• الساعة الآن 10:20 AM
  • 19℃ صنعاء, اليمن
  • -18℃ صنعاء, اليمن

الذكاء الاصطناعي في وجه الجاسوس التقليدي

news-details

في مطالع حقبة الخمسينيات من القرن الـ 20 واجهت الولايات المتحدة تحدياً أمنياً خطراً في خضم منافستها الجارية آنذاك مع الاتحاد السوفياتي، فلم تعد صور طائرات الاستطلاع الألمانية من فترة الحرب العالمية الثانية للقدرات العسكرية السوفياتية توافر المعلومات الكافية، كما أن قدرات المراقبة الأميركية لم تعد قادرة على اختراق المجال الجوي المغلق للاتحاد السوفياتي، وحينها أدى ذلك النقص إلى إطلاق مبادرة مبهرة وجريئة تمثلت بتطوير وصنع طائرات "يو-2" الاستطلاعية.

وخلال بضعة أعوام توصلت مهمات "يو-2" إلى إعطاء صور استخباراتية حساسة للمنشآت الصاروخية السوفياتية في كوبا، وقدمت إلى البيت الأبيض رؤى شبه فورية عما يجري خلف "الستار الحديدي".

واليوم تقف الولايات المتحدة عند منعطف مماثل، إذ تتكثف المنافسة بين واشنطن وخصومها حول مستقبل النظام العالمي، وعلى نحو يشبه كثيراً مطلع الخمسينيات من القرن الـ 20، يجب على الولايات المتحدة اليوم الاستفادة من قطاعها الخاص العالمي المدى وقدراتها الواسعة في الابتكار كي تتفوق على خصومها، وينبغي على مجتمع الاستخبارات الأميركية التمرس بتوظيف مصادر قوة البلاد كي يقدم رؤى إلى صناع السياسة بإيقاع يتوازى مع سرعة العالم المعاصر.

ويتيح إدماج الذكاء الاصطناعي، خصوصاً عبر النماذج اللغوية الكبرى، فرصاً نوعية غير مسبوقة في تحسين عمليات الاستخبارات والتحليل مما يعزز القدرة على دعم أفضل لصناع السياسة وبصورة أسرع من حاله حاضراً، وفي المقابل تأتي هذه الثورة التكنولوجية مع جوانب سلبية وازنة خصوصاً مع استفادة الخصوم من تطورات متقدمة مماثلة بغية كشف عمليات الاستخبارات الأميركية ومجابهتها.

ومع استمرار سباق الذكاء الاصطناعي يجب على الولايات المتحدة أن تتحدى نفسها بأن تكون الأولى في الاستفادة من الذكاء الاصطناعي، وكذلك الحال بالنسبة إلى حماية نفسها من أعداء قد يستخدمون تلك التكنولوجيا لإحداث الأذى، إضافة إلى تسنمها مكان الصدارة في استعمال الذكاء الاصطناعي بطريقة تتوافق مع القوانين والقيم السارية في دولة ديمقراطية.

وبالنسبة إلى مجتمع الاستخبارات في الولايات المتحدة يتطلب الإيفاء بالوعد وإدارة أخطار الذكاء الاصطناعي الدخول في تغييرات تكنولوجية وثقافية، إضافة إلى الرغبة في تغيير طريقة عمل الوكالات المنضوية تحت لوائه، إذ تستطيع المجتمعات الاستخباراتية والعسكرية الأميركية التمرس بالإمكانات الكامنة للذكاء الاصطناعي مع العمل على تخفيف الأخطار المتأصلة فيه، وضمان احتفاظ الولايات المتحدة بمرتبتها التنافسية المتقدمة ضمن مشهدية عالمية لا تكف عن التطور السريع.

وحتى أثناء نهوضها بتلك المهمات يجب على الولايات المتحدة أن تتحدث بشفافية إلى الجمهور الأميركي والسكان والشركاء في أرجاء العالم عن الكيفية التي تعتزم هذه البلاد اعتمادها في التوصل إلى استعمال أخلاقي ومأمون للذكاء الاصطناعي يتوافق مع قوانينها وقيمها.

