كانت إصابة اثنين من أفراد "الحرس الوطني" بالنيران قرب البيت الأبيض، الذي يعد من أكثر الأماكن أماناً على كوكب الأرض، أمراً مذهلاً للأميركيين، ليس فقط لأنه يمثل اختراقاً أمنياً خطراً عشية عيد الشكر، ولكن أيضاً لأنه سيفتح فصلاً جديداً من الصراع على ثلاث جبهات، الأولى مع بايدن والديمقراطيين الذين حملهم الرئيس دونالد ترمب مسؤولية إدخال الشاب الأفغاني المشتبه بإطلاقه النار على جنديي "الحرس الوطني" إلى الأراضي الأميركية، والثانية مع المهاجرين الذين يتوقع أن يشهدوا حملة أكثر حزماً ضدهم عقب الحادثة، أما الثالثة فستنصب على تعزيز حجم وشرعية وجود قوات "الحرس الوطني" في العاصمة الأميركية وبقية المدن الديمقراطية بعدما كان ترمب يوشك على خسارة تلك المعركة.
تداعيات ثلاثة
على رغم استمرار التحقيقات مع المشتبه في إطلاقه النار، وهو رجل أفغاني يدعى "رحمان الله لاكانوال"، إلا أن تداعيات الحادثة التي صدمت الشعب الأميركي وقياداته السياسية من الحزبين، بدأت بالظهور سريعاً، إذ وصف ترمب الهجوم بأنه عمل إرهابي، وحمل سلفه جو بايدن مسؤولية إدخال الأفغان إلى الولايات المتحدة خلال الانسحاب الأميركي من أفغانستان وبعده. كما تعهد بمضاعفة جهود الحكومة لترحيل المهاجرين ككل، وإجراء مزيد من التدقيق في المهاجرين الذين فروا من أفغانستان بعد سيطرة حركة "طالبان"، فضلاً عن تعزيز الحضور الأمني في العاصمة الأميركية عبر نشر 500 عنصر إضافي من الحرس الوطني.
كانت هذه التصريحات الحازمة من ترمب التي تفجرت وسط حالة من الحزن والأسى الوطني بعد الحادثة التي تهدد حياة شابين من "الحرس الوطني"، بمثابة تذكير بأن الأزمات السياسية المتعددة الأوجه التي تشهدها واشنطن، لن تهدأ قط، بل ستزداد اشتعالاً كونها تنكأ جراح ملفات لم تندمل بعد، سواء كان ذلك يتعلق بالانسحاب الفوضوي الأميركي من أفغانستان خلال عهد بايدن، وما رافقه من هجرة نحو 77 ألف أفغاني إلى أميركا، أو ملف الهجرة وترحيل المهاجرين غير الشرعيين من البلاد بطرق عنيفة تثير الجدل مع الديمقراطيين والمدافعين عن حقوق الإنسان، أو قضية نشر قوات "الحرس الوطني" في الولايات و"المدن الزرقاء" التي يسيطر عليها الديمقراطيون التي كثيراً ما أثارت تحديات قانونية ودستورية منذ أن شرع الرئيس ترمب في نشر هذه القوات بعد عودته للبيت الأبيض.
محاصرة الديمقراطيين
منذ أن وقعت حادثة الهجوم على عنصري "الحرس الوطني" خارج محطة مترو "فاراغوت ويست" قرب البيت الأبيض في الساعة الثانية والنصف بعد ظهر الأربعاء، حمل مؤثرو حملة "لنجعل أميركا عظيمة مجدداً"، المعروفة اختصاراً باسم "ماغا"، الديمقراطيين مسؤولية العنف. وسارع رواد مواقع التواصل الاجتماعي منهم إلى إلقاء اللوم في الهجوم على خطاب الديمقراطيين، إذ أطلق بعضهم مثل شايا رايشيك، اليمينية الشهيرة، سلسلة منشورات تستهدف السياسيين الديمقراطيين، وشاركت مقطع فيديو لعمدة شيكاغو براندون جونسون وهو يشارك في احتجاج ضد القوات الفيدرالية.
وفي مقطع آخر، أظهرت عضوة مجلس النواب عن ولاية أوريغون ماكسين ديكستر وهي تنتقد قراراً قضائياً فتح الباب أمام نشر "الحرس الوطني" في بورتلاند، بينما قال ناشط آخر إن الليبراليين يدعمون العنف بأي ثمن.وعلى رغم من إدانته للعنف في بيان نشره على منصة "إكس"، وتعبيره عن شعوره بالحزن الشديد لإطلاق النار على أفراد "الحرس الوطني"، لم يلق منشور الرئيس السابق جو بايدن استحساناً من مستخدمي الإنترنت اليمينيين، عقب الكشف عن هوية مطلق النار، فقد حملوه مسؤولية هذه المأساة لأنه سمح للقاتل بدخول الولايات المتحدة، بينما انتقد آخرون الحزب الديمقراطي واعتبروا أن أيديه ملطخة بدماء ضحايا الحادثة.
كما انتقد الرئيس ترمب سلفه بايدن، قائلاً إن الأفغاني المشتبه به الذي انتهت مدة إقامته القانونية وقدم طلباً للجوء السياسي، أحضرته جواً إدارة بايدن في سبتمبر (أيلول) 2021 ضمن برنامج "مرحباً بالحلفاء"، الذي سمح لبعض الأفغان الذين ساعدوا القوات الأميركية وكانوا عرضة لانتقام "حركة طالبان"، بدخول الولايات المتحدة بعد استعادة الحركة للسلطة في أفغانستان.
سمح هذا الهجوم بمحاصرة الديمقراطيين الذين سجلوا نقاطاً سياسية خلال الأسابيع الأخيرة سواء من خلال انتصارات انتخابية في عدد من الولايات، أو عبر قيادة جهود الكونغرس في الكشف عن ملفات جيفري إبستين المدان بالاعتداءات الجنسية على فتيات قاصرات، الذي ينفي ترمب أية صلة قوية به. كما وفرت الحادثة زخماً للرئيس ترمب في وقت يحاول فيه انعاش الاقتصاد الأميركي ومواجهة تحريض عدد من القيادات الديمقراطية في الكونغرس للجنود الأميركيين سواء "الحرس الوطني" والجيش بعدم الامتثال لأوامر الإدارة إذا كانت مخالفة للدستور والقانون.
المهاجرون في مرمى النيران
أدت حادثة الأربعاء التي تأتي عشية عيد الشكر في الولايات المتحدة، إلى توفير وقود إضافي لترمب كي يواصل حملته التي بدأها منذ عودته للبيت الأبيض، واعداً بأكبر عملية ترحيل جماعي في تاريخ الولايات المتحدة، تستهدف أكثر من 10 ملايين مهاجر غير شرعي يعيشون في أميركا، وهي الحملة التي أدت إلى انخفاض حاد في عدد حالات عبور الحدود، وتضاعف المحتجزين لدى دائرة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك المعروفة باسم "آيس" (ICE) إلى نحو 60 ألف شخص حتى نهاية سبتمبر الماضي.
ومن خلال وصف ترمب إطلاق النار على اثنين من أفراد الحرس الوطني في العاصمة بأنه عمل إرهابي، وجريمة ضد الإنسانية، واعتداء شنيع، وعمل شرير ينم عن كراهية وإرهاب، يوضح الرئيس الأميركي أنها ليست مجرد جريمة عابرة، بل جريمة ضد الأمة الأميركية بأكملها كون المشتبه به أجنبي دخل الولايات المتحدة من أفغانستان التي تعد حفرة من الجحيم، ومن ثم يجب اتخاذ جميع التدابير اللازمة لإبعاد أي أجنبي من أي بلد لا ينتمي إلى أميركا، مضيفاً "إذا لم يكن بمقدور هؤلاء حب بلدنا، فنحن لا نريدهم".
كانت تلك إشارة واضحة بأن ترمب سيوسع نطاق حملته غير مبال بالانتقادات التي توجه إليه من الديمقراطيين والمدافعين عن حقوق الإنسان، الذين أثاروا دوماً مسألة الإفراط في العنف المستخدم من العملاء الفيدراليين في "آيس" خلال اعتقال المهاجرين غير الشرعيين التي اعتبر ترمب أنها لم تتجاوز الخطوط الحمراء.
وما يعكس سرعة إجراءات تنفيذ سياسة التوسع في تضييق الخناق على المهاجرين بصورة عامة وغير الشرعيين بصورة خاصة، إعلان إدارة خدمات المواطنة والهجرة الأميركية عبر مواقع التواصل الاجتماعي أنها أوقفت موقتاً طلبات الهجرة للمواطنين الأفغان إلى أجل غير مسمى، ريثما تجرى مراجعة إضافية لبروتوكولات الأمن والتدقيق.
وحتى قبل إعلان هوية المشتبه به في الحادثة، هاجمت حسابات كبيرة بصورة استباقية المهاجرين غير الشرعيين، متهمين إياهم بارتباطهم بإطلاق النار، وسارع مؤيدو ترمب من حركة "ماغا" مثل الناشطة السياسية اليمينية المتطرفة المعروفة بآرائها المعادية للمسلمين لورا لومر، التي يتابعها 1.8 مليون حساب، إلى التكهن بخلفية مطلق النار على منصة "إكس"، إذ افترضت أنه شيوعي أو مسلم أو إرهابي متحول جنسياً، أو يساري متطرف. كما توقع تيم بول، وهو أحد المراسلين اليمينيين المعتمدين في البنتاغون، أن يكون ما وصفه "بالإرهاب الإسلامي" خلف الهجوم من دون تقديم أي دليل.
التأثير في الحرس الوطني
لا شك أن حادثة إطلاق النار يوم الأربعاء سيشعل الجدل حول كيفية استخدام الرئيس ترمب للحرس الوطني كجزء من حملته على الجريمة، إذ سارع بإصدار أوامره إلى وزير الحرب بيت هيغسيت بنشر 500 جندي إضافي في واشنطن رداً على الحادثة، وبهذا سيصل ترمب بعدد عناصر الحرس الوطني إلى 2700 من ولاية وست فرجينيا وواشنطن العاصمة (مقاطعة كولومبيا) وولايات جمهورية عدة أخرى، موجودين حالياً في العاصمة، كجزء من عملية انتشار أمر بها الرئيس للمرة الأولى في أغسطس (آب) الماضي كوسيلة بارزة لمكافحة الجريمة.
في الوقت ذاته، طلبت إدارة ترمب من محكمة استئناف فيدرالية، إصدار أمر طوارئ يسمح للحرس الوطني بالبقاء في العاصمة، على رغم حكم صادر عن محكمة أدنى درجة الأسبوع الماضي اعتبر نشر هذه القوات غير قانوني، إذ أمرت قاضية المحكمة الجزئية الأميركية جيا كوب الإدارة بوقف نشر "الحرس الوطني" ريثما تنظر دعوى قضائية في شأن هذه المسألة في المحكمة، وحكمت بأن القرار ألحق بواشنطن العاصمة ضرراً لا يمكن إصلاحه بسلطاتها السيادية بموجب قانون الحكم الذاتي، وهو القانون الصادر عام 1973 الذي منح سكان العاصمة حكومتهم المنتخبة، ولهذا اعتبرت القاضية أن قرار ترمب انتهك حق المقاطعة في حكم نفسها.
غير أن محاولة ترمب الاستفادة من اللحظة الراهنة التي يبدي فيها الشعب الأميركي تعاطفاً مع الجنديين المصابين من الحرس الوطني اللذين ما زالا في حالة حرجة للغاية، وردد حاكم ولاية وست فيرجينيا عقب الحادثة أنهما توفيا، لم توقف انتقادات بعضهم لنشر "الحرس الوطني"، إذ اعتبر العميد ديفيد ماكغينيس، رئيس جمعية الحرس الوطني الأميركية، وهي جماعة مناصرة، أن قرار نشر تلك القوات في دوريات راجلة زاد من احتمالية إطلاق النار عليهم، وتوقع أن يسوق البيت الأبيض الأمر على اعتبار أن هذه حالة أخرى تبرر ضرورة نشر "الحرس الوطني" في كل شارع في كل "مدينة زرقاء" (تابعة للديمقراطيين) في البلاد.
