خاص - النقار / مجتمع
- تخترع "أنصار الله" مسميات جديدة لفرض الرسوم والجبايات على الطلاب
- تضطر الأسر لبيع "أسطوانات الغاز" لتغطية مصاريف المدارس
- "لوبيات فساد" داخل الحرم المدرسي تبيع حتى "نوافذ الفصول" و"الأشجار"
- مدارس تحصر شراء الكتب المدرسية منها كشرط للتسجيل
- 1,5 مليون ريال رسوم "ثالث ثانوي" في "مدارس أهلية"
- "أنصار الله" هددت المعلمين بـ"السجن" و"صندوق المعلم" في عالم آخر
- أطفال المدارس يصارعون في المناهج معلومات حوثية غير قابلة للنقاش
بات المجتمع اليمني بمختلف شرائحه على علم بحقائق انهيار المنظومة التعليمية في اليمن، وبالأخص في الجغرافيا المقتطعة من البلاد تحت سيطرة سلطة "أنصار الله"، لكن الطرف الوحيد الذي يتعامى عما آل إليه الواقع التعليمي هو سلطة الجماعة نفسها، غير آبهة بالكوارث التي أحدثتها والعواقب التي نشأت وستنشأ بحق الطلاب وأسرهم والمعلمين وكافة اليمنيين.
ومع علمها الكافي بذلك، تصر "أنصار الله" على المضي بـ"العملية التدميرية" وخلق مزيد من الانهيار في هذا القطاع الأهم. جعلت المدارس، ومعها المعاهد الفنية والمهنية والجامعات، حكومية وخاصة، ملكيةً تخصُّها، وحولت التعليم إلى سوق تجارة رابحة ومصيدة مالية جابية يقابلها قطعٌ متعمد لمرتبات المعلمين، وفخخت المناهج التعليمية بالرسائل والأفكار الطائفية والخاصة بها، ثم كانت النتيجة إيقاع الطلاب وأولياء الأمور والمعلمين وكافة المجتمع في أعمق خندق موحل عرفه اليمن الحديث والمعاصر.
"النقار" سلطت الضوء على جوانب سريعة من واقع "قطاع التربية والتعليم"، مدارس ومعلمين وطلابًا، أثناء الحرب التي حرمت مئات آلاف الطلاب من التعليم، ودفعت آلاف المدرسين إما للنزوح إلى مناطق سيطرة سلطة عدن، أو عرض خدماتهم على الطلاب لتقديم دروس خصوصية غالبًا ما تكون موسمية، أو البحث عن مصادر دخل أخرى في أعمال ومهن غير التدريس.
مشاهد سوداء من "التجارة التعليمية"
تشهد المدارس بالأساس تدهورًا حاصلًا منذ عقود، خاصة الحكومية التي يُفترض تطبيق مجانية التعليم فيها، لكنها خلال حرب السنوات التسع وبقيادة شقيق زعيم جماعة أنصار الله، وزير التربية والتعليم يحيى بدر الدين الحوثي، زادت تهاويًا نحو الأسوأ.
أصبحت المدارس حيزًا تجاريًا من جملة خزائن أنصار الله، بفرض رسوم عالية ومتفاوتة بين مختلف المدارس لا تتواءم وقدرة الأسر اليمنية، وفرض جبايات غير قانونية تحت مسميات عدة: مساهمة مجتمعية، أنشطة مدرسية، تبرعات، رسم مجلس آباء وغيرها.
زادت وزارة "يحيى الحوثي" الأعباء على الطلاب وأسرهم، وأهانت معلم المدرسة الحكومية في الوقت نفسه، فاخترعت ما أسمته "المساهمة المجتمعية" بمبالغ أُعلن سابقًا أنها تقدر بمبلغ 8 آلاف ريال على الطالب الواحد، كمساعدة للمعلمين.
لاحقًا أوضح مكتب التربية بالأمانة أن المساهمة المجتمعية قدرها 4000 ريال لكل طالب في الترم (بواقع 1000 ريال في الشهر) وليست 8000 ريال، كما زعمت أنها طوعية وليست إلزامية.
لكن "آمنة. ر"، وهي أم لثلاث طالبات، تقول شيئًا آخر بعد حساب ما أنفقته في رسوم المدرسة إجمالًا للعام الدراسي الفائت. تؤكد آمنة في حديث لـ"النقار" أنها دفعت لإحدى مدارس البنات الحكومية مبلغًا تراكميًا يقترب من 38 ألف ريال، بمعدل أكثر من 12 ألف ريال عن كل طالبة من بناتها، وتضيف: "لم تعد الرسوم رمزية في المدرسة الحكومية، وفوق الرسوم هناك مصاريف أخرى مثل حق مساهمة مجتمعية وحق نشاط وحق تبرع للاحتفالات مثل المولد وغيره، وكأن التعليم تحول إلى تجارة".
