• الساعة الآن 10:29 PM
  • 17℃ صنعاء, اليمن
  • -18℃ صنعاء, اليمن

مشاهد الحياة في صنعاء

news-details

خاص| النقار

توطئة:

اهتمامات الناس وأحاديثهم ونقاشاتهم في صنعاء لا تكاد تتجاوز الحصول على كيس دقيق ودبة غاز ومتصدق يأتي من هذا الطريق أو ذاك الإتجاه، تحول الناس الى متسولون وعاجزون في معظم نواحي المدينة، استمرؤوا الشحاتة وتقبل الصدقات كأمر واقع، لا تتعجبوا منهم، هذا الأمر في كل أرجاء الحياة، في الماضي كان الناس يفكرون في الحياة وتجاذباتها ويتناقشون على المستجدات المتلاحقة، ويتنافسون على تعليم أبناءهم وبناتهم وخدماتهم المعيشية المتواجدة، أما اليوم فذكرياتنا بائسة حين نروي لأنفسنا ما يجري بواقعنا وعالمنا، هل تصدقون أن أحد الأشخاص يقدم المال للفقراء في الشوارع بشرط أن يصرخوا أمامه بصوتهم المدوي، لهذا يصرخون لأجله ويصرخون ويصرخون، ليشعر بعدها بنشوة الإنتصار! ماذا أيضًا؟ هذا ما سأحكيه لكم هنا بعدة مشاهد واقعية من حياتنا اليمنية..

مشهد أول:

نهار اليوم مع أحد الأصدقاء، أوقفنا سيارتنا في ميدان السبعين بصنعاء، وجلسنا فيها لنتحدث ببعض المواضيع، وخلال أقل من ساعة فقط جاءت إلينا أكثر من خمسة عشر إمرأة يطلبن المساعدة ويشرحن أوضاعهن المادية الصعبة، فتيات بعمر الزهور، عجائز كبيرات، أمهات ونساء مع أطفال صغار، بائعات متجولات، وغيرهن، بحالة من الإرهاق والتعب والفقر الشديد، يمنيات أصيلات خرجن من بيوتهن للبحث عن الصدقات بعد أن عجز رجالهن.

لم تكن تمر لحظات حتى تغادر إحداهن وتأتي أخرى، بعضهن يحملن في أيديهن بعض المستلزمات لعرضها للبيع، يبررن وقوفهن المتكرر في الشوارع الرئيسية، وأخريات يحملن أوراق العلاجات، وفتيات بعمر العشرين يطلبن الصدقة بنوع من الخجل والحياء وعدم التعود، في منظر يقتل القلب ويدمي العقول.. ربنا يعين هذا الشعب المدفون بين الأنقاض، بعد أن زلزلته الأوضاع وأجوعته وقتلته الف مرة ومرة بين ركامها وبقايا فتاتها.

مشهد ثاني:

في جولة ريماس بصنعاء، رجل كبير في السن، يسابق الأطفال لمسح زجاج السيارات بينما ينتظر أصحابها المرور، رجل بهي الطلعة، بلحية بيضاء وملامح مكسورة، اقترب منا، وقام بمسح زجاج السيارة، برأس منحني، ومشاعر مكبوتة، انتهى واقترب نحو النافذة، شكرته واعطيته اجرته، ثم تمنيت له العون في حياته، وتجرأت قليلًا للحديث معه بينما ينظر إليّ، قلت له: ربنا يعينك يا حاج، الدنيا تشتي لها صبر، وتشتي لها كفاح، ربنا يعينك ويقويك. تنهد الرجل قليلًا وقال: أح بس ي ولدي، من كان يتصور أن يكون أبو صالح ممسح سيارات ومطلب صدقات، من كان يتخيل هذا يوقع بي، الله ما أقسى الحياة عليا وعلى بناتي، والله يا ولدي اننا كنت مستور وعايش بدون أيّ حاجة، ولكن الوضع تغير علينا، وجار الزمن على حياتنا، معي بنات، ومعاهن عيال، ومابه حد غيري يعولهن، وأنا بدون راتب، وبدون عيال يشتغلوا، أنا مقطوع من شجرة مع بناتي، كنت موظف في زماني، وكان معي مرتب تقاعد يكفيني ويكفي حياتي، ولكن أنت داري كيف قد وقع بنا، لا عاد رواتب، ولا عاد مصادر دخل، على الله يا ولدي على الله بس.

