لجأ الشاب مهدي غيلان، أحد عمال المياومة بصنعاء، إلى العمل بالأجر اليومي في حراجات عمال البناء والمهن الحرة، بعد أن ضاقت به السبل عقب تخرجه من المعهد التقني الصناعي بذهبان منذ سنوات، إذ لم يتمكن من إيجاد فرصة عمل مناسبة.
يتحدث غيلان لـ"النقار" عن خبرته المتخصصة في الصيانة الكهربائية منذ كان طالباً، بما فيها صيانة كهرباء السيارات والدراجات النارية والأجهزة الكهربائية بأنواعها.يضيف: "بعد التخرج لم أجد أي فرصة عمل، وتابعت أكثر من جهة عمل وأكثر من شركة ومؤسسة وحتى المحلات، لكنني لم أوفق"، مُرجعاً ذلك إلى أنه لا يملك "واسطة".
ويقول: "الوضع الصعب هو الذي غلبني وجعلني أفقد الأمل، وجلست في البيت لمدة سنة ونصف بعد التخرج، وخلال هذه الفترة كنت أحياناً أتابع من أجل التوظيف هنا وهناك لكن بلا فائدة، إلى أن قررت الخروج إلى الجولة كي أطلب الله، واستفدت من خبرة البعض في البناء والدهان والسباكة إلى جانب الصيانة الكهربائية".
ويتابع العامل غيلان بقوله إنه يواجه أثراً نفسياً صعباً مستمراً حتى الآن لما آل إليه وضعه المعيشي بسبب أنه كان متفوقاً في دراسته يطمح بطموحات وصفها بأنها أكبر منه، وبسبب أن وضع عمال الأجر اليومي لا يختلف عن البطالة. يوضح: "نحن نعمل أسبوعاً أو أسبوعين مثلاً بأجور تغطي احتياجات يومية فقط، ثم ينقطع العمل لشهرين أو أكثر"، في إشارةٍ منه إلى ما تسمى "البطالة الموسمية" التي تعني انخفاض الطلب على الأيدي العاملة خلال مواسم معينة يقل فيها الطلب على عمال البناء، مؤكداً: "نحن أكثر شريحة عمالية مقهورة في البلاد".
ويترجم الواقع "المقهور" نتيجة "نفسية" من نتائج تآكل الاقتصاد وتزايد الهيمنة السلطوية على الموارد المالية وأسواق العمل وفرصه واستغلال النفوذ، مما عمَّق أزمة البطالة في أوساط المواطنين اليمنيين بمن فيهم الشباب، للحد الذي ترك آثاراً نفسية جسيمة على هؤلاء، وباتت تلك الآثار بمثابة ندوب غائرة في قلب المجتمع.
وتتصاعد معدلات البطالة في بلد الحرب المنهِكة مع فقدان الكثير من الأسر اليمنية مصادر دخلها الأساسي، وتُراكم البطالة آثارها على الاقتصاد والمجتمع والأفراد، خاصةخريجي الجامعات والمعاهد حديثاً، في حين تصبح فرص العمل أكثر صعوبة وندرة، ما يدفع إلى تزايد معدلات الفقر وحالات التشرد، ويفاقم المشكلات الاجتماعية والأسرية.
وفي بيانات تعود إلى أوائل العام 2015، يشير الاتحاد العام لنقابات عمال اليمن إلى أن نسبة البطالة في اليمن تجاوزت 56%، مثَّل الشباب فيها 37%.
أما في الوقت الراهن فلا تتوفر أي بيانات من سلطة أنصار الله بصنعاء، لكن وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل بحكومة عدن تقول في أحدث تصريحاتها إن نسبة البطالة ارتفعت بما يزيد عن 70% بين أوساط الشباب، فضلاً عن أن عشرات الآلاف من خريجي الجامعات والمعاهد وكليات المجتمع لم يتحصلوا على درجات وظيفية في الجهاز الإداري الحكومي منذ أكثر من 13 عاماً.
وفي مشاهد عديدة تتجلى أزمة بطالة الشباب الخريجين، مثل الوقوف في طوابير على باب مكتب الخدمة المدنية لفترات طويلة تمتد إلى سنوات ورمي ملفات المواطنين المنسية في أدراج المكتب، دون الحصول على الوظائفوالدرجات الوظيفية المستحقة.
وخسر الكثير من العمال والموظفين أعمالهم ووظائفهم، حكوميةً وخاصة، مع انقطاع المرتبات منذ قرابة ثماني سنوات بمناطق سلطة أنصار الله، وهو ما أوقع البعض في فخ البطالة الحتمية، ودفع البعض الآخر إلى البحث عن مصادر دخل بديلة من أعمال أخرى.
