدية لموقع "الحرة" إن ما يحصل "عدالة انتقائية"، لاسيما أن المحاكمات التي نراها إما أن تكون بدافع قضية شخص مزدوج الجنسية أو معروف على نطاق واسع.
ومع ذلك يضيف في المقابل أن مسار المحاكمات القائم "يشكل خطوة ردعية على طريق تحقيق العدالة، لكنها لا تشمل الصورة العامة".
وكانت فرنسا قد أنشأت وحدة خاصة بجرائم الحرب في عام 2012، ولكن حتى الآن ظل مبدأ العدالة العالمية مقيدا باشتراط أن يكون للمتهم أو الضحية صلة ملموسة بفرنسا، من خلال الجنسية أو الإقامة.
وخلال التحقيق الفرنسي الذي أدى إلى توجيه الاتهامات ضد الرجال الثلاثة في قضية الدباغ، وصف أكثر من 20 سوريا، معظمهم من الناجين من سجن "المزة العسكري"، الظروف فيه، بالإضافة إلى تفاصيل التسلسل القيادي في أجهزة المخابرات، وقت اعتقال الأب والابن.