تتابع آمنة: "مثلما الأزمة على المدرّسين، هي أيضًا على الطلاب وعلينا أولياء الأمور، وهناك بيوت تبيع أثاثًا من المنزل، تبيع شاشة تلفزيون أو أسطوانة غاز أو أي شيء من أجل تغطية مصاريف تعليم أولادهم في مدارس حكومية".
من جهتها تتحدث المدرّسة "فائزة عبدالله" عن "لوبيات فساد" في بعض من المدارس الحكومية. تقول: "ستجد إدارة مدرسة تدير (لوبي) يشوه مكانة المدرسة والحرم المدرسي، وأصبح البعض يبحث عن أي وسيلة للكسب سواء كان مدير مدرسة أو وكيلًا أو نافذًا على المدرسة من خارجها أو غيره"، وتشير إلى أنه لم يسبق لها الاستفادة مما سماها أنصار الله "المساهمة المجتمعية"، ولا تستلم سوى نصف الراتب النادر صرفه لمرات معدودة في السنة كشهر رمضان والأعياد والمناسبات، وبدل التنقلات المصروف عبر ما يسمى "صندوق دعم المعلم" كما سنتناول تاليًا في هذا التقرير.
وتستغرب: "الرقابة غائبة على كثير من الممارسات، هناك أشخاص يقومون ببيع بعض من أثاث المدارس وهي ممتلكات عامة، مثل الكراسي أو نوافذ الفصول، حتى أشجار الساحة هناك من يستفيد منها ويبيعها كحطب".
وثمة وجه آخر من "التجارة التعليمية" متمثل في الكتب المدرسية والمفترض توفيرها مجانًا، فالكتب لها سوقها السوداء المتنامية في مواسم الدراسة بأسعار متفاوتة وبعشرات الآلاف. تؤكد فائزة أنه "مع غياب الرقابة على حقوق النشر وعلى المدارس أيضًا، استغلت مدارس هذا الأمر لطباعة كتب مدرسية وبيعها للأهالي بأسعار تفوق أسعار الكتب الأصلية"، مضيفة: "كما تشترط هذه المدارس شراء المنهج المدرسي منها حصرًا لقبول تسجيل الطالب، وينطبق الأمر على الحكومية والأهلية".
ذهابًا للمدارس الأهلية، فهي الأخرى أصبحت ميدانًا تجاريًا بامتياز، إذ تقوم برفع أسعارها بمئات الآلاف تزامنًا مع فرض سلطة صنعاء عليها دفع ضرائب مرتفعة وجبايات زكاة ومجهود حربي، وتؤكد مصادر تربوية لـ"النقار" أن أصغر المدارس الأهلية قد تصل ضرائبها إلى مليون ريال أو أكثر، وقد تتجاوز 40 مليون ريال من ضرائب وزكاة على المدارس الأهلية الكبرى.
وفي يوليو الماضي أعلنت سلطة صنعاء عن تحديد الرسوم الدراسية للمدارس الأهلية المعتمدة في أمانة العاصمة للعام الدراسي 1445هـ، دون توضيح سقف محدد في الخبر.
على هذا يعلّق "طاهر. ج"، مدرّس في إحدى المدارس الأهلية بصنعاء، بأن "الكثير من المدارس الأهلية لم تلتزم بالقرار، ويمكن أن نسميه قرارًا صوريًا، فكل مدرسة تعمل بأسعارها الخاصة التي تناسبها، وهذا الانفلات أكثر من يستفيد منه هي الحكومة"، ويضيف: "أؤكد لك أن هذا القرار إذا كان فُرض بشكل حقيقي فإن مدرستنا أول مدرسة كانت ستغلق أبوابها" بحسب رأيه لـ"النقار".
وتفرض مدارس مبالغ تتراوح بين مليون ومليون و500 ألف ريال كرسوم لدراسة الصف الثالث الثانوي إضافة إلى 100 دولار رسوم تسجيل، وهي في مدارس أخرى 750 ألف ريال للثالث الثانوي إلى جانب 100 دولار رسوم تسجيل، كما تطلب مدارس 150 ألف ريال لتسجيل طلاب في الصف الخامس الابتدائي، وفقًا للكاتب أحمد الشاوش.
الشاوش في مقال تداولته وسائل إعلام في وقت سابق هذا العام، وصف ما يحدث للتعليم بأنه "مجزرة دموية دون رحمة في مسالخ المؤامرات ومذابح الانتقام ومشانق الوعي وبلدوزر الأجندات ومصالح القوى العابثة التي تحاول القضاء على الكفاءات والمبدعين"، واعتبر أن "المشهد المأساوي" هو أن التعليم في اليمن "يأتي في آخر اهتمامات حكومة الإنقاذ الوطني بالعاصمة صنعاء".