"يفقدون العمل".. أزمات نفسية تعبر عنالواقع
في العاصمة صنعاء يواجه الشباب المقبل على الحياة صدمات البطالة التي تغذي آثاراً نفسية بالغة السوء، كحالات القلق والاكتئاب والعزلة والانطواء، وفقدان الثقة في النفس، والدخول في حالة فراغ قد ينجم عنه سلوكيات انحراف ومشكلات اجتماعية وحالات تفكك أسري، وقد يصل الأمر إلى حد فقدان الرغبة في الحياة.
ذلك ما ناقشته الأخصائية النفسية والاجتماعية أمل الشميري مع محرر "النقار"، حيث تقول إن الآثار النفسية على الشباب جراء البطالة تعد آثاراً خطيرة لا يُستبعد عنها "الانتحار"، مؤكدةً أن شابات حاولن الانتحار بسبب استغناء أصحاب العمل عنهن قسرياً مما أدخلهن في حالة "بطالة إجبارية" أفقدتهن مصدر الدخل لهن ولأسرهن.
والبطالة الإجبارية، أو القسرية، تشير إلى أزمة تعطل عن العمل ناجمة عن إجبار العاملين على ترك العمل لأسباب مختلفة كالإفلاس أو إغلاق مكان العمل أو الاستغناء عن بعض العاملين بغير إرادتهم.
في هذا السياق يُذكر أن سلطة أنصار الله تقوم بإغلاق مكاتب شركات ومحلات تجارية بعينها عبر الحملات الميدانية، بحجة رفع الأسعار ومخالفة القوائم السعرية المقرَّة من وزارة الصناعة والتجارة، مما يهدد العاملين فيالشركات والمحلات المستهدفة بالتعطل عن العمل وفقدان مصدر الدخل.
وتوضح الشميري أن البطالة والدخول في حالة فراغ "تغذي لدى العاطل شعوراً ناقماً على المجتمع المحيط، وقد يؤثر ذلك حتى على تعامله مع زوجته وأسرته، ومثل هذه الحالات نعرفها ونشاهدها، فهناك من يطلق زوجته بعد أن تحولت طباعه إلى غريبة وصدامية، وهناك من يحاول الهرب من المسؤولية فلا يطيق الاحتكاك بأسرته وأبنائه، وهناك من تدفعه البطالة إلى التعامل بالعنف مع أفراد أسرته، وكل هذه صور معبرة عن مأساة الناس في الواقع".
وتؤكد الأخصائية النفسية أن "أشخاصاً فقدوا العمل دخلوا في حالات نفسية واكتئاب واضطروا لحضور جلسات نفسية"، مشيرةً إلى "شخص توفيت زوجته بالسرطان ولم يتمكن من علاجها، وانتهى به الأمر إلى حالة حزن واكتئاب، وهو الآن يعيش في عالم آخر وقد ترك أولاده للزمن".
تضيف: "يعود سبب المشكلة في المقدمة إلى صعوبة أوضاعنا المعيشية، وعدم احتواء الجهات المعنية لهذه الأزمة وعدم وضع حلول لتنمية سوق العمل ورصد القدرات والكفاءات، وإلغاء ظاهرة التوظيف بالوسائط وبالبركة" على حد قولها.
مشاريع صغيرة طموحة.. ولكن!
بسبب جائحة البطالة يسعى البعض من الشباب إلى تنفيذ مشاريع صغيرة خاصة بهم على سبيل الكفاح من أجل توفير الدخل لهم ولأسرهم والاستقلال المالي والمهني، وهي المشاريع التي يعمل فيها أكثر من 50% من العمالة في مناطق سلطة أنصار الله وفق بيانات صادرة عنها.
ويميل الكثير من الشباب والشابات إلى مجالات المشاريع الصغيرة، سواء التجارية أو الخدمية أو الزراعية وغيرها، بعد قطع مشوار توفير التمويل الخاص بالمشروع، وتمثل منصات التواصل الاجتماعي لهم متنفساً للترويج لمنتجاتهم وأعمالهم في نطاق ما بات يعرف بالتسويق الإلكتروني.
لكن سلطة أنصار الله لم تتح مجالاً كافياً لعمل الشباب على مشاريعهم الخاصة، إذ تعمد السلطة إلى فرض الإتاوات وإنزال حملات ميدانية لتحصيل رسوم مختلفة خارج إطار القانون، وفرض ضمانات معقدة، وكذا تعقيد الإجراءات الرسمية وتكاليف استصدار الوثائق الخاصة بالمشاريع، وتعدد الجهات التي يلزم أخذ التراخيص منها والتي تصل إلى أكثر من عشر جهات، ودفع أموال إضافية لتسهيل المعاملات الروتينية، مما يؤدي لعزوف معظم أصحاب المشاريع عن تسجيل مشاريعهم رسمياً.
رغم ذلك يتمسك البعض بمشاريعهم دون يأس خاصة إذا كانت هذه المشاريع مصدر الدخل الوحيد الذي تستند عليه الأسرة، إلا أن آخرين نتيجة للمضايقات والتكاليف والنفقات الطائلة التي يتكبدونها، ينتهي المطاف بهم إلى إغلاق المشروع والعودة إلى نقطة الصفر.