غادر الرجل، وبقيت أتسائل في داخلي عنه، ترى ماذا واجهه هذا الرجل الكبير خلال سنواته الأخيرة ليصبح وجهه قطعة من الهم والخوف؟! لا أحد بإمكانه الإجابة، ولا كلمات تجيد البوح بمكنوناته عن الزمان الشاق الذي يحويه.. كان يتحدث بغصة، ويسابق الأطفال بين السيارة بحرقة، وعلى كتفه خرقة متسخة للمسح والتلميع، كأنه يتمنى الرحيل، ولا يبالي بالأخرين، هكذا خُيل لي من ملامحه، فالبداية قاسية، والزمان شاق، والأخرة ملاذ وحيد لنجاته من ويل الشقاء الطويل!

مشهد ثالث:

في جولة الرويشان بصنعاء، سألت فتاة صغيرة، تُلح عليّ أن أشتري منها باكت فاين، سألتها; ليش متجلسي بالبيت وأبوكي يشقى عليش، أين هو أبوكي، وأين هي أمك؟! قالت أبي يشتي يشتغل بس والله ما يقدر، هو يوصلنا لاهانا ويجلس يوبه لنا من بعيد، وامي ماتت، واحنا ثلاث خوات بنات نبيع أي حاجة من عصر للمغرب ونروح مع أبونا، هكذا يومية لمن يعيننا الله ويعن ابي لانو مريض وتاعب. الحاحها لم يكن مزعجًا، لقد كانت غصة حملتها في قلبي ثم غادرت.

مشهد رابع:

كأنما أرسلها القدر لتحكي لنا حكايتها ومعاناتها، إمرأة أربعينية يكسوها الإنهاك والتعب والإجهاد، هكذا في شكلها وملامحها، إمرأة بسيطة وعفيفة ومحترمة، لكنها مسكينة وضعيفة وعاجزة، صعدت الباص بعد أن طلبت من السائق أن يحملها معه مجانًا، جلست بجوار إمرأة أخرى بالخلف مني، كانت تتنهد من تعبها وأوجاعها، قليلًا قليلًا حتى قالت لها المرأة بجوارها: الله يعينش ي اختي شكلش تاعبة، التفت إليها وهي تقول: والله ان قد ركبي وارجلي عيتكسرين، قدنا تاعبة قوي، من عيرحمنا من؟! قد روحي عتموت من الجوع والتعب والعطش، والله العظيم أننا أمشي من الصبح على أرجلي من شيراتون الى الجامعة الجديدة، والى الجامعة القديمة، لما وصلت كنتاكي ومعد قدرت أواصل، من الصبح للأن سبع ساعات وانا أمشي، وذلحين أشتي أروح الى بيتي بحزيز ولا معي ريال، قاطعتها المرأة التي بجوارها: أووه الله يعينش، بس ليش هذا كله؟! أجابتها: أنا أمشي أدور لي عمل، والله ما لقيت أيّ عمل، لي شهرين أدور، من عمارة الى عمارة، ومن مكتب الى مكتب، ومن بيت الى بيت، ومن بقعة الى بقعة، أشتي أشتغل أي حاجة.. أنا كنت أشتغل قبل شهرين بمائة وخمسين الف، وخرجوني من عملي بسبب الإختلاط، قالوا ممنوع الإختلاط، خرجوني من عملي ودمروا حياتي ورزق عيالي لأن الإختلاط حرام، هكذا قالوا، أح أح: الله يرحمنا بس، أما الموت من الجوع فحلال قوي!

أخذت المرأة الأخرى علبة ماء كانت في يدها، وأخرجت حبتين موز من كيسها وأعطتهما للمرأة بجوارها، أخذتهم المرأة وشربت الماء ثم أكلت الموز، وتشكرتها من قلبها، بعدها قالت: تصدقي بالله أن معي عيال وبنات في الييت بحزيز بدون صبوح وبدون غداء، وواحدة من بناتي مريضة، عندها مرض مزمن، ثم رفعت صوتها مع الأسى والدموع لتقول: الله يكتب لبنتي مافيه الخير، إما الشفاء وأما الموت والراحة، والله ماحنا قادرين نفعل لها شيء، قالت كلماتها بحزن عميق، عن أم مكلومة وموجوعة أنهكها الزمان والمكان، لتضيف في سياق حديثها قائلة: قبل أيام صدمني متر وأنا ماشية بالشارع أدور عمل، صدمني وهرب، وخلاني مطروحة بالشارع، ذلحين يدي اليمنى توجعني واصل ولا أقدر أفعل بها شيء، شوفيها هاه، ربطتها وبس، هذا اللي أقدر أعمله لها.

