ليس من المبالغة القول إن المرحلة التي مر بها اليمن، وكانت بدايات معالمها برزت مع خروج المحتجين على الرئيس الراحل علي عبدالله صالح إلى الساحات في عام 2011، هي الأكثر دموية ودماراً في تاريخه، ثم جاءت الحرب لتمزق البلاد في كل الاتجاهات وعلى كل المستويات، وتوقف اليمنيون خلالها عن البحث عن السلام الذي يسمح لهم باستعادة توازنهم وبصيرتهم منشغلين بالبحث عن ملجأ ولقمة عيش.
وفي ظل هذه الظروف الحرجة جاء إعلان المبعوث الأممي قبل يومين بالتزام الأطراف اليمنية بـ"مجموعة من التدابير تشمل تنفيذ وقف إطلاق نار يشمل عموم اليمن، وإجراءات لتحسين الظروف المعيشية في اليمن، والانخراط في استعدادات لاستئناف عملية سياسية جامعة تحت رعاية الأمم المتحدة".
وعلى رغم الغموض، الذي صيغ به الإعلان باختيار مفردات تحتمل كل التأويلات، إلا أنه في نظري خطوة أولى طال انتظار اليمنيين المحاصرين في الداخل وفي الخارج لها، وما كان ممكن التوصل إليه ممكناً من دون الجهد الهائل الذي بذلته الرياض ومسقط، كما أنه سيفصح عن مدى جدية الرغبة لدى الأطراف اليمنية في السير نحو طي صفحة الحرب، وهي ليست بالهينة، ومن دونها وبغير الالتزام النزيه بكل بنودها، فإن الانتقال إلى الخطوات السياسية التالية سيكون أمراً غير معقول وغير ممكن.
ومما سيزيد من صعوبة التعجيل بتنفيذ بنود الإعلان هو غياب التوافق بين القيادات في معسكر "الشرعية" وعدم تمكنها من خلق بيئة عمل نشطة ومحفزة وابتعاد بعض عناصرها عن وضع المصلحة الوطنية اليمنية في مقدمة اهتماماتها ومشاغلها، وعوضاً عن ذلك انغمس هذا بعضهم في مشاريع ضيقة، فتعاظمت الأخطار التي تهدد الجميع وتضع البلاد كلها في مهب الرياح العاتية التي تجتاح المنطقة برمتها وربما أعادت تشكيلها وصياغة مستقبلها.
كما أن الشكوك في صدق نوايا جماعة "أنصار الله" الحوثية ما زالت تسيطر على أذهان كثيرين، وهي قبل غيرها مطالبة بإظهار رغبتها في طي الصفحات الدامية التي طاولت كل بيت وأسرة في اليمن، وهي أيضاً قبل غيرها مطالبة بإعلان أن البلد للجميع بغض النظر عن انتماءاتهم المناطقية والطائفية، وأنها ملتزمة ما يتفق ويجتمع عليه اليمنيون، والأهم من كل ذلك هو قبولها بالدستور القائم كمرجعية وحيدة للحكم.
الكل يعلم أن كل حديث يرتبط باليمن يدفع إلى الواجهة صورة بلد تتقاسمه ميليشيات غير منضبطة ولا تلقي بالاً لقواعد عمل المؤسسات، وفي الوقت نفسه هي غير قادرة على تأمين المساحات الجغرافية التي توجد فيها، بل هي أقرب ما يكون إلى إقطاعيات تسعى إلى تثبيت كيانات متناهية في الصغر تحمي مصالح خاصة وترفض الانخراط في إطار القوات النظامية، والأكثر خطورة أنها تجتهد لتنفيذ مشاريع لم يتفاهم عليها بين اليمنيين.
في محاولة لفهم ما يحدث اليوم لا بد من العودة لفجر السابع من أبريل (نيسان) 2022 حين جرت عملية انتقال مفاجئة للسلطة حين فوض الرئيس عبدربه منصور هادي ما يسمى "مجلس القيادة الرئاسي" بكامل صلاحياته، ولم يكن ذلك أمراً متوقعاً وإن كان كثيرون راغبين في إبعاده عن الموقع الأول في البلد لما نتج من سوء تسييره للقضايا الوطنية وتغيبه الطويل عن متابعة الأوضاع، وليس في هذا أي تشكيك في وطنية الرجل، لكن أسلوبه في إدارة الشأن العام لفترة امتدت من الـ10 من فبراير (شباط) 2012 إلى أبريل 2022 أدى إلى السماح بنشؤ كيانات سياسية وعسكرية بعيدة من سيطرة السلطة (أقول السلطة لأن من الصعب الحديث عن دولة في اليمن، لأن معاييرها غير متوافرة أصلاً).
هكذا توقع كثيرون في ذلك اليوم المشهود بدء مرحلة أكثر حيوية وفعالية وابتعاداً عن شبهات الفساد والمحسوبية والمناطقية، بل تعاظمت آمالهم بأن البلاد ستشهد نشاطاً دؤوباً ومكثفاً للتوصل إلى وقف نهائي ورسمي للحرب لتثبيت الهدنة التي دخلت عامها الثاني في أبريل الماضي.
لكن شئياً من ذلك لم يحدث على رغم كل الجهود التي بذلتها الرياض سياسياً ومالياً لدعم المجلس الثماني ولملمة صفوفه ورأب التصدعات التي ظهرت على جدرانه منذ اللحظات الأولى بسبب الفشل الفاضح في التوصل إلى اتفاق على أسلوب عمل الهيئة الحاكمة الجديدة، وكان هذا مؤشراً إلى صعوبة إدارة السلطة كاملة.
ومن معالم الفشل الذي لم يدركه المجلس أو ربما أدركه بعض الأعضاء هو فقدان الخيال السياسي الذي من دونه لا يمكن إنجاز أي فعل وطني إيجابي يدفع بالأوضاع إلى تمهيد الطريق أمام البدء في عملية استعادة السلم الاجتماعي بين اليمنيين، لأن التفكير خارج المألوف يستدعي وجود شخصيات تضع مصلحة البلد قبل مصلحتها، والفكاك من هوس الأضواء والسلطة والتخلي عن النرجسية والاعتراف بقصورها الفكري وعجزها السياسي.
إن ما أنتجته وأثبتته سنوات الحرب وتراكمات المراحل التي تلتها أن العالم أكثر شفقة ورحمة على اليمنيين من أنفسهم، لكنه لن يظل منشغلاً بهم ما لم يستعيدوا ويتدبروا قراءة الأحداث التي مرت بها بلادهم، فاهتمامات الدول تتغير في فترات زمنية متقاربة وتتحول بوصلتها بحسب مصالحها التي تتغير هي أيضاً.
ما طرحه السويدي هانز غروندنبيرغ يوضح أولويات المجتمع الدولي في كيفية حل الأحاجي التي تداخلت خطوطها وفشل اليمنيون في فك طلاسمها.