أكثر وأفضل وأسرع

ينطوي الذكاء الاصطناعي على إمكان إحداث ثورة ضمن مجتمع الاستخبارات بسبب قدرته على التعامل مع كميات هائلة من المعلومات وتحليلها بسرعات غير مسبوقة، والمعلوم أن عملية تحليل مجموعات ضخمة من بيانات يجري جمعها باستمرار بغية توليد تحذيرات في أوقات مناسبة وحساسة أمر صعب، وباستطاعة هيئات الاستخبارات الأميركية توظيف قدرات أنظمة الذكاء الاصطناعي في التعرف على الأنماط لتحديد وتنبيه المحللين البشر إلى الأخطار المحتملة، على غرار إطلاق الصواريخ أو التحركات العسكرية أو التطورات الدولية المهمة التي يعلم المحللون مدى اهتمام صناع القرارات الرفيعي المستوى بها.

ومن شأن هذه القدرة ضمان ظهور تحذيرات حاسمة في اللحظات المناسبة، إضافة إلى كونها عملانية وذات دلالة مما يتيح استجابات أشد فاعلية سواء بالنسبة إلى الأخطار التي تتفاقم بسرعة أو الفرص الصاعدة في صنع السياسة، وتتعزز تلك الأنواع من التحليل حينما تستخدم نماذج الذكاء الاصطناعي المتعددة الأنماط التي تعمل عبر التحليل المتكامل للنصوص والصور والأصوات. ومثلاً فإن استخدام الذكاء الاصطناعي في التكامل المرجعي المتبادل بين صور الأقمار الاصطناعية وبين إشارات الاستخباراتية يؤدي إلى تقديم منظور شامل للتحركات العسكرية، مما يمكّن من التوصل إلى تقييمات أسرع وأدق للأخطار، إضافة إلى تقديم طرق محتملة جديدة في إيصال المعلومات إلى صناع السياسة.

وكذلك يستطيع محللو الاستخبارات إلقاء عبء المهمات المتكررة المستنفدة للوقت على الآلات بغية التركيز على الأعمال الأكثر تطلباً للجهد على غرار التوصل إلى توليد تحليلات أصيلة ومعمقة، وزيادة الروئ الواسعة والشاملة في مجتمع الاستخبارات مع رفع مستوى إنتاجيته، وثمة مثل جيد على ذلك يتمثل في الترجمة من اللغات الأجنبية، فلقد استثمرت الوكالات الاستخباراتية الأميركية بكثافة وفي وقت باكر في الذكاء الاصطناعي المزود بالقدرات المتعددة وأثمر رهانها في ذلك المضمار، وتنامت قدرات النماذج اللغوية للذكاء الاصطناعي وباتت أكثر تطوراً ودقة، وخلال الآونة الأخيرة أطلقت شركة "أوبن إيه آي" [صانعة روبوت الدردشة "تشات جي بي تي"] نموذجيها "أو1" و"أو3" اللذين أظهرا تقدماً وازناً في الدقة والتفكير المنطقي، وبالتالي فمن المستطاع استخدام النموذجين كليهما في مهمات تتضمن الترجمة والتحليل للنصوص والمواد السمعية وأشرطة الفيديو بسرعة كبيرة.

وعلى رغم التحديات المستمرة يجري تدريب النماذج المستقبلية للذكاء الاصطناعي على كميات متزايدة من البيانات المكتوبة بغير اللغة الإنجليزية، مما يجعلها قادرة على تمييز الفوارق الدقيقة بين اللهجات وفهم المعنى والسياق الثقافي للهجة أو الإشارات النمطية على الإنترنت، وبفضل الاعتماد على هذه الأدوات يركز مجتمع الاستخبارات على تدريب كوادر من أصحاب التخصصات اللغوية العالية، مع ملاحظة أن هؤلاء يصعب العثور عليهم بالأصل ولا يحوزون موافقة الجهات الأمنية عليهم إلا بصعوبة، إضافة إلى أن تدريبهم يستغرق وقتاً طويلاً، وبالطبع مع وفرة مواد اللغات الأجنبية في الوكالات التي يتطلب عملها ذلك، قد تتمكن هيئات الاستخبارات الأميركية من إجراء عملية انتقاء سريعة لجبل من المعلومات الاستخباراتية الأجنبية التي تتلقاها باستمرار بغية العثور على الإبر المهمة في أكوام القش من تلك المواد الأولية.

على الولايات المتحدة أن تتحدى نفسها بأن تكون الأولى في سباق الذكاء الاصطناعي

لا يمكن التقليل من مدى أهمية هذه السرعة بالنسبة إلى صُناع السياسة، وتستطيع النماذج اللغوية للذكاء الاصطناعي التفتيش بسرعة عبر مجموعات من بيانات الاستخبارات والمعلومات من المصادر المفتوحة والاستخبارات البشرية التقليدية، ثم تتولى تلك النماذج توليد ملخصات أو تقارير تحليلية أولية فيغدو باستطاعة المحللين التثبت منها أو تنقيحها مع ضمان شمولية ودقة المنتجات النهائية، وكذلك يستطيع المحللون البشر العمل بتآزر مع الذكاء الاصطناعي بغية حل المسائل التحليلية واختبار الأفكار وخوض جولات عصف فكري يخوضها البشر مع الآلات الذكية بطريقة تعاونية تؤدي إلى تحسين كل خلاصة موثقة في تحليلاتهم، والتوصل إلى تقديم معلومات استخباراتية مصقولة وبسرعة عالية.

ولنفكر في التجربة الإسرائيلية التي جرت في يناير (كانون الثاني) 2018 حينما استطاعت هيئة استخبارات، وهي الـ "موساد"، أن تخترق سراً منشأة إيرانية وتسطو على نحو 20 في المئة من المواد الأرشيفية التي تتضمن تفاصيل النشاطات الإيرانية النووية بين عامي 1999 و2003.

ووفق رسميين إسرائيليين فقد جمع الـ "موساد" 55 ألف صفحة من الوثائق، إضافة إلى عدد مماثل من الملفات المخزنة على أسطوانات رقمية مدمجة تشمل مجموعات من الصور وأشرطة الفيديو، وكانت تلك المواد كلها باللغة الفارسية، وبمجرد الحصول على ذلك الأرشيف مارس كبار المسؤولين ضغوطاً كبيرة على المتخصصين في الاستخبارات بغية الحصول على تقييمات تفصيلية عن محتويات تلك الوثائق وعن مدى تضمنها ما يدل على جهود إيرانية جارية لصنع قنبلة نووية، وتطلب الأمر من المتخصصين أشهراً عدة تضمنت مئات الساعات من العمل الشاق بهدف ترجمة كل صفحة ومراجعتها يدوياً، بغية التوصل إلى المحتويات التي لها دلالة على الأنشطة المطلوبة، ثم صوغ تلك المعلومات كلها في تقييمات.

ومع القدرات التي بات الذكاء الاصطناعي يمتلكها اليوم بات من المستطاع إنجاز الخطوتين الأوليين خلال بضعة أيام بل ربما ساعات، مما يتيح للمحلين البشر فهم تلك المعلومات الاستخباراتية ووضعها في السياقات المطلوبة بسرعة كبيرة.

عالم شجاع جديد

وعلى رغم المزايا المتعددة التي يتيحها الذكاء الاصطناعي لكنه يتضمن في ثناياه أخطاراً وازنة جديدة، خصوصاً مع اشتغال خصوم الولايات المتحدة على تطوير تقنيات مماثلة، فتقدم الصين في الذكاء الاصطناعي، وخصوصاً أنظمة الكمبيوتر في الرؤية والمراقبة، تهدد عمليات الاستخبارات الأميركية، وبسبب النظام الاستبدادي الذي يحكمها تفتقد تلك البلاد إلى ضوابط الخصوصية فيما تغيب الحماية عن الحريات المدنية فيها، وتؤدي تلك النواقص إلى تعزيز عمليات جمع المعلومات على نطاق واسع مما أدى إلى تراكم مجموعات هائلة الضخامة من البيانات، وتُدرّب النماذج اللغوية للذكاء الاصطناعي التي تتحكم الحكومة فيها على كميات ضخمة من المعلومات الشخصية والسلوكية، مع إمكان وضعها ضمن استخدامات شتى على غرار المراقبة والسيطرة الاجتماعية.