كانت تتحدث وتتحدث وتشتكي عن حالها وحالتها، كأنما إنفجرت لقلب أخر كان يفهمها ويشاركها الشعور والأوجاع، كانت تسرد تفاصيلها، وأنا أمامها أجلس بصمت، أستمع إليها وأتخيل حالها وأتساءل بقلبي وخيالي عن حكايتها وقدري، لماذا يالله تسمعني هذه الحكايات الموجعة؟! لماذا يارب تزيد من أوجاعي وأحزاني؟! كأنه القدر يدري أنني لا أقوى على كتمان مثل هذي الحكايات البائسة، هذه الحكاية العابرة، والمرأة العاجزة، واحدة فقط من ملايين الحكايات في هذا الزمان والمكان، أقولها لكم، هي حكاية بلا عنوان أو تفاصيل، بلا محاولات عاطفية أو إستجداءات إنسانية بغرض مساعدةتها، لأنني لا أعرفها، ولا أعرف بقية عناوينها، لكنها واحدة من حكايات العابرين في حياة اليمنيين المرغمين على الضياع، أسمعوها فقط، وتخيلوا بقية الحكايات، عن شعب أرغموه على الفقر والجوع والحصار، بمصطلحات فارغة ومزيفة، كأنه يُعاقب عن بكرة أبيه وأمه، شعب ضعيف، كأنه الضحية الأخيرة والوحيدة، لأطماع السلطة وثرواتها، كأنه البريء المسفوك دمه بلا خلاص أو نجاة أو دولة تنقذه من ويل ماقد أوقعوه فيه!

مشهد خامس:

في مكتب البريد، كان أحد المتقاعدين وكبار السن ينتظر دوره في طابور إستلام أنصاف الرواتب، بينما عقله سارح في التفكير والتذكر والخيال، العيد بعد يومين، وبيتي فارغ من كل شيء، وأبنائي ينتظرون نصف راتبي منذ أسابيع، هو أخر أحلامهم وأرزاقهم، زوجتي تريد متطلبات كعك العيد، طلبت مني البيض والدقيق والزيت، وأبنتي الصغيرة طلبت جعالة العيد وبعض شكاليت ملونة، وأبنتي الكبيرة لا تريد شيء، ولكنها طلبت أن أشتري لنفسي كوت وحذاء جديد، أمممممم ماذا أيضًا؟! نعم نعم، أبني محمد يريد مبلغًا صغيرًا يضعه في جيبه صباح يوم العيد، لقد ترجاني وذكرني كثيرًا، أه آه أيها العيد كم عسانا نتخيلك ثم نعاني منك يوم. 

أقترب الطابور أكثر، يدفعه الرجل الذي خلفه طالبًا منه التقدم، هيا هيا لقد حان دورك، وصل أخيرًا الى نافذة الإستلام، كان يبتسم أمام الموظف التعيس، بينما يعطيه بطاقته وأسمه، أخذ الرجل الكرت وقلبه يمينًا ويسارا، أعلى وأسفل، ثم تأمل التاريخ أكثر، بعدها قال: هذا الكرت انتهى ولا يمكنني أن أصرف لك نصف راتبك به! المعذرة منك.. تمالك الرجل نفسه، وأستوى قليلًا وذهبت عن وجهه ملامح الإبتسامة، ثم أدرك نفسه وقال: عيد، معانا عيد، دبرها أرجوك، لا يمكنني الإنتظار، أجابه الموظف: لا يمكن، المعذرة منك، فلتأتي بعد العيد لتجديد الكرت ولتأخذ نصف راتبك! عندها تغيرت ملامح الرجل وبدأ الخوف يسري في عينيه بينما يقول: لااااا هذا غير ممكن، بيتي بدون مصاريف، عيالي بغير مصاريف، العيد بعد غدًا، ولا أمل لهم في هذه الدنيا سوى هذا النصف القليل من المعاش، لو سمحت، لو سمحت أعطني العشرين الألف، أنقذني وسأعود بعد العيد وأجدد الكرت..

