.
يرى العديد من المحللين للنزاع في منطقة الشرق الأوسط، بأن الهجوم الإسرائيلي على سفارة إيران في سوريا، يضع الجمهورية الإسلامية في معضلة حقيقية تتعلق بكيفية ردها على هذا الهجوم دون الانجرار إلى صراع مفتوح لا تريده مع الدولة العبرية.
فقد توعد المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي الثلاثاء "بمعاقبة" إسرائيل ردا على قصف قنصلية بلاده في دمشق الإثنين ما أدى لمقتل 13 شخصا بينهم سبعة من الحرس الثوري، يتقدمهم الجنرالان محمد رضا زاهدي (63 عاما) ومحمد هادي حاجي رحيمي. كما تعهد الرئيس إبراهيم رئيسي بالرد على الهجوم مؤكدا أن "هذه الجريمة البشعة لن تمر من دون رد".
وحملت إيران "النظام الصهيوني" المسؤولية عن الضربة الدامية التي تعتبر أول هجوم يستهدف مبنى دبلوماسيا إيرانيا في سوريا. لكن إسرائيل لم تتطرق إلى هذه التطورات على المستوى الرسمي، كما أنها لم تعلن أية مسؤولية عنها. ولا تتحدث الدولة العبرية عادة عن الهجمات التي تشنها في سوريا.
وردا على سؤال حول الهجوم، قال متحدث باسم الجيش الإسرائيلي: "نحن لا نعلق على تقارير في وسائل الإعلام الأجنبية"، وفق ما نقلت رويترز، مشيرة إلى أن صحيفة نيويورك تايمز نقلت عن أربعة مسؤولين إسرائيليين لم تذكر أسماءهم اعترافات بأن إسرائيل نفذت الهجوم.
"أهم مسؤول إيراني يُقتل منذ بدء الحرب"
وقالت نيويورك تايمز إن المسؤولين الإيرانيين الذين قُتلوا الإثنين كانوا "منخرطين بعمق لعقود من الزمن في تسليح وتوجيه قوات بالوكالة [تحارب لصالح طهران] في غزة ولبنان وسوريا والعراق واليمن كجزء من جهود إيران المعلنة بوضوح لزعزعة استقرار الدولة العبرية وحتى تدميرها".
ومن بين الضباط الذين قتلوا إلى جانب زاهدي، الجنرال حسين أمين اللهي والجنرال محمد هادي حاج رحيمي وهو نائب زاهدي. وكان الرجلان أيضا من قدامى المحاربين في الحروب في الشرق الأوسط. كما قُتل أربعة ضباط آخرون من فيلق القدس، وفق نفس الصحيفة الأمريكية.
ويُستهدف مسؤولون إيرانيون في سوريا منذ بدء الحرب في هذا البلد عام 2011، ومن هؤلاء الجنرال رضي موسوي القيادي البارز في فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني الذي قُتل في يناير/كانون الثاني في ضربة قرب دمشق. كما نفذت إسرائيل مئات الضربات على مواقع للحكومة السورية والجماعات الموالية لإيران وأهداف عسكرية إيرانية.
وتكثفت الضربات في خضم الحرب المستمرة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول بين حركة حماس وإسرائيل في غزة.
ويعد زاهدي "أهم مسؤول إيراني يُقتل منذ بدء الحرب" وفق ما أشار أهرون بريغمان عالم سياسي متخصص في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بجامعة كينغز كوليدج في لندن لفرانس24.
من جانبه، أوضح لنا شاهين مدرس المتخصص في الشأن الإيراني بالفريق الدولي لدراسة الأمن (ITSS) فيرونا: "بالنسبة لإيران، فهي خسارة مماثلة لخسارة قاسم سليماني، القائد العام السابق لفيلق القدس، الذي قتل بطائرة أمريكية بدون طيار عام 2020".
هجوم دمشق.. رسالة إسرائيلية؟
تم تنفيذ الهجوم الإسرائيلي حسب طهران بواسطة "ستة صواريخ أطلقتها مقاتلات إف-35". وهو ما يعزز المخاوف من أن تأخذ الحرب في غزة منحى إقليميا، أو أن تشعل مواجهة مباشرة بين العدوين اللدودين.
ويرى بريغمان أن رسالة الإسرائيليين من خلال استهدافهم لأبرز أعضاء الحرس الثوري، هي أن "تفهم طهران أنهم يعتبرون إيران مسؤولة أيضا عما يحدث في غزة وعلى حدود لبنان". وهذه إشارة مباشرة على أن الدولة العبرية "لن تسعى فقط إلى ضرب المجموعات التابعة لإيران". ما يعني أن تل أبيب تقول إنها مستعدة لتصعيد حدة الصراع الإقليمي مع إيران.
