أحمد سيف حاشد
هناك شعوب تفضّل وجبة لحوم الكلاب، وشعوب تشتهي لحوم الخنازير، فيما شعوب أخرى ربما تحبّذ وجبة الضفادع أو الفئران أو الخفافيش.. ومثله يقال في التعدد والاختلاف حيال ما نشربه ونفضله، وكم مثل هذا وذاك من كثرة وأمثلة..!!
شعوب تخالف أذواق شعوب أخرى مأكلاً ومشرباً؛ فما تعافه شعوب، ربما تستعذبه وتشتهيه أخرى، وما هو مجرّماً ومحرّماً لدى شعوب، نجده مباحاً ومفضلاً لدى شعوب أخرى، وربما تم تكريس ما تشتهيه عرفاً وديناً، فما هو حلال في دين نجده محرماً ومجرماً في دين آخر، فيما الرب واحد، ولكن الرسالات متعددة.
هناك شعوب تشرب الخمر وتستمتع به، وأخرى تجرّمه وتحرّمه.. شعوب تزرع القات وتتعاطاه وتعاقره كل يوم ساعات طوال، وشعوب أخرى تجرّمه وتمنعه بسبب عناصر مكوّنه، فتدخله في صنوف المخدّرات، وتبرهن ما تذهب إليه بالعلم، وتثبته في أرقى المخابر، وتُوقع على متعاطيه ومهربيه عقوبات صارمة ومغلّظة.
ربما تجد نفسك تأكل وتشرب ما يعافه غيرك.. بعضهم يعاف القات ويمقته، وبعضهم يفضّل عنه التبغ أو السجائر، وآخرون لا يطيب كيفهم إلا إذا تعاطى من هذا وذاك.
بعض الجماعات تتاجر بالحشيش ولا تتعاطاه، وبعض قوانين الدول تجيز تعاطي الحشيش وتمنع الإتجار به، وبعضها تجيز تعاطيه والإتجار به.
لا بأس وقد علمت كل ذلك أن تهوّن على نفسك إن رأيت شخصاً يتعاطى القات ويشرب معه المانجو والحليب ليجعل القات مستساغا أو أقل مرارة، حتى وإن بدا لك أنت "مولعي" القات ولأول وهلة مستفزاً لك، أو مُستحيلاً وغير مسبوق، أو يدعو للفكاهة، ويثير الضحك والتندر؛ فإذا فكرت بتعاطي القات مع المانجو فجرّبه، فربما تفضّله أو تكيِّف أو تتكيف معه فالأصل يبقى على الإباحة.
اكتشاف مفعول القات نفسه مثل اكتشاف المغناطيس جاءا بمحض صدفة. وتتلخص القصة براعي أغنام في بلاد الحبشة الذي أكتشف مفعول القات حالما كان يرى ويتأمل أغنامه كل يوم، وهي تقتات القات وتستجره، ثم تغرق بكيف عميق، واستمتاع بالغ، وتبدي تصرفات عجيبة ولافتة، والقات مع المانجو اكتشفناه أيضاً بمحض صدفة.. لابأس هنا أن تبتسم قليلا على المثال مع الفارق.
***
اتجهنا للمقيل عند الأستاذ القدير المحامي أحمد علي الوادعي، والذي فقد اليوم ذاكرته ربما حتى لا يموت كمداً في واقع لم نكن نتخيله.. كان بمعيتي القاضي عبدالوهاب قطران، والمحامي نجيب الحاج، ومروان الحاج، وأظن حضر ذلك المقيل القاضي أحمد الخبي، والأخ نبيل الحسام.. توقفنا أمام البقالة القريبة من المكان، وطلبنا من مروان أن ينزل من السيارة التي تقلنا، ليشتري لنا ماء، وعلبتين "راوخ عنب"، وعاجلناه كي لا يتأخر، فيما كانت بوابة البقالة مكتظة بالزبائن.
طلب مروان من ابن صاحب البقالة الذي كان يساعد والده في البيع ـ وهو ما زال حديث سن ـ ماء و"راوخ عنب"، غير أن الولد الصغير جلب "راوخ مانجو"، وحشاها في الكيس تحت قناني الماء.. وعاد مروان بنصف الطلب، ونصفه الآخر على غير ما طلبنا، ولم نتبين ذلك إلا في غمرة المقيل.
بدأتُ بتناول القات، وفتحت علبة "راوخ" دون تبين أو شعور، ورشفت منها، دون أن أعي أن ما أشربه مع القات هو "مانجو".. كنت مندمج بالحديث و "الفرفشة"، وكلما أوغلت في المقيل، بدأت أكثر كيفاً وروقاً في حضرة محامينا الجليل والمحترم أحمد علي الوادعي.. كان الحديث متدفقاً وشيقاً، وفيه ما يشد اهتمام الجميع.. نضحك وننكت وننتقل من حديث إلى آخر كالنحل التي تنتقل من زهرة إلى أخرى لترشف رحيق الزهور ونجني منها العسل.. كنت مستمتعاً أيضاً بشرب المانجو "راوخ" مع القات، دون أن أعرف حقيقة ما أشربه، فيما صارت مرارة القات المقذعة تستدعي مزيداً من الرشف والتذوّق.
لم ينتبه الجميع لما حدث، غير أن القاضي عبدالوهاب قطران لاحظ استمتاعي بما أشرب؛ فأخذ العلبة الأخرى من أمامي، وفتحها ورشف منها؛ ثم قال في وجه الجميع:
- أيش هذا يا خبرة .. مانجو مع القات.
قالها؛ وهو يقرأ ما هو مكتوب بالخط العريض على العلبة "مانجو"، فيما مروان يبرر ماحدث بمعاجلتنا له، وألقى اللوم على ابن البائع الذي أتهمه بالغباء.. ضحك الجميع، فيما وضع القاضي قطران العلبة على طاولته بعد رشفة واحدة، بدأ لي إنها لم تعجبه، وما يناسبني لا يناسبه، وأن طبائعنا في هكذا أمور متصادمة.
قلت لنفسي: سأستعيد علبة المانجو الثانية من أمام قطران بمجرد أن أنتهي من آخر قطرة من العلبة الأولى، فيما لازال وقت القيلة طويل. لقد راق لي "مانجو راوخ" مع القات. وفي أوج المقيل، وعندما شاهدني قطران رائق ومستمتع، بدأ هو ومن غير إعلان بشرب المانجو من العلبة التي كان قد عبّر عن امتعاضه حيالها من الرشفة الأولى.
وفيما أنا مستمتعاً بالقات والمانجو مع الحليب ومع حديث كان أكثر من جاذب وشيِّق، كان صديقي قطران قد أفرغ علبة "المانجو راوح" من محتواها، برشفات متعاقبة لم يفصلها عن بعضها غير قليل من الوقت.. لقد احتساها كاملة مع القات في وقت وجيز، فيما أنا في غفلة منه، وقبل أن أناصف علبتي، تفاجأت بعلبة المانجو الأخرى قد صارت فارغة ومرمية في السلة التي أمامه.
- قلت له باستغراب واندهاش: شربتها !!
- قال: شفتك منسجم ومستمتع وأنت تشربها مع القات، ففعلت مثلك..
وقهقه الجميع.
تذكرتُ ذلك الرجل الطيب الذي أدلى لي بقصته يوماً عندما دخل إلى بار على الطريق وهو مسافر من عدن إلى قريته مع صحبته الذين تعاطوا ذلك "الممنوع"، ويومها كان الممنوع مباحاً، فاستحضر صاحبنا المثل: "إذا دخلتَ مع العوران أعور عينك"، وشرب مما يشربون بطيب خاطر وامتنان.
استمررتُ بعدها لفترة بمشروبي المفضل مع القات (مانجو راوخ) وسط امتعاض ودهشة بعض من أقضي قيلتي معهم، إن كان في مقيلي أو مقيل بعض الأصدقاء، بل وأحيانا أفعلها في مقايل الغرباء بدم بارد وأعصاب هادئة.
كثيرون هم الذين يبدون اندهاشهم غير مصدقين ما أفعله.. بعضهم لا يستطيعون كبت أو منع أسئلتهم الوثابة أو التي تتدفق باستغراب واندهاش.. قات ومانجو مع الحليب مرة واحدة .. بدأتُ أمام البعض أشبه بمن يجمع بين عسرين، قات لا أجيد تعاطيه كما يجب، ومانجو مع القات لا جامع بينهما ولا صلة.
حاولت أن أقنع البعض إن يجربوا ما أفعله، وأغريهم برواق المزاج والكيف من الرشفة الأولى التي يمكنها أن تستدرجهم ليصلون إلى آخر قطرة منه.
بعد مدة شاهدتُ بعض أصدقائي يخزنون مع المانجو، وأحيانا أشتري أنا المانجو، وهم يستحسنونه مع القات، بل وجدت القاضي قطران والقاضي الخبي مخزنين قات ويحتسون معه المانجو الطازج، قفشتهم وهم يفعلون ذلك، وبديت أكثر اندهاشا مما أراه، فيما كان القاضي الخبي يضحك ويعقب مازحا بالقول: نحن على مذهب "قائدنا".