يوماً تلو الآخر تأخذ تطورات قضية الذكاء الاصطناعي، مساحة أوسع في النقاشات المجتمعية، ذلك أن الأمر لم يعد قاصراً على تقاطع وتشارع تلك الذكاءات مع الحياة اليومية والحاجة إلى تكنولوجيات تيسر من حياة الإنسان بل أضحت قريبة إلى حد كبير، من دائرة الأخلاقيات وأصولها ثم الأديان وجذورها.
تبدو النقاشات الدائرة والحائرة في هذا السياق، وكأنها تعود بنا إلى القرون الوسطى، والجدل الصارخ الذي احتل مساحة واسعة من التاريخ، بين العلم والدين وحالة الرفض التي سادت لقرون، قبل أن تجري المقادير بمصالحات تاريخية بين الجانبين، مع ظهور عصور التنوير.
من جديد تطفو على السطح أزمة المواجهة بين التكنولوجيا والأيديولوجيا، بل أكثر من ذلك تظهر فراغات واسعة بين التكنولوجيا بمساراتها ومساقاتها المتطورة يوماً تلو الآخر بسرعة غير متوقعة ولا مسبوقة، والمعطيات الدوغمائية، التي تعد بمثابة الثوابت التي لا يمكن الاقتراب منها، من منطلق أنها مطلقات لا تقبل فلسفة المواءمات، ولا ترتضي قسمة الغرماء.
هل هو زمن صراع العلم متمثلاً في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي من جهة، مع الأيديولوجيات والدوغمائيات من جانب آخر؟
حكماً لا يمكننا عبر هذه السطور القليلة الإلمام الشامل والكامل بكل أبعاد الإشكال الجديد، غير أنها محاولة على الأقل نبغي من ورائها الاقتراب من المشهد قدر المستطاع، وتفكيك بعض من لوغاريتماته إن استطعنا إلى ذلك سبيلاً.
ظهرت إشكالية المواجهة بين العلم والدين في أوروبا القرون الوسطى، بنوع خاص، وعند عديد من القطاعات المجتمعية، جراء رفض الجديد من الأفكار، كما حدث مع الفيزيائي والفيلسوف الإيطالي غاليليو غاليلي، الذي نشر نظرية مركزية الشمس، التي جاء بها كوبرنيكوس ودافع عنها بقوة على أسس فيزيائية.
لزم الكثير من الوقت، قرابة 400 عام لكي تتصالح أوروبا مع ذاتها، وتجد طريقاً للتفريق بين المطلق والنسبي، أي بين ما هو قابل للتفسير بطريقة علمية، وما هو كائن في السماوات العلى، ولا رقيب عليه سوى الضمير الإنساني والعقل البشري، ومن تفاعل العقل مع الحقائق الإيمانية، عرفت الإنسانية العلوم الفقهية أو اللاهوتية، التي لا ينبغي أن تكون متصارعة بالضرورة مع العلوم التي تتطور يوماً تلو الآخر، وبخاصة مع اكتشاف الإنسان لمزيد من الحقائق الكونية.
هل اليوم شبيه بالأمس، والصراع هذه المرة ما بين التكنولوجيا والأيديولوجيا، قبل القفز، على مرحلة مغايرة من المواجهة والمجابهة، التي نتوقع لها أن تكون صدامية بشكل أسوأ مما جرى في القرون الوسطى، بين التكنولوجيا والمذاهب الدينية، توحيدية كانت أو وضعية؟
الحقيقة المؤكدة أن عصر الأيديولوجيا قد ولى وانتهى، وهذا ما قرره عالم الاجتماع الأميركي دانيال بيل صاحب كتاب "نهاية الأيديولوجيا" و"قدوم عصر ما بعد الصناعة" وفرانسيس فوكاياما صاحب كتاب "نهاية التاريخ" و"جان فرانسوا ليوتار" مؤلف كتاب "وضع ما بعد الحداثة".
هنا التساؤل المثير وربما يكون الخطر أيضاً: هل العلم والتكنولوجيا سيشكلان معاً أيديولوجية القرن الـ21، التي ستتجاوز الشيوعية والرأسمالية، وكل المذاهب التنظيرية الاقتصادية والسياسية التي حفل بها القرن الـ20 ونصف القرن الـ19 الأخير؟
المؤكد أن هناك من تنبه لأهمية هذه القضية من فلاسفة ومفكرين قبل عقود طوال، وقد جاء في مقدمتهم الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، وفلاسفة مدرسة فرانكفورت لا سيما يورغن هابرماس، أهم علماء الاجتماع والسياسة المعاصرين، عطفاً على عالم الاجتماع الفرنسي جاك إلول.
تقودنا السطور المتقدمة إلى الدخول في عمق هذه القراءة، والتساؤل: هل سيضحى الذكاء الاصطناعي، هو المكافئ الموضوعي للدوغمائيات والأيديولوجيات، دفعة واحدة في العقود القادمة، ما يمكن أن يؤثر على منظومة الأخلاق ومصفوفة الأديان التي عرفتها البشرية حتى الساعة؟
أزولاي... الذكاء الاصطناعي والإنسانية الجديدة
باتت حوارات وأحاديث الذكاء الاصطناعي وتجاذباته وتقاطعاته مع البشرية، في مقدمة اهتمامات المؤسسات الدولية.
لم تكن "يونيسكو" بعيدة عن سياقات النقاش حول علاقة الإنسان، بعالم الذكاء الاصطناعي، وقد وجدنا المديرة العامة لـ"يونيسكو"، أودري أزولاي تحاول وضع خطوط واضحة حول الحدود الإنسانية الجديدة، في عالم يموج بتلك الذكاءات غير الطبيعية.
تقطع أزولاي بأننا نقف عند فجر حقبة جديدة، تعمل الثورة التكنولوجية فيها على تغيير حياتنا بسرعة هائلة، مما يغير بشكل كبير من جميع جوانب الحياة بما في ذلك الأمن والبيئة والبحث والتعليم والصحة والثقافة والتجارة إلى جانب الاستخدام المتزايد التعقيد للبيانات الضخمة.
هل الذكاء الاصطناعي صانع الحدود الجديدة للإنسانية؟
يبدو أن مسؤولة الـ"يونيسكو" تقطع بذلك، وعندها أن الذكاء الاصطناعي سيؤدي إلى شكل جديد من الحضارة الإنسانية، غير أن الأمر موصول بمحددات بحسب قراءتها.
المبدأ التوجيهي الذي تدعمه أزولاي، هو ليس أن يصبح للذكاء الاصطناعي مستقلاً أو يحل محل الذكاء البشري، ولكن يجب علينا التأكد من تطويره من خلال نهج إنساني قائم على القيم وحقوق الإنسان.
تبدو رؤى أزولاي مثيرة للتفكير في قادم أيام الذكاء الاصطناعي، وتفتح الباب حول حتمية إقامة حوار عالمي حول أخلاقيات هذا الذكاء، وبخاصة ضمان أن يستخدم لصالح المجتمعات وتنميتها المستدامة، ناهيك بتنظيم تطوراته بحيث تتوافق مع الحقوق الأساسية التي تشكل الأفق الديمقراطي العالمي المحبوب والمرغوب.
تطرح الـ"يونيسكو" بشكل عام وعبر فعالياتها المختلفة في العقد الأخير، رؤى عالمية تساير القفزات الهائلة في عالم الذكاء الاصطناعي، ما يجعل من نهج "الانتقاء والاختيار"، في عالم الأخلاقيات أمراً واجب الوجود.
ولأن الأخلاق هي الوجه الأكثر تعبيراً عن الفكر الديني، يطفو على السطح الحديث الشائك حول الذكاء الاصطناعي، وهل سيكون محفزاً للدين أم مهدداً له، وما هو مستقبل الأديان، بل الممارسات الدينية في هذا العصر، لا سيما بعد أن باتت دور العبادة تذهب للإنسان، وما ينتظر الخلائق في زمن الميتافيرس، يكاد يشابه الأساطير التي تم التحدث في شأنها في أوروبا القرون الوسطى، فيما باتت اليوم محققة وتعد شأناً اعتيادياً؟
الذكاء الاصطناعي وتهديد مستقبل الدين
حين ظهرت أجهزة التلفاز في الولايات المتحدة الأميركية، استطاعت أن تنقل شعائر العبادة صباح كل يوم أحد، من مكان مختلف، عبر أرجاء البلاد.
كان ذلك في ستينيات القرن الماضي، وبعد أربعة عقود، صار هناك واقع إيماني جديد، تمثل في ذهاب الكنيسة إلى البيت، عبر مختلف وسائط التواصل الاجتماعي، ولم يعد مثيراً أن يطلب منك الواعظ أو المبشر أن تضع يدك على التلفاز وأنت في بيتك، علامة على التواصل الروحاني مع المصلين، ومن هنا نشأت فكرة "الكنيسة العالمية السبرانية".
التساؤل المثير الآن: ماذا سيكون من شأن الأديان والعبادات، حال تطور الذكاء الاصطناعي، وما الدور المنوط بالروبوتات في عالم الغد، على صعيد المباشرات الإيمانية والطقوسية؟
في أوائل مارس (آذار) من عام 2019، شهد معبد كودايجي البوذي الواقع في مدينة كيوتو اليابانية حدثاً مثيراً غالباً ما سيؤسس لعالم مختلف ضمن دائرة الذكاء الاصطناعي.
كان التوقيت هو موعد العبادة التقليدية، حيث اجتمع شمل جمهوراً واسعاً من الكهنة البوذيين بأزيائهم البرتقالية الزاهية الواسعة، وقاموا بإزاحة الستار عن تمثال إله الرحمة في الديانة البوذية "ميندار".
جرى العرف في تلك المعابد أن تصنع تلك الآلهة من الرخام أو الأحجار الكريمة النادرة، غير أن المفاجأة هذه المرة تمثلت في أن الإله البوذي لم يكن سوى "روبوت" لديه جهاز استشعار طريف الشكل فضي اللون.
لن يقف البوذيون ضامين الأيدي ليؤدوا شعائرهم الطقسية كما العادة، ما سيحدث أمام الروبوت الإله مدعاة للتفكير العميق.
سيعطي الروبوت محاضرات روحية بلغات متعددة لطلاب المعابد البوذية، في طريق تكوينهم ليضحوا كهنة فاعلين عاملين، وسيقص عليهم رواية "قلب سترا" الأكثر شهرة في الشعائر والأدبيات البوذية.
هل هذا هو الطريق الجديد للمزج بين العلم والتكنولوجيا، للخروج بأيديولوجية دينية جديدة في العقد الثالث من القرن الـ21؟
يقول علماء البرمجة البوذيون، إن ما فعلوه هو مزج ضروري بين بوذا والمستقبل الذكي، مما يعني بالفعل أن البوذيين في طريقهم نحو ملامح ومعالم دينية مغايرة لما عاشوه وعرفوه قبل مئات السنين.