يوضح فيليبو ديونيجي المتخصص في الحركات الإسلامية والشرق الأوسط بجامعة بريستول في إنكلترا لفرانس24: "هذا تصعيد غير مسبوق للتوترات منذ بداية الحرب ضد حماس".
من جانبه، يرى كلايف جونز متخصص في إسرائيل والشرق الأوسط بجامعة دورهام بأن الضربة في دمشق مرتبطة بشكل خاص بالاستراتيجية الإسرائيلية في إدارة المواجهة على الحدود مع لبنان. وهو يقول في هذا الصدد: "معظم الإسرائيليين يعتقدون بأنه من الضروري القيام بشيء ما ضد حزب الله لتأمين عودة حوالي 100 ألف إسرائيلي اضطروا لمغادرة المنطقة القريبة من الحدود اللبنانية منذ بداية الحرب في غزة. ترفع إسرائيل تدريجيا من حدة الضغط على حزب الله. والعملية الأخيرة هي بمثابة استفزاز جديد لجس النبض حيال رد فعل الحركة الشيعية".
يرى كلايف جونز أيضا بأن الرسالة الإسرائيلية ليست موجهة فقط لأعدائها، بل أيضا هي "طريقة لمخاطبة الولايات المتحدة. فمنذ يناير/كانون الثاني، سعت واشنطن وطهران إلى تخفيف التوترات، ومن خلال هجوم دمشق، تُفهم تل أبيب حليفتها الأمريكية بأنه ليس مسموحا أن تعاق حريتها في التحرك. أعتقد أن هذه الحادثة ستجعل العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة أكثر توترا بكثير". إذ إن اغتيال محمد رضا زاهدي قد يتسبب فيما تخشاه الولايات المتحدة تحديدا، وهو الرد الإيراني.
ما طبيعة الرد الإيراني المحتمل؟
يقول فيليبو ديونيجي إن "القنصليات تعتبر بمثابة امتداد للأراضي الوطنية، لذا ففي نظر القانون الدولي، فإن الضربة الصاروخية التي شنتها إسرائيل في هذه الحالة قد استهدفت الأراضي الإيرانية". في هذا الإطار، فإن طهران تتهم إسرائيل باستهداف قنصليتها في سوريا. ومن ثم، فإن النقطة الوحيدة التي علق عليها الجيش الإسرائيلي تتعلق بموقع الضربة، وهي حسبه مبنى عسكري وليس مقرا لتمثيل دبلوماسي. لذا، فإن الفارق كبير ومهم جدا بين الحالتين.
في هذا السياق، قال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي الأدميرال دانييل هاغاري لشبكة سي إن إن: "وفقا لمعلومات استخباراتنا، هذه ليست قنصلية وهذه ليست سفارة.. هذا مبنى عسكري لقوات القدس في دمشق".
على الرغم من ذلك، يرى فيليبو ديونيجي بأن "الرهان الإسرائيلي كان خطيرا للغاية، إذ يمكن لهذه العملية أن تؤدي إلى إشعال فتيل المواجهة". وتعول إسرائيل على فكرة أن إيران غير قادرة على الرد بنفس مستوى الإهانة التي لحقت بها دون إشعال حرب إقليمية تسعى طهران أصلا إلى تفاديها. وهذا التحليل يقوم أساسا على حقيقة أنه وإثر مقتل قاسم سليماني في 2020 "وعدت إيران بالانتقام من الولايات المتحدة وإسرائيل [المتهمة بتقديم المساعدة]، لكن أي رد حقيقي لم يقع أبدا" وفق ما يرى شاهين مدرس.
في المقابل، يلحظ أهرون بريغمان أنه وفي ظل الحرب الدائرة في غزة "سينبغي على طهران أن ترد". من الممكن أن يتضمن ذلك تكثيف الهجمات ضد إسرائيل من قبل حزب الله أو الحوثيين في اليمن، لكن بالنسبة لكافة الخبراء الذين حاورتهم فرانس24، فإن السيناريو الأكثر ترجيحا هو عملية ضد المصالح الإسرائيلية في الخارج، مثل السفارات.
"إيران تخشى صراعا مفتوحا مع إسرائيل"
بدوره، قال ميشيل دوكلو، السفير الفرنسي السابق في سوريا والمستشار الخاص في معهد مونتين للأبحاث، في حوار خاص مع فرانس24 إن الإسرائيليين يخاطرون كثيرا في مواجهتهم مع إيران وكأنهم "يختبرون إلى أي مدى يمكن أن يصلوا. أو كأنهم يبحثون عن تصعيد مع إيران".
وبالنسبة إلى الدبلوماسي الفرنسي السابق فإن "إيران حاليا ضعيفة جدا. يبدو أنها تخشى صراعا مفتوحا مع إسرائيل". كما قال دوكلو إن الرد الإيراني على هجوم دمشق سيكون ذا "طابع رمزي" مثل استهداف الممثليات الدبلوماسية الإسرائيلية في العالم. لكن محاورنا يلحظ خصوصا أنه وعلى الرغم من كل شيء "لا يمكن لأحد أن يكون متأكدا" تماما من طبيعة الرد الإيراني المحتمل.
لكن مصدرا يتابع القضية عن كثب قال لوكالة رويترز، إن عدم رد الإيرانيين اليوم سيكون "حقا علامة على أن ردعهم نمر من ورق"، متوقعا هو الآخر بأن الجمهورية الإسلامية قد تهاجم سفارات إسرائيل أو منشآت يهودية بالخارج.
أولوية النووي الإيراني وتصعيد "الحرب بالوكالة"
يرى زياد ماجد أستاذ دراسات الشرق الأوسط بالجامعة الأمريكية في باريس، بأن الرسالة الإسرائيلية من خلال عملية دمشق الأخيرة تتخطى الهدف العسكري بالمعنى الدقيق للكلمة. بل هي وفقا له "رسالة من حكومة نتانياهو مفادها أن الحرب مع حزب الله، وبشكل غير مباشر مع إيران، لم يعد من الممكن استبعادها".
كما يوضح ماجد بأن هذه الحرب قد "تخدم اليمين المتطرف الإسرائيلي لإطالة أمد هذا الوضع الكارثي بالمنطقة، كما أنها تصرف الانتباه عن الإبادة الجماعية الجارية في غزة، خصوصا بعد مجازر مستشفى الشفاء وتزايد الضغوط على إسرائيل".
كما يرى ماجد بأن إيران تتفادى في الوقت الراهن كما يفعل حزب الله أيضا اللجوء إلى أي ردود انتقامية على الضربات الإسرائيلية الموجعة لهما. وهو يشرح في حوار مع قناة فرانس أنفو: "يفضل الإيرانيون إبقاء هذه الحرب متوسطة الشدة بدلا من التوجه نحو حرب شاملة لعدة أسباب. إذ إنهم يعلمون أن الوضع في لبنان لا يسمح بالحرب وهو وضع اقتصادي وسياسي كارثي على اللبنانيين. ويعلمون أن حليفهم حزب الله يأخذ هذا الوضع بعين الاعتبار. في نفس الوقت، لا يزال الإيرانيون يركزون على القضية النووية كأولوية. ومن ثمة، فهم يفضلون الحل الذي يسمح فيه الأمريكيون برفع العقوبات، وحل هذه القضية برمتها دون الدخول في مواجهة شاملة".
من جهة أخرى، قال تريتا بارسي نائب الرئيس التنفيذي لمعهد كوينسي للحكم المسؤول في تصريحات لشبكة سي إن إن، بأن الضربة الإسرائيلية في دمشق ستؤدي إلى تفاقم الهجمات ضد القوات الأمريكية من قبل الميليشيات الموالية لإيران في العراق وسوريا.
ولفت بارسي هو الآخر إلى شن "وكلاء إيران" في المنطقة عدة هجمات على إسرائيل وحلفاءها منذ اندلاع الحرب في غزة. وهو يستشهد هنا بعشرات الهجمات التي شنتها جماعات مدعومة من إيران في العراق وسوريا على مواقع عسكرية أمريكية.
ففي يناير/كانون الثاني الماضي، قُتل ثلاثة جنود أمريكيين في هجوم بطائرة مسيرة على موقع أمريكي في الأردن، قرب الحدود السورية. بالتزامن، واصل الحوثيون هجماتهم على السفن التجارية والسفن العسكرية الغربية بالبحر الأحمر.
وفيما كانت تلك الهجمات قد جاءت حسب تلك الجماعات ردا على الحرب الإسرائيلية على حماس في غزة، فإن موقف حزب الله من عملية دمشق يوحي بأن الرد الإيراني المحتمل قد يأتي من بوابة الجنوب اللبناني.
فقد ندد الحزب بالغارة الإسرائيلية وقال إن "هذه الجريمة لن تمر دون أن ينال العدو العقاب والانتقام". وأكد الحزب الشيعي المدعوم من إيران في بيان بأن "القائد الكبير الشهيد الغالي محمد رضا زاهدي كان من الداعمين الأوائل والمضحين والمثابرين لسنوات طويلة من أجل تطوير وتقدم عمل المقاومة في لبنان"، وقال إن اغتياله "جريمة لن تمر دون أن ينال العدو العقاب والانتقام"، وفق ما نقلت وكالة الأنباء الفرنسية.