كل من يصل إلى السلطة في اليمن لم يعد يأبه بما كان يدعيه من بحث كديد عن العدالة والمساواة والمواطنة.. لم يعد يكترث بشيء اسمه حقوق وحريات ونضال مدني، وأكثر من هذا يضيق ذرعا بتلك الحقوق والحريات، ويصير أكثر من ينتهكها ويستبيحها ويعبث في بقاياها، بل ويتحوّل إلى مسخ مرعب وهمجي بكل ما تحمله الكلمة من دلالة ومعنى، وقد تبدل الحال عمّا كان يظهره ويدّعيه من نعومة ولين ومظلمة.
وتداهمك عاصفة من الأسئلة: هل كان يخفي عنّا كل هذه الدمامة والقبح خلال ما خلى من وقت كان عليه عصيبا وشديدا؟!! هل كان فقط يُخاتل ويتربص الفرصة لأن تأتيه ويصل إلى سدة الحكم ليقلب المجن، ويستفرد ويتوحش في وجه الجميع؟!! هل كان يغرر علينا ويتصنع المواقف الزائفة، ويظهر لنا ما لا يبطن، ويخفي عنّا حقيقته المرعبة؟! أم أن السلطة التي وصل إليها هي من أفسدته وجعلته بذلك الحد من التوحش والرعب والدمامة..؟!!
"السلطة مفسدة.. والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة" تلك العبارة الشهيرة للورد "أكتون" نعيشها اليوم هنا في الواقع بكل أثقالها ووبالها، وعلى نحو أكثر مأساوية.. وإذا كانت تلك العبارة قد قالها "أكتون" قبل مائة وخمسين سنة كما يقول "ماثيو سويف" بمناسبة رغبة بعض المتزلفين استصدار قانون يحمى البابوات، ويحصنهم لأنهم "لا يخطئون"، فنحن اليوم هنا نعيش بعضها بقانون، وجلّها بدون قانون، وعلى نحو أكثر اتساعا وانتشارا، وأحيانا بسادية بغيضة، وصلف بلا حدود.
لدينا لم يعد التحصين من المساءلة، أو المساءلة التي باتت عصية أو محل تعذر واستحالة تقتصر على رجال السلطة العليا، وكبار ضباط الأمن والمخابرات، بل تمتد إلى أصغر مسؤول ومشرف وضابط، بل وأحيانا حتّى من يحمل كنية "أبو فلان" بات محميا من قبل السلطة، أو محصنا بها وعلى نحو لم أكن أتخيله، وقد شهدتُ أكثر من تجربة مريرة لأناس عديدين في قضايا انتهاكات جريئة ومرعبة.. بتنا اليوم نرزح تحت وطأة سلطات الأمر الواقع بكل مسمياتها، وننسحق تحت جنازيرها الحديدية الثقيلة سواء هنا أو هناك.
صدق ابن خلدون حالما أخبرنا قبل أكثر من سبعمائة عام أن " الظلم مؤذن بخراب العمران" وها نحن قد بتنا نعيش الخراب والظلم كله.. دمّرنا تقريبا كل شيء بنيناه في الزمن القريب والزمن الغابر والتليد.. دمرنا الحاضر والماضي، وقبله دمرنا وشوهنا فينا الإنسان الذي ما كان علينا أن ندمّره.
من هنا مر بعض من قال: "أنا أو أنا" .. "أنا أو الفوضى".. "أنا أو الحرب".. "أنا ومن بعدي الطوفان".. "أنا ومن بعدي لا طلعت شمس".. من هنا مر رؤوسا وحكام يشبهون "نيرون" روما، والطاغية "كاليجولا" الأكثر جنوناً في التاريخ.. من هنا مر رئيس انتخبته وعاضدته الأحزاب، جلب وشرعن كل هذه الحرب المجنونة التي عشناها سبع سنوات طوال دون فسحة أو مهل أو أمل.. الجنون الذي لم تشهد له اليمن مثيل في تاريخها الطويل.
صدق الشاعر البردوني الذي قال عن اليمن:
بلادي من يَدَي طاغٍ
إلى أطغى إلى أجفى
ومن وحش إلى وحشين
وهي الناقة العجفا
فتمضي من دجى ضاف
إلى أدجى إلى أضفى