ويعترف محسوبون على جماعة أنصار الله بكارثية ما وصلت إليه حال التعليم، مثل القاضي الحسين بن أحمد السراجي. يؤكد السراجي في رأيٍ منشور، أنّ المعلم يموت جوعًا وقهرًا وكمدًا وأن الطالب يموت من جوع العلم بينما "التعليم للأسف الشديد فاشل الخاص والحكومي على حد سواء والفارق بينهما الترفيه في الخاص فقط".
ويرى أنه "لا يجوز استنزاف أولياء الأمور بالمساهمات المجتمعية في قربة مخرومة، أولياء الأمور بيبيعوا دبّات الغاز ليسددوا رسوم أولادهم، ولي الأمر عاطل عن العمل ومستأجر ومريض وعاجز والبعض حالات نفسية، أي مساهمة مجتمعية من فقير ضعيف عاجز مستضعف لا يملك قوت يومه؟! أليس التعليم مجانًيا؟! ولا مجان ولا يحزنون فالدولة عجزت عن تأمين الحق التعليمي وتشتي معلم في المدرسة جاوع وتاعب ومريض ومنهك العقل والفكر والبدن".
عن نادي المعلمين وصندوق المعلم الحوثي
كان المعلمون أبرز من تصدّر مشهد المطالبة بصرف المرتبات المنقطعة منذ سبع سنوات، وتم حديثًا إنشاء نادٍ باسم "نادي المعلمين اليمنيين" الذي طالب مرارًا بمرتبات المعلمين وأعلن عن إضراب الكثير منهم، ليتم اعتقال رئيس النادي بصنعاء "أبو زيد الكميم" بعد محاصرة منزله، واعتقال أمينه العام ورئيسي فرعيه في محافظتي "المحويت" و"ريمة".
في أحدث الانفعالات الحوثية، هددت جماعة أنصار الله مؤخرًا معلمي صنعاء والمحافظات، البالغ عددهم قرابة 130 ألف معلمًا، بالسجن إذا لم يكفّوا عن الاحتجاجات المطالبة بصرف المرتبات، شأنهم شأن سائر الموظفين المهددين بالقوة.
النادي الذي يعتبر مطالبة المعلمين بمرتباتهم "ليس جريمة"، سخر من أن "حكومة قطاع غزة خرجت من تحت الركام لصرف رواتب موظفيها المدنيين والعسكريين، وحكومة صنعاء 8 سنوات تقطع رواتب الموظفين باسم العدوان"، مشيرًا إلى أن مسؤولي صنعاء يستخفون بالموظفين ويولون اهتمامهم بالموظفين التابعين للجماعة حصرًا.
وفاقمت أزمة المرتبات جحيم المعلمين كما ترى "فائزة عبدالله" من محل عملها الحكومي كمدرّسة، وتقول لـ"النقار": "نحن ندرّس بدون رواتب وفوق هذا يتم تهديد المدرسات والمدرسين الذين لا يزاولون التدريس في هذه الظروف بالفصل النهائي"، مؤكدة: "الوزارة لا تتعاطى إيجابيًا مع مشاكل المعلمين ولا نجد لديها أي إنصاف، ولا نحن الذين استلمنا رواتبنا ولا نحن الذين عرفنا أين تذهب العائدات المالية لسلك التعليم أو الأموال التي يدفعها الطلاب".
وقبل فورة الإضراب والمطالبة بالمرتبات، كان الحديث على الساحة التعليمية يدور في فلك "حافز شهري" قدره "30 ألف ريال" من المفترض أن تصرفه وزارة التربية والتعليم للمعلمين والتربويين بانتظام كـ"بدل انتقال" عبر صندوق يُنظر إليه بأنه غامض الدور ولا يفيد المعلمين، هو "صندوق دعم المعلم".
يعود إنشاء هذا الصندوق إلى سبتمبر 2019 بعد تقديمه كمشروع لبرلمان صنعاء من قبل الوزير "يحيى الحوثي"، غرض المعلن دعم المعلمين المنقطعة مرتباتهم. خُصص له تمويل هائل مجمع من الضرائب والجبايات بما فيها الرسوم الدراسية والجزاءات بحق موظفي الوزارة، وكذلك نسب من ضرائب الاتصالات والقات والبنزين والسجائر وغيرها. وعقب إنشائه بأسبوع صُرف حافز واحد، ثم انقطع لمدة عامين كاملين، ولم يصرف مرة أخرى إلا في سبتمبر 2021، وعندها أكدت "التربية" أنها ستقوم بصرف الحافز بشكل منتظم.
لكن الحافز لم يصرف ثانية للمعلمين الذين ينتظرونه رغم عدم كفايته على الإطلاق لتغطية أدنى تكاليف المعيشة والمواصلات، وبعد قرابة العام من تجاهل "يحيى الحوثي" لصرف الحافز، نفى الوزير، في شهر يونيو 2022، إعلان الوزارة أو صندوق المعلم عن صرف 30 ألف ريال شهريًا للمعلمين، وقال لمجلس النواب إن الوزارة لم تعلن ولا تعلم بذلك، رغم إعلان الحوثي نفسه عن انتظام الصرف بتاريخ 14 أغسطس 2021 وتعهده برفع المبلغ بعد تحسن الصندوق ماليًا.
بعدها، ووفق بيانات رسمية تتبعتها "النقار"، تم صرف بدل انتقال للعاملين في المدارس أربع مرات فقط، في "أكتوبر 2022"، وخلال الأشهر "يوليو وسبتمبر ونوفمبر 2023"، عبر الصندوق الذي يديره "حسين جبل".
تم الصرف لثلاث مرات هذا العام وسط شكوك محيطة بالصندوق وطبيعة وجوده، ففي شهر مارس من هذا العام، خاطب برلمان صنعاء حكومتها بتجميد عمل الصندوق، وأكد أعضاء البرلمان أن إيرادات الصندوق لا تُخصّص لدعم المعلم، وأنه يتم الصرف خارج إطار أغراض الصندوق التي أنشئ من أجلها، ومنها طباعة الكتاب المدرسي.
وأراد الوزير "يحيى الحوثي" أن يكون الصندوق خارج نطاق حسابات المالية والحكومة وبعيدًا عن الرقابة حول مسائل مخصصات المعلمين، كما قام الحوثي عبر الصندوق بتمويل المراكز الصيفية التي تتولى نشر ثقافة الأنصار على حساب معاناة المعلمين الذين يفتقرون لأدنى مقومات العيش.
التعليم طائفيًا
المناسبات الخاصة بأنصار الله تُقام في المدارس على قدم وساق، وتتعالى الخُطب أمام طوابير الطلاب، ويُفرض عليهم تأدية شعار الجماعة "الصرخة"، ويحرص مشرفون ومشرفات يتبعون الجماعة على متابعة ومراقبة سير هذه الطقوس في المدارس.
وفتحت أنصار الله باب التعبئة الطائفية على مصراعيه عندما قررت حشو المناهج التعليمية بمفاهيمها ومعتقداتها غير القابلة للنقاش، مستهدفةً الأطفال والنشء عبر المقررات الدينية والأدبية والتاريخية بما يمكنها من توسعة حاضنتها المجتمعية وتطبيع الأفراد بهذه الثقافة، مما يثير أقصى درجات المخاوف الاجتماعية.
ووضعت أنصار الله لمستها الفريدة على المناهج بتغييرات هائلة ركزت على تمجيد الجماعة وتاريخها القصير، مثل شطب سير الصحابة، وإلغاء دروس الدولة والسلطة واستبدالها بدروس الهوية الجهادية، ومحو رموز يمنية تاريخية وإضافة شخصيات قيادات الجماعة، وتهميش ثورة 26 سبتمبر وإبدالها بـ21 سبتمبر 2014 بل واعتبار الأخيرة جاءت تصحيحًا للأولى ولـ14 أكتوبر أيضًا، وبات على طالب الصف الرابع أن يعدّد أهداف "سقوط صنعاء" كثورة لـ"القضاء على المحسوبية والفساد، وبناء الدولة اليمنية القوية والعادلة"، وهَلُمَّ جهلًا.
ويُقاد المعلمون إلى دورات ثقافية بالإكراه مقابل الحفاظ على وظائفهم، وتفرض الدورات والأنشطة هذه على المعلمين والمعلمات على حد سواء، مع تحويل المدارس إلى مراكز صيفية خاصة بثقافة ومفردات الجماعة بهدف بناء ونهضة البلاد وجعلها في مصاف الدول المتقدمة.وإلى هنا، تتفرع الملفات والقضية واحدة، وتتفاقم الأزمة التعليمية والفاعل أنصار الله، ويفترس عقول الطلاب "منهج حوثي" ويبقى المعلمون رهن "من طلب الرواتب سهر الليالي". ونشير إلى أن الجماعة التي لم تقدم فائدة تذكر لقطاع التربية والتعليم ربما اعتقدت بأنه يكفي تشريفًا أنْ قدّمت للأجيال شقيق زعيم الجماعة شخصيًا، والذي لا يُعرف ما إذا كان سيقبل بالتنحي عن منصبه مع أول "تغيير جذري" منتظر أم سيرفض التخلي عن رسالته الوزارية في الحياة.