فؤاد محمد
في عالم يُقاس تقدم الأمم بمدى احترامها لعلمائها ومعلميها، نجد أنفسنا أمام مشهد مُفزع يهز الضمير الإنساني. مشهد يُصوِّر كيف تُعامَل الفئة التي تحمل على أكتافها أمانة بناء الأجيال وإضاءة عقولهم. كيف تُعامَل الفئة التي تُعلِّم أطفالنا القراءة والكتابة، وتُخرج الأطباء والمهندسين والعلماء. كيف تُعامَل الفئة التي تُعتبر في دول العالم ثروة وطنية تُصان وتُكرَّم. هنا، في هذا المكان، تُصرف نصف رواتبهم، ثم يُحالون إلى التقاعد القسري، ويُرفعون كمنقطعين عن العمل، وكأنهم أرقام في سجلات، لا قلوب تنبض بالعطاء، ولا عقول تفيض بالعلم.
هذه ليست مجرد إهانة للمعلمين والأكاديميين، بل هي إهانة لكل طالب جلس على مقعد الدراسة، وكل أسرة علقت آمالها على التعليم، وكل مجتمع يحلم بمستقبل أفضل. هذه جريمة تُرتكب في حق الإنسانية، وتخدش كرامة الأمة.
المعلمون والأكاديميون.. صناع المستقبل أم ضحايا الغلبة؟
في دول مثل فنلندا وسنغافورة، يتمتع المعلمون بمكانة اجتماعية مرموقة، ويحصلون على رواتب مجزية، ويتمتعون بظروف عمل ممتازة. هذه الدول تدرك أن الاستثمار في التعليم هو استثمار في المستقبل، وأن إهانة المعلمين أو التقليل من شأنهم هو إهانة للمجتمع بأسره.
المعلمون والأكاديميون ليسوا موظفين عاديين، بل هم حُماة المعرفة، وحراس القيم، وبناة الحضارات. هم من يُخرجون لنا الأجيال التي تقود الأمم نحو التقدم. لكن، في ظل سلطة الغلبة والأمر الواقع، تحوَّل هؤلاء الصناع إلى ضحايا. تحولوا إلى أرقام في ملفات، يُصار إلى صرف نصف رواتبهم، ثم يُرمون خارج ساحات العلم، وكأنهم عبء يجب التخلص منه.
أين الضمير؟ أين الأخلاق؟ أين القوانين التي تُفترض أن تحمي حقوقهم؟ كيف لنا أن نسمح بأن يُعامَل من يُعلِّم أبناءنا بهذه القسوة؟ كيف لنا أن نقبل بأن يُحال من يُضيء عقولنا إلى التقاعد القسري، بينما هو في أوج عطائه؟
التقاعد القسري.. موت مبكر للعطاء:
إحالة الآلاف من المعلمين والأكاديميين إلى التقاعد القسري ليس مجرد قرار إداري، بل هو إعلان عن موت مبكر للعطاء. هو قتل للإبداع، وإطفاء لشعلة العلم. كيف لنا أن نفسر إحالة أكاديمي قضى سنوات عمره في البحث والتدريس إلى التقاعد، بينما دول العالم تتسابق للاستفادة من خبراته؟ كيف لنا أن نقبل بأن يُرفع المعلمون كمنقطعين عن العمل، وكأنهم مجرد عمالة زائدة، وليسوا ثروة وطنية؟
في دول العالم، يُعتبر الأكاديميون كنوزا لا تُقدَّر بثمن. تُفتح لهم أبواب البحث والتدريس، ويُمنحون كل الدعم ليكونوا سفراء للعلم والمعرفة. أما هنا، فيُعامَلون كأرقام في ملفات، ويُرمون خارج أسوار الجامعات والمدارس.
صرف نصف الرواتب.. إهانة للكرامة:
صرف نصف راتب للمعلمين والأكاديميين ليس مجرد قرار مالي، بل هو إهانة صارخة لكرامتهم. هو رسالة واضحة بأنهم لا يستحقون حتى لقمة العيش الكريم. كيف لمعلم أن يُعيل أسرته بنصف راتب؟ كيف لأكاديمي أن يواصل بحثه وهو يعاني من ضيق الحال؟
هذه الإهانة لا تؤثر فقط على الجانب المادي، بل تمتد إلى الجانب النفسي والمعنوي. هي طعنة في ظهر من يُفترض أن يكونوا قدوة للأجيال. هي رسالة سلبية لكل طالب يحلم بأن يصبح معلما أو أكاديميا: "لا قيمة لكم هنا!".
الآثار المدمرة.. جيل ضائع ومستقبل مظلم:
إهانة المعلمين والأكاديميين ليست جريمة في حقهم فقط، بل هي جريمة في حق المجتمع بأسره. عندما يُهان المعلمون، يتراجع مستوى التعليم، وتضعف ثقة الطلاب في النظام التعليمي. عندما يُحال الأكاديميون إلى التقاعد القسري، يفقد المجتمع خبرات تراكمت على مدى سنوات.
النتيجة؟ جيل ضائع، ومستقبل مظلم. جيل يفتقر إلى القدوة، ويعاني من ضعف في التحصيل العلمي. مستقبل تُهدر فيه الطاقات، وتُهمل فيه العقول.
نداء إلى الضمير الإنساني.. إلى متى الصمت؟
إلى متى سنظل صامتين أمام هذه الجريمة؟ إلى متى سنسمح بأن تُهان الفئة التي تُعتبر في دول العالم ثروة وطنية؟ إلى متى سنتجاهل معاناة المعلمين والأكاديميين، وهم من يُخرجون لنا الأجيال التي تقود الأمم؟
هذا نداء إلى كل ذي ضمير حي، إلى كل من يؤمن بقيمة العلم والمعرفة، إلى كل من يريد مستقبلا أفضل لأبنائه. لنقف معا ضد هذه الإهانة، ولنرفع صوتنا عاليا مطالبين بوقف هذه الممارسات الظالمة.
خاتمة:
المعلمون والأكاديميون ليسوا مجرد أرقام في ملفات، بل هم قلوب تنبض بالعطاء، وعقول تفيض بالعلم. هم من يصنعون المستقبل، ويبنون الحضارات. إهانتهم هي إهانة لكل من يؤمن بقيمة العلم والمعرفة.
لنوقف هذه الجريمة، ولنعمل معا على إعادة الاعتبار لهذه الفئة التي تُعتبر في دول العالم ثروة وطنية. لأن مستقبل الأمة يبدأ من احترام معلميها وعلمائها. لأن الأمة التي لا تحترم معلميها، هي أمة بلا مستقبل.