على مدى قرون، أنتجت تايلاند أقمشة حريرية فاخرة، وصدّرتها إلى مختلف أنحاء العالم.
لكن وجد الباحثون بمجال الطب الحيوي في جامعة شولالونغكورن ببانكوك استخدامًا آخر للألياف: من خلال توصيل الأدوية إلى الجسم.
وتأتي أنظمة توصيل الأدوية في أشكال عديدة، من الكبسولات والأقراص التي تؤخذ عبر الفم، إلى لصقات الجلد، والمراهم، وأنواع مختلفة من الحقن.
وأشارت جوثاماس راتانافارابورن، مديرة مركز أبحاث الهندسة الطبية الحيوية في جامعة شولالونغكورن، إلى أنه يمكن استخدام فيبروين الحرير، أحد البروتينات الطبيعية التي تمنح الحرير قوته المذهلة، لتغليف دواء على نحو يشبه الكيس، ما قد يستغرق وقتًا أطول بكثير للتحلل مقارنة بالبروتينات الطبيعية الأخرى مثل الجيلاتين أو الكيتوزان، ويسمح بإطلاق الدواء ببطء في الجسم.
وأوضحت راتانافارابورن: "عوض الحاجة إلى جرعات كبيرة أو متكررة، يمكن لكبسولة البروتين إطلاق الدواء تدريجيًا، بالكميات المناسبة التي يحتاجها الجسم. يساعد هذا الإطلاق المتحكم فيه على تقليل الجرعة الإجمالية، وخطر الآثار الجانبية".
قامت راتانافارابورن، التي تدرس الحرير منذ أكثر من 17 عامًا، بتأسيس شركة في عام 2021، مع أستاذين آخرين من فريق البحث. تقوم شركتهم الناشئة، "EngineLife"، بتسويق أبحاثهم، وأخذت منتجها الأول، وهو علاج للأرق يتم توصيله من خلال رقعة توضع على الجلد، وافقت عليها إدارة الغذاء والدواء التايلاندية، إلى السوق في وقت سابق من هذا العام.
"التغييرات في عالم المواد"
لقد كان الفيبروين الحريري موضوع اهتمام العلماء لأكثر من قرن من الزمن، وقد خضع للدراسة على نطاق واسع لصالح التطبيقات الطبية الحيوية.
يقول ياجون شواي، الباحث بمعهد أبحاث الموارد الحيوية التطبيقية في جامعة تشجيانغ بالصين، غير المشارك في عمل راتانافارابورن، إن الفيبروين الحريري متوافق حيويًا (غير ضار بأنسجة الجسم)، ومستدام، وفعّال من حيث التكلفة، ولديه ميزات كثيرة تجعله أفضل من المواد المستخدمة حاليًا كحاملات للأدوية، الطبيعية والاصطناعية.
ولفت شواي إلى أنّ الفيبروين الحريري يُنتج بواسطة"طرق بسيطة وآمنة"، ومن غير المرجح أن ينتج آثارًا جانبية سلبية مقارنة بالبروتينات الطبيعية الأخرى، أو أنظمة توصيل الأدوية الاصطناعية.
تتلخص العديد من مزايا الفيبروين الحريري مقارنة بالبوليمرات الطبيعية الأخرى، في بنيته: فهو يحتوي على "طبقة بيتا" قوية ومستقرة تسمح له العمل بطرق لا تستطيع البروتينات الأخرى القيام بها، مثل الإطلاق البطيء للأدوية، والقوة والمرونة، بحسب ما ذكرته مينجيينغ يانغ، الباحثة أيضًا بالموارد البيولوجية في جامعة تشجيانغ.
وأضاف شواي أن "العديد من حاملات الأدوية تشبه العدائين، أي أنها سريعة لكنها قصيرة العمر. الفيبروين الحريري أشبه بعداء الماراثون، ولديه القدرة لدعم إطلاق الدواء على المدى الطويل".
تصف يانغ ألياف الحرير بأنها "حرباء عالم المواد"، موضحًة أن قوتها ومرونتها تمنحها مجموعة ضخمة من الاستخدامات في الطب، في حين توفر سلامة واستدامة أفضل من المواد الأخرى.
وقال شواي: "معدل تحلل ألياف الحرير يشبه المفتاح، يمكننا تعديله كي يتناسب مع احتياجات الدواء، لفترة تتراوح بين أيام وأشهر. من الصعب العثور على هذا المستوى من التحكم في حاملات الأدوية الأخرى".
موافقة إدارة الغذاء والدواء
وافقت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية على استخدام خيوط الحرير منذ أكثر من عقدين من الزمان، لكن لم تتم الموافقة إلا على عدد قليل من التطبيقات الطبية الأخرى القائمة على الحرير منذ ذلك الحين، ضمنًا SilkBridge، وهو موصل عصبي، وغرسة SilkVoice، القابلة للحقن لمساعدة الحبال الصوتية.
أحد التحديات الرئيسية تنوع الحرير
في تايلاند، يتم إنتاج غالبية الحرير من ديدان القز في مزارع صغيرة تديرها عائلات بالمناطق الريفية. لكن التغيرات في المواسم، والمناخ، والأعلاف، يمكن أن تسبب اختلافات طفيفة في الشرنقة.
هذه ليست مشكلة كبيرة لإنتاج أقمشة الحرير، لكن عندما يتعلق الأمر بالطب، فإن الاتساق هو المفتاح، بحسب ما ذكره تشوانبين ماو، أستاذ الهندسة الطبية الحيوية في الجامعة الصينية في هونغ كونغ.
وأوضح ماو: "تحتاج إلى الحصول على منتج عالي النقاء للتطبيقات الطبية الحقيقية"، مسلطًا الضوء على مشكلة لم يتم حلها بعد على نطاق واسع، مضيفًا أن صنع "منتجات قابلة للتكرار" متطابقة من دفعة إلى أخرى يمثل تحديًا كبيرًا.
هذه مشكلة تحاول "EngineLife" معالجتها، بحسب ما ذكرته راتانافارابورن حيث يمكن حتى للاختلافات الصغيرة في التغذية والمناخ أن تغيّر الوزن الجزيئي لبروتين الحرير، مما يغير بدوره معدل التحلل وتوقيتات توصيل الدواء.
لمحاولة توحيد جودة ألياف الحرير، بدأت شركة إنجين لايف في تجربة عمليات وتقنيات زراعية مختلفة، منها التربة المستخدمة في زراعة أوراق التوت التي تأكلها ديدان القز. وقد طبقت الشركة الآن معايير صارمة، بما في ذلك المرافق المخصصة لتربية ديدان القز والتي تتحكم في درجة الحرارة، والرطوبة، لخلق بيئة مستقرة على مدار العام.
وأوضحت راتانافارابورن: "نحن بحاجة إلى التأكد من أنّ عملية إنتاج الحرير مستقرة قدر الإمكان ومتسقة في كل دفعة".
يعد الحصول على الموافقة التنظيمية حاجزًا آخر أمام طرح ابتكارات جديدة مثل هذه في السوق. وقالت راتانافارابورن: "يتعين على إنجين لايف تسجيل منتجاتها تحت فئات مختلفة لدى إدارة الغذاء والدواء في تايلاند، اعتمادًا على الدواء وطريقة التسليم"، مضيفة: "هذه هي الخطوة الأكثر صعوبة بالنسبة لنا، وتستهلك قدرًا هائلاً من الميزانية والوقت".
بطيء وثابت
في الوقت الحالي، تنتج مزرعة EngineLife حوالي 25-30 كيلوغرامًا من شرانق الحرير سنويًا، التي يمكن أن تنتج مليون جرعة من محلول الفيبروين الحريري الطبي. مع ذلك، أشارت راتانافارابورن إلى أن مصنعها التجريبي، حيث يتم استخراج الفيبروين، لديه القدرة القصوى لإنتاج 30 ألف جرعة من محلول الفيبروين الحريري الطبي، لذلك لا يزال هناك عمل للقيام به قبل مشروع التوسّع.
في غضون ذلك، تواصل الشركة تطوير علاجات جديدة.
ولفتت راتانافارابورن إلى أنّ بحثها يركز حاليًا على تطبيقين: اللصقات الجلدية، حيث يتم توصيل الأدوية خارجيًا من خلال رقعة صغيرة على الجلد، والهيدروجيل المصنوع باستخدام الفيبروين الحريري، الذي يمكن حقنه.
بدأت الشركة في بيع رقعة "سيلك فيبروين سي بي دي" لعلاج الأرق بتايلاند في وقت سابق من هذا العام. وتعتقد راتانافارابورن أنها أول منتج في السوق يستخدم حويصلات "سيلك فيبروين" لتوصيل الدواء.
الآن، يعمل الفريق على منتجه التالي: هيدروجيل قابل للحقن لهشاشة العظام، وهو نوع من أمراض المفاصل. حاليًا، يُعطى المرضى عادةً حقنة في الركبة يمكن أن تخفف الألم لفترة زمنية متغيرة، من أسبوع واحد إلى بضعة أشهر. خلال بحثها، وجدت راتانافارابورن أن مادة "سيلك فيبروين" يمكن أن تبقى في الجسم لمدة تصل إلى ستة أشهر، مما يسمح بإطلاق الدواء ببطء وتقليل عدد الحقن.
وقالت راتانافارابورن: "بالنسبة للعديد من الأمراض والحالات، لا نحتاج إلى حقنة واحدة تشفي كل شيء. بل نحتاج بدلاً من ذلك إلى إطلاق مطول ومستدام للدواء".
تأمل راتانافارابورن أن ترى استخدام فيبروين الحرير في العديد من أنظمة توصيل الأدوية الأخرى لمساعدة المرضى في تايلاند وحول العالم، وبالتالي منح مزارعي الحرير التايلانديين مصدر دخل آخر.
وأكدّت: "الحرير يتمتع بقيمة عالية بالفعل كنسيج، لكننا الآن نضعه في مادة طبية، ما يزيد من قيمته عشرة أضعاف على الأقل".