إن الحضور العالمي للشركات الصينية على غرار "هواوي" في أنظمة الاتصالات الحديثة وبرمجيات الكمبيوتر قد يمنح الصين وصولاً مهيئاً إلى كتل ضخمة من البيانات، خصوصاً كتل الصور القابلة للاستخدام في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي المتخصصة في التعرف على الوجوه، ويثير هذا الأمر اهتماماً خاصاً في بلدان تستقر فيها قواعد عسكرية أميركية، وبالتالي يجب على مجتمع الاستخبارات التفكير في الكيفية التي بُنيَت فيها النماذج الصينية المستندة إلى مجموعات بمثل ذلك الاتساع، وأن ذلك قد يعطي الصين ميزة إستراتيجية متفوقة.

ولا يقتصر الأمر على الصين، فهناك ظاهرة تكاثر نماذج الذكاء الاصطناعي "المفتوحة المصدر" على غرار نموذج "إل لاما"  Llama الذي تصنع شركة "ميتا" والنماذج التي تصنعها شركة "ميسترال" الفرنسية للذكاء الاصطناعي، وكذلك الحال لنموذج "ديب سيك"  Deep Seekالصيني، وتؤدي تلك الظاهرة إلى وضع قدرات قوية للذكاء الاصطناعي في أيدي مستخدمين منتشرين عبر العالم وبكلفة معقولة، ويتسم معظم أولئك المستخدمين بأنهم غير أشرار لكن بعضهم ليس كذلك، بما في ذلك الأنظمة التسلطية والقراصنة الإلكترونيين والعصابات الإجرامية، وتعمل تلك الأطراف المؤذية على استخدام النماذج اللغوية الكبرى بهدف توليد محتويات زائفة وخبيثة ونشرها أو تنفيذ هجمات سيبرانية.

وعلى غرار الخبرة مع التقنيات الأخرى المتعلقة بالعمل الاستخباراتي، مثل القدرة على اعتراض الإشارات [الاتصالات الهاتفية واللاسلكية وموجات الراديو والتلفزيون]، والمسيرات المؤتمتة، فستمتلك الصين وإيران وروسيا كل أنواع الدوافع كي تتشارك اختراقاتها العلمية في الذكاء الاصطناعي مع دول تعتبرها من زبائنها، إضافة إلى مجموعات تعمل خارج سيطرة مؤسسات الدولة مثل "حزب الله" و"حماس" وشركة "فاغنر"، وبالتالي يتولد عن تلك المعطيات زيادة الخطر على الولايات المتحدة وحلفائها.

واستكمالاً ستغدو نماذج الذكاء الاصطناعي للجيش الأميركي ومجتمع الاستخبارات في الولايات المتحدة أهدافاً جذابة للخصوم، ومع تنامي قدرات تلك النماذج ووصولها إلى قلب عملية صناعة القرار في الأمن القومي الأميركي، ستُصبح نماذج الذكاء الاصطناعي الاستخباراتية أُصولاً وطنية حيوية يجب الدفاع عنها ضد خصوم يسعون إلى إضعافها أو التلاعب بها، ويجب على مجتمع الاستخبارات الأميركية الاستثمار في تطوير نماذج محمية أمنياً في الذكاء الاصطناعي وإرساء معايير "صنع الفرق الحُمر" والتقييم المستمر، سعياً إلى ضمان حماية تلك النماذج ضد الأخطار المحتملة الكامنة. [الفرق الحُمر تعبير رمزي يشير إلى مجموعات تصنعها مؤسسات معينة كي تقلد أعمالاً معادية لها وبالتالي تتدبر وسائل الوقاية منها، ومن الأمثلة على ذلك الفرق التي تعمل ضمن شركات المعلوماتية وتقلد أعمال القراصنة].