ارتفع صوت موظف البريد وبدأ يطلب من الرجل المغادرة من أمام النافذة، ليتدخل الحاضرون ويطلبون منه ترك المكان، وهكذا دفعوه للتقدم قليلًا، ولكنه لم يتمالك نفسه، إنهار في مكانه وجلس على قدميه يبكي، كانت عيناه تذرف دمعها بحرقة وقهر، وخيال عن البيت والأبناء. ماذا سيقول لهم، جميعهم ينتظرونه بفارغ الصبر، يريدون مصاريفهم وأخر أحلامهم في الحياة، كان يرثي حياته وعياله وحاجاته من مكانه في البريد، لتمر عليه نصف ساعة وهو سارح في خياله، بعدها استجمع قواه ونهض ثم غادر، خرج من البريد مترنحًا بحسراته وهمومه، كان يسير في الشارع وهو يتحدث مع نفسه كالمجانين في أوطان الضياع، بلا أمل، وبلا حياة، وبلا نصف راتب، وبلا مصاريف العيد، نادم يتخبط في الطرقات، يجلس في الممرات، يبكي مع نفسه، يتألم بمفرده، عاجز عن حياته وعياله، ينهض من مكانه، يمضي، لا يجد حلًا أو أملًا، يعود ليجلس، يسأل نفسه مجددًا: لماذا أصبحت حياتنا سوداء؟! لماذا يجتاحني الخوف؟! كيف سأعود الى البيت بلا حاجات العيد؟! زوجتي! بناتي! محمد أبني! كيف سأواجههم بضمير قد أهلكه العجز والوجع؟! أنا لست هكذا، ما بيّ؟! لماذا أصبحت عاجزًا وشائخًا في العمر؟! يا لخسارة أبوتي ورجالتي العاجزة، بئسًا لأوهامي الكاذبة.. العمر إنتهى ويمضي وانا دائمًا خاسر وأبنائي يعانون!

تقترب ساعة الظهر، يزيداد تعب الرجل وعجزه ورجاءاته الخائبة، مازال يتحدث مع نفسه، يتذكر، يهرب، ثم يعود، وينسى، يثم يتساءل مجددًا.. كيف وكيف سيذهب هذا ألألم؟! كيف سيكون مصير الأباء العاجزون أمثالي في هذا الوطن؟! ترى هل هم مثلي الأن؟! لا أدري. حسنًا، أين سأذهب؟! لا أدري حقًا. يا خسارة ثقة العيال بوالدهم! يا خسارة تلك المساءات، يا خسارة كل هذا العمر والحياة! أين ذهبت كل تلك الأحلام والضحكات، كانت كاذبة، لقد خذلت بيتي وزوجتي وعيالي، أنا أسف يا عيالي، أسف جدًا، لا أدري ما يجعلني عاجزًا عن حياتكم، وما يدفعني للخوف منكم، وما يأخذني بعيدًا عنكم، وما يعيدني في كل مرة للبداية. أنا أسف يا عيالي، أسف فقط، لا أملك سواها، حياتي في هذا العالم كارثة على الكثيرين ، لا أعلم ما بداخلي، ما بين ضلوعي القاسية، اليس لي قلب؟! لا أدري، ضميري يؤلمني أكثر. أهرب بكل قساوتي، ماذا فعلت؟! لماذا فعلت؟! كيف فعلت هذا؟! من يدري سوايّ؟! حرام عليّ هذا العمر وذلك الربيع، حرام عليك أيها الأب العاجز عن تلبية مصاريف العيال،. كلمات الحب والفخر والسعادة، أين ستذهب بعد اليوم؟! من التالي؟! لقد أصبح عالم عيالي خريفًا باردًا، الا ترى ذلك؟! يا خسارة أحلامهم الفقيرة.جنة العيد والسعادة ستكون في صباحاتهم سوداء قاتمة، أنا من جعلها كذلك! من يدري حقًا! أين سأذهب الأن من نظراتهم؟! ومن ضميري وقلبي؟! كيف سيكون قلبي وهو يعلم كيف أصبحت قلوبهم؟! هل هذا ضياع؟! وهل هذا يحدث للجميع؟! كيف سنكون بخير؟! لماذا صارت الأعياد خريفًا باردا؟!

يا خسارة كل شيء! أنا أسف يا زوجتي.. أسف الف مرة..أسف كل يوم. لا أملك ما أصنع غير الأسف. أنا أسف الف عام. خائف بعد كل شيء، أقولها بصدق.. خائف حقًا، ولا أريد العودة الى البيت، هذا عذاب لا يمكنه أن يذهب، كيف لي مواجهة نظرات الشفقة والأحزان في عيون العيال والأبناء؟! أنا أسف يا زوجتي، لن أعود الى البيت. أنا عاجز عن البقاء على قيد الحياة، لقد أعطيت أبنائي الأمال والأحلام، وهآنذا عاجز وخائف بالشوارع والممرات، أنا أسف يا زوجتي، لن أعود الى البيت، سامحيني، أنا لست خائن، ولست رجلًا جبانًا، أنا خائف من عجزي أمامكم، من نظرات البنات بوجه والدهم المسكين، كل لن أكسر ما تبقى في بيتنا من حياة، لن أنهككم بالعجز والفقر والخذلان، ستكونون بدوني أقوى وأعظم، حتى يذهب العيد، لن أعود الى البيت، لن أعود الى البيت.

مشهد سادس:

في جولة ريماس اعتدى شاب بالضرب والتهكم على طفل صغير قام بمسح زجاج سيارته دون أذن، كان الشاب يشتم ويصيح ويتنمر بطريقة متعالية، الطفل لم يفعل شيء، أخذ ممسحته وغادر ليمسح زجاج سيارة أخرى، هذه حادثة حقيقية، وهكذا يظل الطفل يواجه تنمر الأوغاد وسخرية الأقدار وعجز الكائن المقهور. هل تريدون من هذا الطفل أن يقدم لكم الورود عندما يكبر، أو حينما لا يجد أمامه من سبيل أخر عدا الشارع؟! جربوا أن تعطوه قيمه أو فرصة في طفولته ليحترمكم حين يكبر، هذا فقط. وهنا أقول للذين ينزعجون من المتسولين في شوارع صنعاء، جربوا ودعوا الحياة تسحقكم بالفقر والجوع والحرمان، ثم ترغمكم لتكونوا فيها شحاتين، جربوا هذا الشعور ثم تحدثوا عن الإحترام والرقي والمسكنة، وصدقوني ليس هناك إنسان يتوحش ويسرق ويطلب بطريقة مزعجة بلا أسباب، لو علمتم ماذا واجهوا في حياتهم لبررتم لهم أفعالهم المزعجة، ولعرفتم جيدًا ويل هذي الحياة على الإنسان المضطهد.

مشهد سابع:

بالقرب من جولة 45 في شارع تعز بصنعاء، تجلس هذه العجوز الكبيرة كل يوم بمكانها، تبيع الفاين وتترجى لقمة العيش في سنوات حياتها الأخيرة، بنظارتها الشائخة، ورأسها المثقل الحزين، وشباشبها المهترئة، وعمرها الثمانيني الطويل، تجس قليلًا، ثم تقف بجوار السيارات، تحاول البيع بشتى الطرق الممكنة، تعود بعدها لتستريح قليلًا وتبيع من على الرصيف، بقيت أشاهدها وأتأمل حالها وحال من يشتري منها، لساعات وساعات ولا أحد يحني ظهره باتجاهها ليشتري منها، بينما ظهرها المحنى يقاوم السقوط والإنكسار، ترفع رأسها بين فينة وأخرى، تترجى بسبابتها من يعطها شيئًا أو بقايا فتات للحياة، لا أحد، جميع المارون لا يهتمون بشأنها، لكنهم يشبهونها بفقرهم وحيرتهم وعجزهم المادي الكبير.

تخيلوا أنفسكم عاجزون من البقاء على قيد الحياة في سنواتكم الشائخة، في مكانها تمامًا، على رصيف جانبي بأحد الشوارع الفقيرة، تترجون من يمنّ عليكم ببقايا صدقات أو شراء لحاجات قليلة، كعجوز ثمانينية لا يرعاها أحد، لا أبناء، ولا أقارب، ولا أمل ضئيل يعيلها حتى تموت، وهكذا بقية أيامها وسنواتها الأخيرة، تجلس طيلة يومها شاردة، تتخيل حياتها القديمة، تلك الذكريات الباقية في رأسها وذاكرتها، عن الأحلام والخيالات والأمنيات، عن الأسرة التي كانت بجوارها، عن كل شيء تلاشى وتبخر كالرماد، ذهبت أسرتها وحياتها ولم يبق من ملامحها تلك سوى الفقر والعجز والذكريات، عن غدر الحياة، ووجع الزمان، وموت الأصدقاء، وخيانة الوطن، وعجز البقاء على قيد الحياة، عجز الحفاظ على كرامة الكبار في السن، كبار الهموم والأحزان، كبار العاجزون عن الحياة بكرامة ولو لأيام قليلة حتى يغادرون صوب السماء والأخرة.

مشهد ثامن:

لفتتني جدًا ملامح كبار السن المنتظرين في الجولات، مع أدواتهم ومعاولهم، من بعد صلاة الفجر بالشوارع الرئيسية، للحصول على فرصة عمل أو رزق، لم يمنعهم العمر المتقدم والبرد الشديد من الخروج والعمل.. ملامح وجوههم بالغة الشقاء والشدة، وفيها من العناء والتحمل ما لا يمكن كتابته.. بنائين، مبلطين، مرنجين، حمالين، والكثير من المجارف والمفارس والكريكات والمطارق والموازين، يجلسون بجوار الشباب والأخرين، بلا يأس أو عجز أو تذمر، يتناولون مع بعضهم أي خبز أو بن أو سندويشان بطاط، وحين تتوقف سيارة قادمة يقفزون إليها قبل العمال الشباب، هم أكثر خبرة وأكثر حاجة للعمل، ولكن الباحثين عن العمال لا يقتنعون بهم، لأن الشباب أكثر العمال المطلوبين، لهذا يعودون وينتظرون في أماكنهم، هذا سر بقاء الكثير منهم في ذات الرصيف بعد ساعات طويلة من الإنتظار.

إنه مشهد مهيب لرجال أشداء، وواقع مرير، لحكاية يمنية خالصة عن حاجة الكبار في السن لإنتظار العمل بـ أواخر العمر الطويل، عن أشخاص لا يملكون من حياتهم القديمة والجديدة أيّ مصدر أخر للرزق سوى أيديهم ومعاولهم وفرص العمل الشاق، لهذا ينتظرون دائمًا رزقهم صباح كل يوم.

مشهد تاسع:

في المقيل بدأنا نتحدث، كان أمامي رجل كبير في السن، هذا الرجل كان ضابط كبير في القوات المسلحة، بدأنا نتحدث بنوع من الضحك والتنكيت عن الفرق بين الماضي والحاضر، قليلًا قليلًا، حتى تغيرت ملامح الرجل، ليبدأ بالحديث عن وضعه المادي، ووضع عياله وبيته وحاله المعيشي، بملامح الإنكسار والعجز كان يقول: كنا في الماضي نستبشر عندما يقترب شهر رمضان، نستبشر وتمتلئ بيوتنا بمصاريف الطعام، مصاريف متنوعة وكثيرة وبكميات كافية، كان يأتي رمضان علينا فنحصل فيه على ثلاثة رواتب، راتب بداية الشهر، وراتب إكرامية الشهر، وراتب قبل انتهاء الشهر قبيل العيد، أما اليوم أين نحن، كلما اقترب رمضان أكثر تسارعت ضربات قلبي من الهم والخوف والعجز، ليس بأيدينا ما نواجهه به، لقد جعلتنا الأيام مجرد عالة عاجزين.

خاتمة:

أقسم لكم بحياتي أن المواطنين في شوارع صنعاء يقبلون أقدام الناس لأجل الصدقات، الناس بالألاف، في كل مكان يطلبون المساعدات، يطلبونها بدموعهم وحاجتهم، يترجونك ويبكون أمامك، الناس تنازلوا عن كل شيء، ثم نزلوا الشوارع يطلبون لقمة العيش، نساء ورجال وأطفال، عجائز وكبار في السن، موظفين وعسكريين وتربويين، تجدونهم في كل سوق وفي كل محل وفي كل جولة وفي كل مكان، لم يعد هنالك ما يبقيهم على قيد الحياة، الحاجة والفقر دمرت قلوبهم وقلوب الملايين، الحاجة قتلتهم عند بوابات الصدقات. أقسم لكم أن هذا الواقع كفيل بنسف العالم برمته، لكنه في اليمن متكرر كل يوم كصباحات المدينة منذ سنوات.

شارك الخبر: