بحسب الخارجية الأميركية، لم ترصد الولايات المتحدة أي دليل على أن قوات "فاغنر" الروسية تورطت في الإطاحة برئيس النيجر محمد بازوم، لكن القلق الأميركي يعود إلى استمرار تقلب الوضع في النيجر ما قد يمنح روسيا فرصة في الأيام المقبلة، كما أن سيناريو خروج القوات الفرنسية من مالي المجاورة لا يزال يلوح في الأفق، وهو ما قد يتكرر في النيجر مع كل من فرنسا والولايات المتحدة بعد سنوات من استثماراتهما الاستراتيجية هناك ومحاربتهما الجماعات الإسلامية المتطرفة وتأسيس قواعد تراقب المنطقة من السودان وليبيا إلى مالي ونيجيريا وبوركينا فاسو.
هل من دور لروسيا؟
على مدى أكثر من عام، كان المسؤولون الأميركيون والأوروبيون قلقين بشأن ما يسمونه موجة من المعلومات المضللة المنتشرة على شبكات التواصل الاجتماعي في غرب أفريقيا، التي كان آخرها انتشار مقطع فيديو شاهده أكثر من مليون شخص على "تيك توك" و"فيسبوك" قبل شهر واحد، يعلن فيه مذيع أخبار فرنسي أن انقلاباً جارياً في النيجر، ويشير إلى التعليقات المعادية للفرنسيين بأغلبية ساحقة، التي تتهم الرئيس بأنه دمية في يد الغرب.
كما أظهرت مقاطع فيديو أخرى انتشرت بشكل واسع النطاق، هجمات إرهابية في محاولة لإثبات أن الوجود العسكري الأميركي في النيجر جعل البلاد أقل أمناً، وفي العام الماضي، سار بضعة آلاف من النيجيريين، بعضهم يحمل أعلاماً روسية أو لافتات موالية لروسيا، في شوارع العاصمة نيامي مطالبين الجيش الفرنسي بالرحيل.
لكن القلق الأميركي والأوروبي تحول إلى حقيقة واقعة مع نجاح الانقلاب الذي نظمه الحرس الرئاسي بقيادة الجنرال عبد الرحمن تياني ضد الرئيس المنتخب محمد بازوم، وفي اليوم التالي مباشرة، تجمع مئات من الأشخاص في العاصمة ورددوا هتافات مؤيدة لـ "فاغنر" وهم يلوحون بالأعلام الروسية، ما دفع جيه بيتر فام وهو دبلوماسي أميركي سابق في أفريقيا إلى الاعتقاد بأن روسيا أرست الأساس للانقلاب وإن لم تلعب دوراً في الانقلاب نفسه.
عين "فاغنر" على النيجر
لكن التهديد الموجه إلى بازوم أثار مخاوف في أميركا من أن النيجر قد تنأى بنفسها عن الغرب، وفقاً لصحيفة "لوس أنجليس تايمز" التي نقلت عن فلافيان بومغارتنر، وهو محلل في شؤون أفريقيا بشركة "دراغون فلاي" للمخاطر الأمنية والسياسية قوله "إذا استقال محمد بازوم من الرئاسة، فمن المحتمل أن تنتقل النيجر إلى قائمة الدول التي ستسعى مجموعة فاغنر إلى التوسع فيها، حيث تضع أنظارها بالفعل على النيجر، ويرجع ذلك جزئياً إلى أنها منتج كبير لليورانيوم، تسعى إليه روسيا في حين أن الرئيس بازوم شكل عائقاً أمام فاغنر بسبب موقفه المؤيد لفرنسا وأميركا وانتقاده فاغنر علناً".
وعلى رغم إعلان المتحدث باسم البيت الأبيض أن الإدارة الأميركية ليس لديها دليل على أن روسيا أو مجموعة "فاغنر" وراء الانقلاب، على رغم أن هذه المجموعة، وهي قوات مرتزقة روسية تنشط في أفريقيا ويقودها يفغيني بريغوجين حليف الرئيس فلاديمير بوتين، أشارت ضمنياً إلى دور لها في الانقلاب، فقد قال بريغوجين في رسالة صوتية نشرت في قناة "تليغرام" "إن ما حدث هو كفاح شعب النيجر ضد المستعمرين، وهو نيل الاستقلال والتخلص من المستعمرين، ما يدل على فعالية فاغنر". وأضاف "1000 مقاتل من فاغنر قادرون على استعادة النظام وتدمير الإرهابيين، ومنعهم من إيذاء السكان المدنيين".
وما يثير القلق في واشنطن أن القناة نفسها نشرت صورة لبريغوجين وهو يصافح رجلاً مجهول الهوية على هامش القمة الروسية - الأفريقية التي استضافها الرئيس فلاديمير بوتين في سان بطرسبرغ في إشارة واضحة لإظهار قوة بريغوجين، ولهذا، فإن التحدي الذي تواجهه الولايات المتحدة الآن هو ضمان استمرار النيجر في المشاركة في جهود مكافحة الإرهاب وعدم اللجوء إلى "فاغنر"، للحصول على المساعدة الأمنية، كما فعل الآخرون في المنطقة، وهو ما عبر عنه تصريح وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، في مارس (آذار) الماضي، حين زار النيجر قائلاً "في كل مكان تذهب إليه فاغنر، تتبعها أمور سيئة".
ضربة لواشنطن وباريس
ويهدد الانقلاب العسكري الذي وقع في النيجر بتعطيل الاستراتيجية الأميركية بأكملها لمحاربة الجماعات الإسلامية الأكثر تشدداً أثناء توسعها عبر غرب أفريقيا، وربما يمنح روسيا ميزة استراتيجية في الوقت الذي تحاول فيه توسيع نفوذها في المنطقة بحسب صحيفة "وول ستريت جورنال"، بخاصة أن محور النهج الأميركي تجاه الأمن الإقليمي تركز في إرسال قوات خاصة أميركية لتدريب نخبة القوات في النيجر لمواجهة تنظيمي "القاعدة" و"داعش"، اللذين انتشرت أيديولوجيتهما العنيفة بسرعة من الشرق الأوسط وجنوب آسيا إلى منطقة الساحل.
ووفقاً لموقع "بوليتيكو" الأميركي، قد يكون تغيير النظام في النيجر بمثابة ضربة للغرب وبشكل أكثر تحديداً للولايات المتحدة وفرنسا، اللتين تربطهما علاقات قوية بالدولة الواقعة في غرب أفريقيا، ذلك أن رحيل بازوم القسري سيمثل انتكاسة أخرى في المنطقة، بعد أشهر فقط من انسحاب القوات الفرنسية من بوركينا فاسو ومالي المجاورتين، الذي عكس تضاؤل نفوذ فرنسا في غرب أفريقيا بشكل كبير في السنوات الأخيرة، وما يجري الآن يهدد وجود حوالى 1500 جندي فرنسي آخرين في النيجر.
وبالنسبة إلى الولايات المتحدة، سيعيد رحيل الرئيس المنتخب محمد بازوم نكسة للجهود الأميركية في المنطقة لسببين أوضحهما كاميرون هدسون، المنسق الأول لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، الأول أن الولايات المتحدة تحتفظ بقاعدتين لطائرات "الدرون" في البلاد، ومن هذه القواعد تجمع واشنطن المعلومات الاستخبارية على مساحة واسعة من الساحل وشرق أفريقيا، على طول الطريق من السودان إلى مالي، ومن الشمال في ليبيا إلى الجنوب في نيجيريا، لذا فهي منصة في وسط أفريقيا أصبحت الولايات المتحدة تعتمد عليها في جميع عمليات مكافحة الإرهاب وجميع عمليات جمع المعلومات الاستخبارية في المنطقة.
أما السبب الثاني فهو أن الولايات المتحدة تشارك بنشاط في مكافحة الإرهاب مع قوات النيجر لمواجهة زحف الفروع التابعة لـ"داعش" و"القاعدة" في المنطقة، ومنذ عام 2017 حين قتل أربعة من القوات الأميركية في النيجر خلال عملية دورية لمكافحة الإرهاب، تراجعت واشنطن عن القيام بمزيد من العمليات، واكتفت بتقديم المشورة والمساعدة وتدريب عناصر من القوات الخاصة في النيجر وجيشها لمواجهة هذه التهديدات الإرهابية بأنفسهم.
مستقبل غامض
ووفقاً لهدسون، فإن تضاؤل النفوذ الأميركي في النيجر بسبب كل هذا، والجيش الوطني لا يمتلك القدرة على مواصلة مكافحة الإرهاب بمفرده، ومثلما حدث في مالي عندما طردت الوحدة الأمنية الأوروبية - الفرنسية هناك، وجهت السلطات في مالي الدعوة إلى مجموعة "فاغنر"، وعلى رغم عدم وجود مؤشرات حتى الآن إلى أن النيجر تخطط لفعل الشيء نفسه، إلا أنه من الصعب تحديد ما إذا كان بإمكان النيجر الصمود أم لا أو إلى متى يمكنهم الصمود في وجه زحف القوى الإرهابية القادمة إلى بلادهم وتقترب من عاصمتهم.
وتنظر الولايات المتحدة إلى النيجر باعتبارها دولة استراتيجية في الحرب على الإرهاب وأحد حلفاء واشنطن الأكثر موثوقية ضد الجماعات الإسلامية المتطرفة مثل "القاعدة" و"داعش" و"بوكو حرام" إذ تستضيف النيجر نحو 1100 من القوات الخاصة الأميركية وفرق التدريب، وهي أيضاً واحدة من دول الساحل التي لم تنشئ تعاوناً مع روسيا على حساب الغرب، وبالنظر إلى أن مستقبل العلاقات العسكرية بين الولايات المتحدة والنيجر غير واضح، حرصت الخارجية الأميركية على عدم التسرع بوصف ما حدث بأنه انقلاب.
انقلاب أم انتفاضة؟
وعلى رغم إدانة إدارة الرئيس جو بايدن استيلاء ضباط عسكريين على السلطة، وتحدث وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن مع بازوم وتأكيده أن الشراكة الاقتصادية والأمنية القوية بين البلدين تعتمد على استمرار الحكم الديمقراطي واحترام سيادة القانون وحقوق الإنسان، إلا أن بلينكن لم يصف ما حدث على أنه انقلاب حتى يتجنب قطع المساعدات الأميركية عن النيجر.
ويحدث هذا السيناريو إذا أعلنت وزارة الخارجية عن انقلاب عسكري في بلد ما، حيث يحظر قانون الولايات المتحدة الخاص بالمساعدات الخارجية معظم المساعدة لأي دولة خلع فيها رئيس الحكومة المنتخب في انقلاب أو بمرسوم، ما لم يقرر وزير الخارجية أن تقديم المساعدة يصب في مصلحة الأمن القومي للولايات المتحدة، بالتالي يطلق تصنيف الخارجية لما حدث بأنه انقلاب، تشريعات في الكونغرس تلزم وزارة الخارجية وقف المساعدة العسكرية وأي مساعدات أخرى على الفور.
وفي حين أن وصف ما حدث بأنه انقلاب، يمكن أن يعرض للخطر بعض مصالح أميركا الأمنية على الأرض، وعندما تتردد وزارة الخارجية في القيام بذلك، فإن ما تحاول القيام به هو فقط إبقاء خياراتها مفتوحة حتى تتمكن من طلب المساعدة الأمنية من الكونغرس، ربما على إجراء موقت على أمل التمكن من استعادة الديمقراطية في البلاد أو بعض مظاهر الديمقراطية والحكم المدني.
أخر قطعة دومينو
ولأن النيجر تبدو في المنظور الاستراتيجي والأمني الأميركي أشبه بآخر قطعة دومينو في منطقة الساحل على حد وصف مسؤولين سابقين في الاستخبارات الأميركية، فإن الأمل الوحيد هو ألا تسقط هذه القطعة الأخيرة، وأشاروا إلى أن جيش النيجر ربما لا يزال يريد تعاوناً وثيقاً مع الغرب، لكن القيود التي يفرضها القانون الأميركي، قد تؤدي إلى دق إسفين بين واشنطن والنيجر.
ويشعر القادة العسكريون الأميركيون بالقلق من أن الانقلاب سيشجع المسلحين المتشددين، لا سيما من "القاعدة"، الذين شنوا آلاف الهجمات في مالي والنيجر وبوركينا فاسو منذ عام 2017 ويضغطون الآن جنوباً في المناطق الشمالية من ساحل العاج وتوغو وبنين، كما يشعر المسؤولون في أميركا وغانا بالقلق من أن المسلحين يضعون أعينهم على غانا، وهي قوة اقتصادية وسياسية إقليمية تضم عدداً كبيراً من المسلمين في شمالها الفقير نسبياً.
لماذا النيجر؟
وبينما أدى العنف في مالي وبوركينا فاسو إلى انقلابات عسكرية وتغير التحالفات بعيداً من الدول الغربية وباتجاه روسيا، تمكنت النيجر من الانتقال الديمقراطي للسلطة في عام 2021، وحافظت على علاقات سلسة مع الغرب عكسها بلينكن، في مارس الماضي، إذ كانت أول زيارة لوزير خارجية أميركي إلى النيجر مقدماً 150 مليون دولار مساعدات إنسانية جديدة لمنطقة الساحل الأفريقي عززت تقديم واشنطن 101 مليون دولار مساعدات ثنائية للنيجر في السنة المالية 2022، بما في ذلك مساعدات للأمن الغذائي والديمقراطية والحوكمة والأمن، إضافة إلى 135.4 مليون دولار من المساعدات الإنسانية الثنائية في العام نفسه.
ومن غير الواضح مقدار ما قدمته الولايات المتحدة للمساعدة الأمنية للنيجر، لكن السفارة الأميركية في نيامي قالت، عام 2021، إن "البنتاغون" ووزارة الخارجية زودتا النيجر بأكثر من 500 مليون دولار من المعدات والتدريب منذ عام 2012، فيما وصفه دبلوماسيون أميركيون بأنه محاولة لإظهار فوائد اختيار الولايات المتحدة على اختيار "فاغنر".
وخلال قمة القادة الأفارقة التي عقدت في واشنطن، منح الرئيس بايدن رئيس النيجر محمد بازوم مقعداً شرفياً إلى جانبه في القمة تأكيداً للعلاقة الممتدة منذ استقلال النيجر عام 1960، وانتقالها إلى الديمقراطية خلال ثلاث دورات انتخابية أخيرة، بما يتماشى مع رؤية الولايات المتحدة لدعم النظم الديمقراطية والتعاون معها في مختلف المجالات.