ونشرت صحيفة "نيويورك تايمز" تعليقاً عقب انتشار خبر الحادثة من أحد أفراد الحرس الوطني الذين نشروا الصيف الماضي في مدينة لوس أنجليس بولاية كاليفورنيا، قال فيه إنه وقادته كانوا قلقين من أن المهمة زادت من خطر إطلاق النار على المدنيين أو تعرضهم لإطلاق نار من مدنيين.
وفي العاصمة، حذر القادة من أن القوات تواجه بيئة تهديد متصاعدة وأن جهات التهديد الخبيثة المتورطة في أعمال عنف قائمة على المظالم، وتلك المستوحاة من المنظمات الإرهابية الأجنبية قد تنظر إلى مهمة "الحرس الوطني" كهدف أو فرصة، وبحسب التوجيهات الداخلية التي وزعت على قوات "الحرس الوطني" في واشنطن، كانت هناك خشية من أن يحاول السكان المدنيون ذوو الآراء السياسية المختلفة مواجهة عناصر "الحرس الوطني". وأشارت مذكرة أخرى، مؤرخة في الـ12 من أغسطس (آب) الماضي، من قادة "الحرس الوطني" في واشنطن، توضح أهداف النشر والأخطار المرتبطة به، إذ ذكرت أن المهمة تتيح فرصة للمجرمين والمتطرفين العنيفين والجماعات ذات الدوافع السياسية والأفراد المنفردين لتحقيق مصالحهم.وكان وجود قوات الحرس الوطني في واشنطن محل جدل سياسي طوال الوقت، إذ يقول المؤيدون إن نشرها أسهم في استقرار الأحياء التي تعاني الجريمة، بينما يجادل المنتقدون بأن الوجود المطول لقوات من خارج الولاية يطمس الخط الفاصل بين إنفاذ القانون المدني والعمليات العسكرية، كما اشتكى المنتقدون من أن القانون الفيدرالي يحظر استخدام القوات العسكرية لإنفاذ القانون المحلي، بينما يؤكد المؤيدون أن مساعدة القوات للوكلاء الفيدراليين والشرطة المحلية قانونية وضرورية.
ويتمتع كل من حكام الولايات والرئيس بسلطة تفعيل ونشر "الحرس الوطني"، لكن عندما قام غالبية الرؤساء بذلك، كان ذلك استجابة لطلب مسؤولي الولايات أو المسؤولين المحليين. على سبيل المثال، أمر الرئيس جورج بوش الأب بنشر "الحرس الوطني" في كاليفورنيا في عام 1992، بناء على طلب من الحاكم للمساعدة في إخماد أعمال الشغب المتعلقة بضرب رودني كينغ.
لكن عندما نشر الرئيس ترمب "الحرس الوطني" في شوارع لوس أنجليس خلال الصيف الماضي، رداً على الاحتجاجات ضد حملته على الهجرة، كانت هذه المرة الأولى منذ حركة الحقوق المدنية في 1965 التي يستدعي فيها رئيس للولايات المتحدة قوات الحرس الوطني إلى ولاية ضد إرادة الحاكم، ولهذا أصدر قاض فيدرالي حكماً في وقت لاحق يقضي بأن نشر ترمب للقوات في لوس أنجليس كان غير قانوني، قائلاً إن الرئيس حول القوات فعلياً إلى قوة شرطة وطنية في انتهاك لقانون يدعى "بوس كوميتاتوس"، وهو قانون يعود للقرن الـ19، ويحظر عموماً استخدام القوات الفيدرالية لإنفاذ القانون المدني المحلي.
ومع ذلك، لا يبدو أن الرئيس ترمب سيتراجع عن قراراته بنشر قوات الحرس الوطني في كل مكان يرى فيه احتياجاً لمكافحة الجريمة أو لتعزيز وكالات إنفاذ القانون الفيدرالية مهما كلفه ذلك، ولهذا لم يكن من المستغرب أن يأمر البنتاغون بنشر 500 عنص إضافي من "الحرس الوطني" في العاصمة كعلامة بارزة على سياسته المستقبلية.