أشعل حزب الله جبهة جنوب لبنان في إطار "الدعم والإسناد" لحركة حماس في حرب غزة، مما أدى إلى وقوع خسائر بشرية ومادية على جانبي الحدود اللبنانية، لاسيما مع تصاعد التوترات العسكرية بين الحزب وقوات الاحتلال الإسرائيلي.
وانخرط حزب الله وإسرائيل منذ الثامن من أكتوبر بتبادل شبه يومي للهجمات الصاروخية وإطلاق الطائرات المسيّرة، وسط مخاوف من تطور الصراع بينهما إلى حرب شاملة.
هذه التطورات فاقمت الوضع في لبنان، الذي يعاني منذ حوالي 5 سنوات من أزمة اقتصادية خانقة. فقد أدت "جبهة الإسناد" إلى دخول البلاد في دوامة جديدة من الأزمات، شملت القصف والدمار والنزوح والمعاناة الإنسانية، وسط تصاعد التوترات السياسية والانقسامات الداخلية، وزيادة الضغط على الحكومة اللبنانية التي تواجه تحديات كبيرة في محاولة معالجة الوضع المتدهور.
خسائر بشرية
"رغم تصاعد الخسائر التي يتكبدها لبنان نتيجة فتح جبهة الإسناد لدعم غزة، إلا أن هذه الجبهة لم تحقق أي مكاسب ملموسة لغزة ولم تُلحق ضرراً بإسرائيل"، وفقاً لما يؤكده المحلل العسكري والاستراتيجي اللبناني، العميد المتقاعد يعرب صخر.
ويشدد صخر في حديث لموقع "الحرة" إلى أن "لبنان المتضرر الأول في هذه المعركة، إذ تحوّل إلى منصة لإطلاق صواريخ حزب الله، مما جعل الشعب اللبناني وقوداً لهذه الصواريخ، بينما تتحول أركان السلطة اللبنانية إلى أسلحة استراتيجية بيد الحزب، باختصار لبنان بأسره يعاني من تداعيات فتح هذه الجبهة."
ويؤكد أن حزب الله تكبد خسائر جسيمة، إذ "قتل نحو 500 عنصر منه، بينهم قياديون من الصف الأول والثاني والثالث، دون تحقيق أي نصر يُذكر."
من جانبه، يلفت العميد المتقاعد والخبير العسكري اللبناني، ناجي ملاعب، إلى تصاعد الخسائر البشرية والمادية التي يتكبدها لبنان. ويشدد في حديث لموقع "الحرة" على أن حجم "هذه الخسائر لا يمكن إحصاؤه بشكل كامل ما دامت الحرب مستمرة".
ووفقاً لإحصاءات وزارة الصحة، سجل منذ الثامن من أكتوبر حتى العشرين من الشهر الحالي، 2412 إصابة، منها 564 قتيلا معظمهم من مسلحي حزب الله، أما عدد النازحين، فقد بلغ 110,099 شخصاً.
وفي تصريح اعلامي، قال رئيس مجلس الجنوب هاشم حيدر أمس الاثنين، إن الخسائر البشرية الحالية بلغت 619 قتيلاً، منهم 558 لبنانيين و61 من غير اللبنانيين، بالإضافة إلى نحو ألفي جريح.
خسائر مباشرة
تخلّف الحروب نوعين من الخسائر المادية: مباشرة وغير مباشرة، وفقاً للصحفي الاقتصادي اللبناني، خالد أبو شقرا، و"تتمثل الخسائر المباشرة في تدمير المنازل، إغلاق المؤسسات، تضرر الزراعة، والنزوح، وهي تقدر بنحو 8 مليارات دولار".
ويشير أبو شقرا، في حديث لموقع "الحرة"، إلى تصريح رئيس مجلس الجنوب هاشم حيدر، الذي أكد خلاله أن "الأضرار شملت حتى أمس الاثنين تدمير حوالي 4 آلاف منزل بالكامل وتضرر نحو 20 ألف منزل آخر بشكل كبير، مع الإشارة إلى أن جزءاً كبيراً منها قد يحتاج إلى هدم إذا لم تكن صالحة للسكن، في حين تضرر 25 ألف منزل بشكل طفيف".
وبيّن حيدر أن الأضرار الناتجة عن الحرب الحالية تتراوح بين 40 و50% من الأضرار التي شهدتها حرب يوليو 2006، معبراً عن قلقه من تفاقم الوضع إذا استمر هذا الواقع.
وفي هذا السياق، يوضح صخر أن "عشرات القرى والبلدات في الجنوب اللبناني، بعمق يتراوح بين 5 و10 كيلومترات، باتت مناطق مدمرة ومهجورة تشبه غزة، وسكانها يعانون من النزوح الداخلي والخارجي".
كما يشير ملاعب إلى التدمير الذي طال مناطق جنوبية "تمتد على مسافة لا تقل عن 8 كيلومترات، وهي المناطق التي طالبت إسرائيل حزب الله بالانسحاب منها لتحويلها إلى منطقة معزولة"، مضيفاً أن إسرائيل "استهدفت بعض المنازل بحجة استخدامها من قبل حزب الله، مما أدى إلى تدمير شبه كامل لبعض القرى الجنوبية".
ويلفت ملاعب إلى أن إسرائيل "بدأت في استخدام قذائف اختراقية وفراغية في عملياتها العسكرية"، مشيراً إلى أن إحدى غارات "إف-16" على منطقة كفركلا دمرت أربعة أبنية بشكل كامل، وكان صوت الارتجاج الناتج عنها مسموعاً في كل منطقة الجنوب وصولاً إلى صيدا، وقد امتد استخدام هذا النوع من الأسلحة إلى مناطق في البقاع".
وعلى الصعيد الزراعي، يوضح أبو شقرا أن "الزراعة في الجنوب، التي تشكل حوالي 20% من إجمالي الإنتاج الزراعي في لبنان، تعاني من خسائر فادحة نتيجة المعارك الدائرة. فقد تسببت الحرائق في أضرار جسيمة طالت حوالي 20 مليون متر مربع من المساحات الزراعية، خاصة في أحراج الزيتون والأشجار المثمرة. كما تضررت زراعة التبغ والقمح، إلى جانب تدمير قفران النحل وبعض مزارع الحيوانات والدواجن".
ويتطرق ملاعب أيضاً إلى الخسائر الزراعية، مشيراً إلى أن "مساحات كبيرة من الأراضي أصبحت غير صالحة للزراعة نتيجة القصف بقذائف الفوسفور عدا عن خسائر لبنان لمساحات واسعة من أحراجه التي ابتلعتها النيران".
خسائر غير مباشرة
وفيما يخص الخسائر غير المباشرة، يشير أبو شقرا إلى أن " القطاع السياحي في لبنان يعاني من خسائر فادحة بلغت حتى الآن نحو 3 مليارات دولار" موضحاً أن تقديرات نقابات السياحة وأصحاب الفنادق والمطاعم تشير إلى "تراجع عائدات القطاع بنسبة 50% مقارنة بالعام الماضي، حيث حقق حينها عائدات بقيمة 6 مليارات دولار".
وفي سياق متصل، يلفت ملاعب إلى أن لبنان كان "يعوّل على القطاع السياحي لتعويض جزء من خسائره الناتجة عن الأزمة الاقتصادية، غير أن السياحة شهدت تراجعاً كبيراً، واقتصرت الزيارات على المغتربين اللبنانيين الذين أمضوا فترات قصيرة في بلدهم".
وفي حين أن قطاع الطيران لم يسجل تراجعاً كبيراً مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، مع استمرار قدوم المغتربين إلى لبنان، كما يشير أبو شقرا، إلا أن "قطاع تأجير السيارات شهد تراجعاً ملحوظاً، إذ لم يتمكن سوى من تأجير نصف أسطوله المكوّن من 8 آلاف سيارة".
ويشدد أبو شقرا على أن "صندوق النقد العربي أكد أن كل زيادة بنسبة 1% في الإيرادات السياحية يمكن أن تزيد الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.36%، ما يعني حرمان لبنان من فرصة زيادة ناتجه المحلي الإجمالي الذي لا يتجاوز حالياً 20 مليار دولار".
يذكر أنه في ظل الأوضاع المتوترة، قطع العديد من المغتربين اللبنانيين والسياح الأجانب إجازاتهم وعادوا إلى بلدانهم، كما دعت عدة دول رعاياها إلى مغادرة لبنان، واتخذت شركات طيران وطنية وعربية وأجنبية قرار تعديل جدول رحلاتها أو تعليقها إلى بيروت.
كما خسر لبنان "الفرصة البديلة" وفقاً لما يقوله أبو شقرا، "إذ كان من الممكن أن يحقق نمواً اقتصادياً لو لم تُفتح جبهة الجنوب"، مشيراً كذلك إلى أن تراجع الاستثمارات يعد من الخسائر غير المباشرة.
إضافة إلى ذلك، شهدت تكلفة الشحن إلى لبنان ومنه ارتفاعاً كبيراً، ويقول أبو شقرا "ارتفعت أسعار الاستيراد والتصدير بنسبة 15% ويعود ذلك إلى اضطرار السفن القادمة من شرق آسيا للالتفاف حول أفريقيا للوصول إلى البحر المتوسط، بدلاً من عبور البحر الأحمر وقناة السويس، وفي الوقت ذاته، تصاعدت تكلفة النقل البري وزادت العراقيل أمام عمليات الاستيراد والتصدير عبر سوريا".
اختلال ميزان الردع
عسكرياً، تتمثل الخسارة الكبرى لحزب الله، وفق ما يقوله صخر "في تراجع أمين عام حزب الله حسن نصر الله عن تهديداته السابقة، حيث كان قد أعلن أن أي هجوم على الضاحية الجنوبية سيتبعه هجوم على حيفا أو تل أبيب. ولكن رغم تعرض الضاحية للقصف الإسرائيلي مرتين، لم يجرؤ حسن نصر الله على تنفيذ تهديده."
وفي هذا السياق، يوضح صخر أن "إسرائيل توسعت في ضرباتها لتشمل العمق اللبناني وصولاً إلى بعلبك والهرمل، متجاوزة مسافة 120 كيلومتراً"، مشدداً على أن إسرائيل "استهدفت البقع اللوجستية الخلفية والوسطية والمتقدمة لحزب الله."
وفي إطار قصف البقع الخلفية، يشرح صخر أن إسرائيل "تستهدف إضافة إلى بعلبك والهرمل، مناطق في سوريا مثل حمص وحلب وحماة ودمشق، بما في ذلك المطارات، بهدف تدمير مخازن وخطوط الإمداد اللوجستية لحزب الله. وبالنسبة للبقع الوسطية، يمكن الإشارة إلى قصف إسرائيل للنبطية، وكذلك تقصف البقع المتقدمة مثل بنت جبيل. كل ذلك في وقت يقف فيه حزب الله عاجزاً عن الرد بما يتجاوز عمق 15 كيلومتراً، معتمداً على صواريخ كاتيوشا وغراد التي تعود إلى حقبة الحرب العالمية الثانية".
وفيما يتعلق برد حزب الله على مقتل القيادي فؤاد شكر، يشير صخر إلى أن "نصر الله كان يهدف من خلال ذلك إلى استعادة توازن الردع، وقد كان متوقعاً أن يشمل رده إطلاق آلاف الصواريخ لكنه لم يتمكن من إطلاق سوى 340 صاروخاً، معظمها انفجر في الجو أو سقط في مناطق خالية".
الهدف الأساسي لنصر الله كان استعادة "توازن الردع"، ولكن كما يقول صخر "هذا التوازن لم يتحقق، بل كشف عن الفجوة العميقة بين حزب الله وإسرائيل في ميزان الردع، وعدم قدرة الحزب على تجاوز الخط الأحمر الذي تضعه الولايات المتحدة لإيران، والتي تلزمه الأخيرة به".
الخاسر الأكبر
تطال تداعيات جبهة الجنوب المشهد السياسي في لبنان، وبحسب ملاعب فإن "فتح هذه الجبهة في وقت تعاني فيه البلاد من فراغ رئاسي وحكومة منتهية الصلاحية، دون استراتيجية اقتصادية أو أمنية، يعد أمراً خطيراً للغاية"، ويضيف أن "هذا الوضع عمّق الانقسام السياسي الموجود مسبقاً، وأدى إلى تدمير المؤسسات الرسمية، مع العلم أن إضعاف الدولة أخطر من الأزمة الاقتصادية أو الوضع العسكري القائم منذ أشهر".
وبشكل عام تعد الخسائر التي يتعرض لها لبنان نتيجة فتح جبهة الجنوب "فادحة"، كما يشير أبو شقرا، متسائلاً عن الجهة التي ستتعامل مع هذه الخسائر، ومؤكداً عدم قدرة الحكومة على تحمل هذا العبء، "خاصة في ظل عدم استعداد الجهات الخارجية لدعم لبنان عبر القنوات الرسمية، كما حدث بعد انفجار مرفأ بيروت عام 2020، حيث تم توجيه المساعدات عبر جمعيات المجتمع المدني بسبب انعدام الثقة بالمؤسسات الرسمية".
ويشرح: "لا يوجد رغبة دولية في إعادة إعمار لبنان بعد الحرب، مما يمثل تحدياً كبيراً للبلاد" ويشير إلى أن "مصير سعر صرف الليرة اللبنانية قد يكون مهدداً إذا قررت الدولة تقديم التعويضات بالعملة المحلية".
من جانبه، يشير صخر إلى أن "الإنجازات الميدانية هي العامل الحاسم في تحديد نتائج المفاوضات"، ويؤكد أن "المفاوضات حالياً تسير لصالح إسرائيل، مما يعني أنها المنتصرة وليس حزب الله أو المحور الذي ينتمي إليه"، ويشدد على أن "جبهة الإسناد لم تجلب سوى الخسائر والخيبات لحزب الله، ويبقى لبنان الخاسر الأكبر".
ورغم الآثار الكارثية التي خلفتها مشاركة لبنان في الصراعات الخارجية، يواصل أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، الإصرار على إبقاء جبهة جنوب لبنان مفتوحة حتى يتوقف إطلاق النار في غزة، بغض النظر عن التكلفة العسكرية والخسائر البشرية والمادية التي قد تنجم عن ذلك.