وتستطيع تلك الفرق استعمال الذكاء الاصطناعي بهدف صنع هجمات سيبرانية موجهة ضد نماذج الذكاء الاصطناعي مما يؤدي إلى كشف نقاط الضعف الكامنة، ويسهم في صوغ إستراتيجيات تخفيف ذلك الضعف ومُلافاته، وكذلك سيغدو أساساً اتخاذ إجراءات ناشطة وفاعلة تتضمن التعاون مع حلفاء في صنع تقنيات مضادة [للأخطار المحتملة التي قد تكشفها الفرق الحمر] في الذكاء الاصطناعي وكذلك الاستثمار فيها.

الوضع الطبيعي الجديد

ولن تزول تلك الأخطار بالتمني، فثمة أخطار ذاتية ينطوي عليها الانتظار المتطاول لحين وصول تقنيات الذكاء الاصطناعي إلى مرحلة النضج التام، ويشمل ذلك المخاطرة بتخلف قدرات الاستخبارات الأميركية عن نظيراتها في الصين وروسيا وغيرها من القوى التي لا تتدخر جهداً للمضي قدماً في تطوير الذكاء الاصطناعي، وهناك حاجة إلى أن يتكيف مجتمع الاستخبارات ويبتكر بغية ضمان أن تستمر الاستخبارات في كونها مساحة تتمتع فيها الولايات المتحدة وحلفاؤها بالأفضلية، سواء تعلق ذلك بتقديم الإنذارات في أوقات حساسة أو إعطاء رؤى إستراتيجية بعيدة المدى، وبالتالي ينبغي على هيئات الاستخبارات أن تتمرس بسرعة في استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي وتحويلها إلى عنصر تأسيسي في أعمالها، ويشكل ذلك الطريق المأمونة الوحيدة للتوثق من حصول الرؤساء الأميركيين مستقبلاً على أفضل دعم استخباراتي ممكن، والبقاء في موقع التفوق على الخصوم وحماية القدرات والعمليات الحساسة للولايات المتحدة، وكذلك يتطلب تنفيذ تلك التغييرات نقلة ثقافية ضمن مجتمع الاستخبارات.

واليوم يعمل محللو المعلومات الاستخباراتية على صنع منتجات استناداً إلى معلومات وبيانات استخباراتية مع تلقيهم بعض الدعم من نماذج الذكاء الاصطناعي المتوافرة حاضراً في تحليل الصور والأصوات، وللمضي قدماً ينبغي على مسؤولي الاستخبارات اللجوء إلى استكشاف إمكان العمل عبر مقاربة هجينة تجمع بين استعمال نماذج للذكاء الاصطناعي مدربة على بيانات غير سرية ومتوافرة في السوق، وبين معلومات سرية ومدققة، وفي المقابل يجب التأكد من توافق تلك المقاربة مع القوانين السارية، وقد ينجم عن هذا الخليط من التكنولوجيا والعمليات التقليدية لجمع المعلومات التوصل إلى كيان في الذكاء الاصطناعي يستطيع تقديم قاموس لتفسير الصور والإشارات والمصادر المفتوحة وأنظمة القياس بالاستناد إلى رؤية متكاملة تجمع النشاطات الطبيعية والنافرة، والتحليل المؤتمت للصور والترجمة المؤتمتة للصوت.

وبغية تسريع هذا الانتقال يجب على قادة الاستخبارات إعطاء الصدارة لفوائد التكامل مع الذكاء الاصطناعي مع التشديد على ما يقدمه ذلك من كفاءة وقدرات محسنة، ولقد جرى إرساء الكادرات التي تعمل مع مسؤولي الذكاء الاصطناعي الأساس المعيّنين حديثاً ضمن الوكالات العسكرية والاستخباراتية الأميركية، كي تمثل القدوة ضمن تلك الوكالات وضمن مضمار تعزيز الابتكار في الذكاء الاصطناعي وإزالة العوائق أمام تنفيذ تبني التكنولوجيا.

ومن شأن المشاريع الريادية الأولية والمكاسب الأولية [المتعلقة بتبني الذكاء الاصطناعي] أن تعمل على مراكمة قوة دفع لمصلحة الذكاء الاصطناعي والثقة بقدراته، وكذلك يستطيع أولئك المسؤولون تسخير الخبرات المكتسبة في المختبرات الوطنية، وكذلك الحال بالنسبة إلى الشركاء الآخرين، بهدف اختبار نماذج الذكاء الاصطناعي وتحسينها، إضافة إلى ضمان فاعليتها وأمنها، وتوخياً لإضفاء الطابع المؤسساتي على ذلك التغيير يجب على القادة تكوين حوافز أخرى في منظماتهم تشمل الترقيات وفرص التدريب ومكافأة المقاربات المبتكرة والموظفين والوحدات التي تُظهر اقتدارها في الاستعمال الفاعل للذكاء الاصطناعي، ولقد عمل البيت الأبيض على تكوين السياسة اللازمة في استعمال الذكاء الاصطناعي ضمن وكالات الأمن القومي، وفي عام 2023 وضع الرئيس بايدن توجيهاً تنفيذياً يتعلق بالذكاء الاصطناعي المأمون والآمن والموثوق، ورسم ذلك التوجيه الإرشادات اللازمة للاستعمال الأخلاقي والأمن للتكنولوجيا، وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2024 أصدر بايدن "مذكرة الأمن الوطني رقم 25" التي تعتبر إستراتيجية تأسيسية لأميركا في مضمار ترويض قوة الذكاء الاصطناعي وكذلك التعامل مع أخطاره بغية تعزيز الأمن الوطني، وحاضراً يجب على الكونغرس أن يؤدي دوره الخاص في ذلك المضمار، وثمة حاجة إلى مخصصات تُوجه إلى أقسام ووكالات بغية خلق البنية التحتية اللازمة للابتكار والتجارب وإجراء نشاطات وتقييمات ريادية أولية وتوسيعها، والاستمرار في الاستثمار في تقييم القدرات بهدف ضمان أن تبني الولايات المتحدة تقنيات موثوقة وعالية الأداء في الذكاء الاصطناعي. 

يجب على قادة الاستخبارات إعطاء الصدارة لفوائد التكامل مع الذكاء الاصطناعي

وفي السياق نفسه فإن المجتمعات الاستخباراتية والعسكرية ملتزمة بالإبقاء على العنصر البشري في مركز عملية اتخاذ القرار التي يساندها الذكاء الاصطناعي، وقد كونت أدوات وأطراً من أجل النهوض بذلك، وستحتاج الوكالات إلى خطوط إرشادية عن كيفية استخدام محللي البيانات العاملين فيها لنماذج الذكاء الاصطناعي كي يتثبتوا من إيفاء منتجات الاستخبارات بمعايير الموثوقية المعتمدة في مجتمع الاستخبارات، وكذلك ينبغي على الحكومة أن تُبقي على توجيهات واضحة في التعامل مع بيانات مواطني الولايات المتحدة في ما يتعلق بتدريب واستخدام النماذج اللغوية الكبرى للذكاء الاصطناعي، وسيضحي من الأهمية بمكان الموازنة بين استعمال التقنيات الصاعدة وبين حماية خصوصية المواطنين وحرياتهم المدنية، ويعني ذلك تعزيز آليات الإشراف وتحديث أطر العمل ذات الصلة كي تصبح معبرة عن قدرات الذكاء الاصطناعي وأخطاره، إضافة إلى تعزيز ثقافة التمرس بالطاقات الكامنة في التكنولوجيا مع حماية الحقوق والحريات التي تعتبر تأسيسية في المجتمع الأميركي.

لقد بات الوضع حاضراً مغايراً لأحوال حقبة الخمسينيات من القرن الـ 20 حينما حازت الاستخبارات الأميركية قصب السبق في المنافسة على الصور الجوية وتلك الملتقطة بالأقمار الاصطناعية عبر نهوضها بنفسها بتطوير تقنيات محورية، ولكن يقتضي الفوز الآن بسباق الذكاء الاصطناعي أن يعمل مجتمع الاستخبارات على إعادة تخيل كيفية تشاركه مع صناعة التكنولوجيا في القطاع الخاص، ويمثل الأخير الأداة الرئيسة التي تستطيع الحكومة بواسطتها تحقيق التقدم الواسع في الذكاء الاصطناعي، ويستثمر القطاع الخاص مليارات الدولارات في البحوث المتعلقة بالذكاء الاصطناعي ومراكز البيانات وقوة الحوسبة، ومع أخذ التقدم والتطور الذي تنجزه تلك الشركات الخاصة فينبغي لوكالات الاستخبارات إعطاء الأولوية للاستفادة من نماذج الذكاء الاصطناعي التجارية المتوافرة ثم تحسينها بواسطة البيانات السرية، ومن شأن هذه المقاربة تمكين مجتمع الاستخبارات من توسيع قدراته بسرعة من دون الاضطرار إلى البدء مما يشبه الصفر، وكذلك فإنها تتيح له البقاء في موقع التنافس مع الخصوم.

وحاضراً ثمة تعاون جار بين وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) وشركة "آي بي أم" للكمبيوتر بهدف تكوين النموذج التأسيسي الأضخم عالمياً للذكاء الاصطناعي المتخصص في جغرافيا المواقع، وسيليه إطلاق نموذج منه إلى مجتمع صناعة الذكاء الاصطناعي على هيئة مشروع مفتوح المصدر، ويعتبر ذلك الجهد التعاوني مثالاً يبرهن على كيفية عمل ذلك النوع من التعاون بين القطاعين العام والخاص في مضمار الذكاء الاصطناعي.

وفي وقت ينكب مجتمع الأمن القومي على إدماج الذكاء الاصطناعي في مشاريعه فيجب عليه ضمان أمن ومرونة النماذج التقنية التي يعمل عليها، إذ إن إرساء المعاير في التوظيف الآمن للذكاء الاصطناعي التوليدي يشكل أمراً محورياً في الحفاظ على صدقية العمليات الاستخباراتية التي تجري بدفع من الذكاء الاصطناعي، ويشكل ذلك الأمر بؤرة التركيز الرئيسة في "مركز أمن الذكاء الاصطناعي" AI Security Center الجديد الذي أنشأته "وكالة الأمن القومي" National Security Agency، ولتعاونها مع "معهد سلامة الذكاء الاصطناعي" AI Safety Institute التابع لوزارة التجارة.

وفيما تواجه الولايات المتحدة منافسة متنامية في سياق سعيها إلى تشكيل مستقبل النظام العالمي، بات أمراً عاجلاً وملحاً أن تسثمر وكالاتها الاستخباراتية والعسكرية في التقدم الريادي للبلاد في الابتكار والقيادة لحقل الذكاء الاصطناعي، وتركز بصورة خاصة على النماذج اللغوية الكبرى بهدف تقديم معلومات سريعة محملة بدلالة عالية إلى صناع السياسة، ولا سبيل سوى أن يحصل ذلك ليتمكن أولئك الساسة من اكتساب السرعة والاتساع والعمق في الرؤى اللازمة للتحرك ضمن عالم بات أشد تعقيداً وتنافسية وأكثر اكتظاظاً بالمحتوى.

 

آن نويبرغر نائبة مساعد الرئيس مجلس الأمن القومي الأميركي ومستشارة نائبه لشؤون التكنولوجيا الصاعدة والسيبرانية، وقد عملت بين عامي 2009 و2021 في مناصب قيادية في العمليات الاستخباراتية والأمن السيبراني في "وكالة الأمن القومي"، بما في ذلك أول مديرة لإدارة الأخطار في الوكالة.

مترجم عن "فورين أفيرز"، 15 يناير (كانون ثاني) 2025

شارك المقال: